تصارع الشيطانُ والثائرون مع انطلاقِ ثوراتِ الربيع العربي، لكنَّ النصرَ كان من نصيب الثائر؛ فقد أمسك بقرني الشيطان ورماه أرضاً، وكان يستعد لكي يقضيَ عليه، لكنَّ فكرةً عبقريةً عند ذلك خطرت للشيطان، فسارع بالقول بنفَسٍ متقطعٍ لِمَ تريد قتلي؟ وبيدي أن أجعلك سعيدًا !! فأنت بقوتك تلك خير من يقود تلك الثورة، ولا ينقصك سوى المالِ لتقود الثائرين نحو النصر؛ فالمال يملأ البطون، ويزين العقول، ويلين النفوس…عندها ارتخت قبضةُ الثائر عن عنق الشيطان، ولانت عزيمتُه، وبدأ يستمع لإرشادات الشيطان الذي بدا أنَّه انحاز لصف المستضعفين. بعد سنوات عشر جلس الثائرُ على تلة مشرفةٍ على بحر متلاطم من الخيام، وفي يده بندقية، وخلفه جيشٌ من المقاتلين استدعاهم؛ ليوزع عليهم رواتبهم، فهذا أصبح كلَّ ما ينتظرونه بعد أن فقدوا إيمانَهم وتاهت أرواحُهم، عندها وُجِدَ الشيطان جالسًا، يتأمل بسعادة بؤس النازحين، وينظر للثائر بسخرية، ثم يخاطبه باستهزاء، ما رأيُك أن نتصارع الآن، لم يهتمَّ الثائرُ بالشيطان، بل أشاح عنه ناظريه، لكنَّ الشيطانَ لم يتركْه، بل قفز عليه، ورماه أرضًا، وكأنَّه يريد أن ينتقم لهزيمته قبل عشر سنوات، عندها انتفض الثائرُ؛ ليوقف عدوان الشيطان، لكنَّه أحسَّ بوهن شديدٍ وعجزٍ قاتلٍ أمام جبروت ذلك الشيطان، عندها سارع الشيطان الذي كان يمسك بحنجرة الثائر، وقد همَّ لينزعها، ليسألَ الثائر: أين قوتك وجبروتك الذي كنت تملكه قبل هذا؟ هل أضعته السنين أم شهوة السلطة؟ أجابه الثائر الذي كانت أنفاسُه تتقطع، وحشرجة الموت تتملكه، دعني وسأعطيك ما تريد، عندها أجابه الشيطانُ لم تعدْ تملك شيئًا له قيمة!! قال له: سأسلمُك مصيرَ ساكني هؤلاء الخيام، افعلْ بهم ما تريد، فأنا الآمر الناهي هنا، قال له: حسنًا، ولكن يجب أن تعطيني ضمانًا لهذا، فقال له: اطلب ما تريد، ولك ذلك، لكن دعني لم أعد أستطيع التنفس، قال له الشيطان: عليك أن تقتل كلَّ ثائرٍ شريف، أو تشوِّه سمعته، أو تجعله ينضم لنا …قال: لك ذلك، ولكن هذا لا يكفي، فعليك أن تسلمني أرواحهم، كما سلمت لي روحك من عشر سنوات! قال له: وكيف لي ذلك؟ قال له فلنبدأ من الآن، مُرْ جنودك كي يقطعوا الماء والطعام عن المخيمات، واقتل من يخالف أوامرك، وعندما يتملك الجوع واليأس النازحين المشردين، دعْ أصحاب اللحى الطويلة يدعوا الأطفال للقتال؛ كي ينتقموا لشرف أمهاتهم ولموت إخوانهم وأخواتهم عطشًا وجوعًا! ومن ثم أشعلِ الفتنَ بينهم، واشنقِ الشرفاء بحجة الخيانة……ولكن قبل ذلك وقِّع لي على صفقة فاوست حتى أضمن ألا تنكس بعد الآن!
لنترك صديقنا الثائر الآن يقرأ الألف صفحة التي رماها الشيطان في حجره، ولنقتبس تلك الكلمات من كتاب حلف مع الشيطان (A Pact with the devil ) للكاتب توني سميث Tony Smith الصادر عام 2006 والذي يتحدث فيه عن سعي واشنطن لسيادة العالم وخيانة الوعد الأمريكي، ومنه اقتبس الكلمات التالية:
“يحدث التحالف مع الشيطان إذا تنازلنا عن السيطرة على روحنا الخالدة لقوة شريرة في مقابل توقُّع تحقيق هدف نرغب فيه بقوة، ولا يمكن الحصول عليه إلا بهذا الاتفاق. أو بتعابير علمانية، أن نخاطر بالمزرعة سعيًا وراء السلطة وحيلها في خداع الذات ما يضعنا في الجانب الخطأ من التاريخ. لكن الطموح يثبت فشله الخاص، والتاريخ يعرقل الذين يحاولون وضعه تحت سيطرتهمَّ؛ فالخالق لا يمكن خداعُه. وبذلك تفوز حية حواء.
