شهدت مدينة إسطنبول في الثالث عشر من الشهر الجاري يوماً مروّعاً، تجسّد بتنفيذ عملية إرهابية استهدفت شارع الاستقلال الملاصق لساحة تقسيم، وهي البقعة التي غالباً ما تعجّ بالسواح والمغتربين، إذ أودت تلك العملية بستة أرواح وإصابة أكثر من ثمانين آخرين، وفقاً للمصادر الرسمية التركية التي نسبت العملية إلى حزب الاتحاد الديمقراطي ” PYD الجناح السوري لحزب العمال الكردستاني PKK “. ولم تتأخر تلك المصادر ذاتها عن نشر جميع حيثيات العملية المشار إليها بعد أن ألقت القبض على منفّذة العملية المدعوة “أحلام البشير” إضافة إلى شبكة ممن لهم صلة بالجريمة، وفقاً لوزير الداخلية التركي سليمان صويلو الذي توعّد الجهة التي تقف وراء العملية بردٍّ تركي حاسم.
ربما كان من الميسور جدّاً الوقوفُ على تداعيات تلك العملية الإرهابية على الشأن الداخلي التركي، إذ يمكن الإشارة أولاً إلى تأثير ما حدث على استحقاق هو الأكثر أهمية بالنسبة إلى حزب العدالة والتنمية الحاكم، وأعني انتخابات الرئاسة في شهر تموز المقبل، أضف إلى ذلك انعكاسها المباشر على الحالة الاقتصادية من جهة قطّاع السياحة، فضلاً عن تداعيات ما حصل أيضاً على التقارب الذي بدا مؤخراً بين الحزب الحاكم وحزب الشعوب الديمقراطي ذي التوجه القومي الكردي. ولئن كانت جميع هذه التداعيات تأتي في سياقها الطبيعي وضمن ما هو مُتوَقع، فإنّ ثمة معطيات أخرى تشير إلى أن المواجهة بين أنقرة وخصمها التقليدي “حزب العمال الكردستاني” لن تبقى في إطارها التركي الداخلي، بل ربما تركت آثارها الواضحة على السياسة الخارجية التركية حيال أهمّ دولتين تبسطان نفوذهما في المنطقة، وهما روسيا والولايات المتحدة الأمريكية.
لقد رفضت تركيا على لسان وزير داخليتها التعزية التي قدمتها واشنطن، وذلك في إشارة واضحة الدلالات على احتجاج أنقرة الشديد على الدعم والرعاية التي تقدمها الولايات المتحدة لحزب الاتحاد الديمقراطي. ربما لم يكن هذا الاحتجاج الأول الذي تبديه أنقرة، إلّا أن رفض التعزية هذه المرة قد يُخرِج نبرة العتاب التركية من طورها التقليدي إلى حيّز آخر قد تتحوّل ترجمته الفعلية من سياق الأعراف الدبلوماسية إلى الواقع الميداني. وفي هذا السياق، تبدو الإشارة ضرورية إلى أن تحالف واشنطن مع مشتقات حزب العمال الكردستاني في سورية كان المفصل الحاسم في العلاقات التركية الأمريكية منذ شهر أكتوبر عام 2015 ، وهو تاريخ تشكيل “قوات سورية الديمقراطية” برعاية وتنسيق من أمريكا، وعلى أعقاب هذا التنسيق بدأ الانزياح التركي عن العلاقة التقليدية مع الولايات المتحدة الأمريكية، واتجه نحو روسيا، إيذاناً ببداية مسيرة حافلة بالتوترات بين أنقرة وواشنطن، ولئن أبدت الإدارة الأمريكية رفضاً مطلقاً للعملية العسكرية التي لوّحت بها تركيا ضدّ قوات قسد منذ بداية الصيف الماضي وما تزال، بذريعة أنها ستتعهّد بضبط حليفتها قسد والحيلولة دون تشكيل أي خطر على الأمن القومي التركي، فإن عملية (تقسيم) الأخيرة قد تُفرغ الضمانات الأمريكية من أي محتوى من جهة، كما أنها ستمنح أنقرة كامل المشروعية بالتصدي للأخطار التي تواجه أمنها واستقرارها من جهة أخرى. وفي ضوء سخونة الموقف الراهن، هل ستقوم واشنطن بالبحث عن (جيمس جيفري) جديد صديق للأتراك كي يعمل على احتواء الموقف، أم ستعمد إلى خيار آخر في الدفاع عن أداتها التنفيذية ( قسد)؟
ما هو مؤكَّد، أن العملية العسكرية التي ما تزال تركيا تلوّح بها تجاه قسد في شمال شرق سورية لم تكن لتلاقي رفضاً أمريكياً فحسب، بل تزامن أيضاً مع رفض من جانب شركاء تركيا في محور أستانا، أعني روسيا وإيران، إلّا أن تركيا ربما كانت أكثر تفهّماً وتقبّلاً للرفض الروسي باعتباره قائماً على تبادل المصالح، ولئن أحجمت أنقرة عن القيام بعملية عسكرية على منطقتي (تل رفعت ومنبج) فإنها قد حصلت مقابل ذلك على ضوء أخضر باستهداف قيادات قسد من خلال الطائرات المسيّرة في عمق الأراضي السورية وكذلك شمالي العراق، كما حظيت بأن يبقى لها دور الوسيط بين روسيا وأوكرانيا (اقتصادياً وسياسياً)، فضلاً عن المصالح الاقتصادية والتجارية المتبادلة وخاصة في مجال الطاقة، وربما كان حجم المصالح بين روسيا وتركيا هو ما دفع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان لسماع نصائح بوتين فيما يخص تجريف قسد من الشريط الحدودي السوري التركي عن طريق التقارب أو التطبيع مع نظام الأسد بدلاً من العملية العسكرية. وعلى الرغم من اللقاءات الأمنية المتعددة بين دمشق وأنقرة، لكن الواضح أيضاً أن تلك اللقاءات- وإن تكن أتاحت للحكومة التركية سحب ورقة اللاجئين من أحزاب المعارضة التركية، في الوقت الراهن على الأقل – لم تمهّد حتى الآن لمدخل سياسي بين الطرفين، فضلاً عن قناعة أنقرة بعدم قدرة نظام دمشق على إبعاد قسد عن مناطق شرق سورية طالما استمرت واشنطن بحمايتها وتنسيقها مع قوات سورية الديمقراطية.
لعلّه من الصحيح أن ثمة تقاسمَ نفوذٍ بين كلٍّ من تركيا وروسيا وأمريكا على الجغرافية السورية، إلّا أنه من الصحيح أيضاً أن التخوم الفاصلة بين مواقع النفوذ هي تخوم قتالية، تتحدّد وفقاً لموازين القوى ولا تخضع لمبدأ معياري واضح وثابت، ومن هنا يمكن التساؤل عمّا يمكن لتركيا أن تقوم به بناءً على تهديد مسؤوليها بالردّ الحاسم والقوي. هل ستكتفي بتكثيف الطائرات المسيرة التي تستهدف قادة قسد وبعض المواقع العسكرية، أم أنّ العملية الإرهابية التي استهدفت شارع استقلال في إسطنبول هي التي ستحرر العملية العسكرية التركية من قيودها وعقالها؟
المصدر: الطريق