سواء أبرمت صفقة فاوست * لتحقيق ثروةٍ وشهرةٍ ذاتية أو من أجل خيرٍ عامٍّ صادق، ففي كلتا الحالتين، ما إن يحقق الذين يقومون بحسابات المراهنة هذه ما تتمناه قلوبهم، فإنَّهم قد يتفوقون بذكائهم على الشيطان. لكنَّ مقامرتهم تفشل دائما، ويفوز الشيطان بأرواح من يعقدون مثل هذه الأحلاف؛ لأنَّه يعرف أنَّه يستطيع الاعتماد على الله، أو على التاريخ، لمعاقبتهم على خطيئة التكبر.”
توني سميث يتحدث في كتابه عن نجاح الشيطانِ في إقناع المحافظين الجدد في الحزب الجمهوري والليبراليين الجدد في الحزب الديمقراطي على استخدام فائضِ القوة لكتابة التاريخ، لكن هل حديث توني سميث ينطبق على صديقنا الثائر؟ وهل فائضُ القوة يكفي لكتابة التاريخ والتحكم بالبشر؟ وهل العقد مع الشيطان يأتي مع دول أم مع جماعات أو أفراد؟…رأى آدم سميث بأنَّ التكبر يأتي قبل السقوط كما يقول المثل الإنكليزي (Pride comes before a fall) وهذا واضح في اقتباسه بالأعلى، لكن لنبحث نحن عن الإجابة الخاصة بنا، قبل أن يتورط صديقنا الثائرُ بوضع توقيعه على العقد الشيطاني! يبدو لنا أنَّ الأمرَ قرارٌ فردي في النهاية، مهما بلغت قوةُ الدول وجبروت الجماعات والأحزاب والأنظمة ومغريات عقد الشيطان وفوق ذلك الظروف القاهرة. لكن هل تشرَّب صديقُنا الثائر بفكرة روبن هود؛ فلجأ للكذب والسرقة والخيانة إذا عجز عن تعديل الكفة لصالحه؟ لنأخذ مثلا على ذلك قصة لوسيو أورتوبيا Lucio Urtubia.كان لوسيو أورتوبيا خيمينيز (1931-2020) لاسلطويا* إسبانيًا معروفًا بممارسته للأناركية من خلال التزوير وسرقة البنوك، حيث يمكن مقارنته مع روبن هود، نفذ لوسيا أورتوبيا عمليات سطو على البنوك وجرائم تزوير شيكات ودولارات في الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي. على حد تعبير ألبرت بواديلا Albert Boadella أحد المخرجين الإسبان “لوسيو هو دون كيشوت الذي لم يكن يقاتل ضد طواحين الهواء، بل كان يقاتل ضد عملاق حقيقي”.
في كتابه ثورةٌ على السطح (La revolución por el tejado) الذي صدر عام 2008 تحدث لوسيا أورتوبيا عن لقائه مع جيفارا، وكيف حاول أن يقنعَه بخطته كي يُفلس البنوك الأمريكية بطباعته عددًا هائلًا من الدولارات المزورة، وعندها أجابه جيفارا “أنً برغوثًا لا يمكن أن يقتل فيلًا”! بالنسبة لصديقنا الثائر تشكل قصةُ روبن هود حبلَ النجاة في صراعه مع قوى الشر، وهنا مدخل حية حواء “الشيطان” التي تمكنت من البشر إلا من رحم ربي! ربما لم يؤمن جيفارا بأنك تستطيع أن تقوض النظام الشرير من داخله؛ لذلك انسحب من سدة الحكم إلى الأدغال. النظام يتداعى من داخله هذا ما أراد آدم سميث إثباته في كتابه، أنَّ القوة في المبدأ، وليس في فائض القوة الاقتصادية والتقنية والعسكرية، أو في صفقة فاوست!
بينما يقرأ صديقُنا العقد الطويل ويتعب في وضع علامات الاستفهام حول بنوده التي تكاد لا تنتهي، ربما يظهر ثائرٌ آخر لا يحمل سمات النسخة الإسلامية والنسخة اللا-إسلامية من روبن هود، يؤمن بصناعة الحياة والنموذج انطلاقًا من الأرض والإنسان. اختتم القول بكلام اعجبني لزهير سالم:” على العالم المسلم إذا أراد أن يكون رائدًا لقومه أن يعلمهم الواقعية، ويعظهم بالعزم والحزم، لا يربيهم ليكون أيتام الموائد، ولا أغرار المجالس، ولا الملعوب بهم، المغرّر بهم؛ وأسوأ التغرير ما كان باسم الله…”
- الشخصية الرئيسةُ في الحكاية الألمانية الشعبية عن الخيميائي الألماني الدكتور يوهان جورج فاوست الذي يحقق نجاحًا كبيرًا، ولكنه غير راضٍ عن حياته فيُبرم عقدًا مع الشيطان يسلم إليه روحه في مقابل الحصول على المعرفة المطلقة وكافة الملذات الدنيوية.
- اللاسلطوية: وتُعرف أيضًا باسم الأناركية (وأحيانًا تترجم خَطَأً فوضوية) ويطلق على أتباعها اسم اللاسلطويين هي فلسفة سياسية ترفض التسلسلات الهرمية التي يرونها غير عادلة، فهي تعارض السلطة في تسيير العلاقات الإنسانية. ويدعو أنصار اللاسلطوية (اللاسلطويون) إلى مجتمعات من دون دولة مبنية على أساس جمعيات تطوعية غير هرمية.