الحديث عن الأخلاق لا يعني تفريطاً بالمصالح إنما هو تعزيزٌ لأحقيتها وتمسّكٌ بإنسانية الإنسان وبأسباب سعادته. يمكن الجزم بأن المصلحة الحقيقية للفرد والمجتمع لا تتحقق دون الالتزام بالقيم والمبادئ السامية، ما يعني أنّ التخلّي عنها في السلوك والعمل لن يجلب المنافع، وسيودي ليس بالنتائج المنتظرة والمرجوّة فحسب، إنما أيضاً بالساعي وراءها وبالجنس البشري الذي ينتمي إليه.
يمكن للأخلاق أن تكون معياراً للتمييز بين السماويّ والأرضيّ، فالنصّ الدينيّ أخلاقيّ بالضرورة لصدوره عن إله مطلق في صفاته وهو أصل التكوين والخلق والتشريع، غير أنها ليست شرطاً فيما يصدر عن الإنسان من سلوك وقول أوعمل، فالقوانين والأنظمة الوضعيّة على سبيل المثال قد تكون في مجموعها أو في بعض بنودها بالضدّ من القيم والمبادئ الإنسانية والأخلاق المجرّدة، وقد تصدر خلافاً للتشريعات السماوية وللوصايا المشتركة للأديان. ما ينبغي التأكيد عليه أنّ بقاء الكون الإنساني رهن بالالتزام بالقيم والوصايا التي تشكل أساس الأخلاق وجذرها الوجوديّ.
لعلّ الحاجة إلى حياة رغيدة دفعت بالإنسان للبحث عن محددات وضوابط لبناء عالمٍ يسوده العدل والأمن والسلام، وقد كانت التعاليم السماويّة خير معين لاستلهام المبادئ والقيم الضامنة لسعادة الإنسان، فإذا أمعنّا النظر في المبادئ التي أرساها الدين الإسلاميّ سنجد ذلك التوازن الدقيق بين رغبات المرء ومتطلبات المجتمع، إذ إنّ سعي الفرد من موقعه للمساهمة في صون مجتمعه، وتلبية حاجاته المتنوعة وتقديم ما ينفعه سيعود ريعه إليه باعتباره جزءاً منه وبالتالي سينال حصته من المنافع جميعها، كذلك باقي الأفراد سيحصلون على حصصهم من بنك الخير العام الذي تمتلئ خزينته بجهود جميع الشركاء في عضوية المجتمع. من هنا يبدو العمل للصالح العام هو في حقيقته، من حيث النتيجة، عمل من أجل الذات.
لطالما كانت المصلحة أساساً ومحرّكاً لسلوك الإنسان وموقفه ونشاطه النظريّ والعمليّ، ولعلنا لانبالغ في وجوب توخي المصلحة قبل الشروع في عمل ما أو اتخاذ قرار في أيّ شأنٍ يخصّ حياتنا ووجودنا، بل إنّنا في محاولة فهمنا للنصّ الإلهي ذاته، بمعنى تفسيرنا لمنطوقه واستنباط أحكامه، ينبغي أن نتحرّى المصلحة الكامنة في متنه، وأن نجهد ما أمكننا للقبض على إرادة الشارع المفترضة والمقترنة حكماً بمصلحة العباد.
غالباً ما يقصد بالمصلحة تلك المنافع التي يجنيها المرء من تصرفاته وسلوكيّاته ومن قيامه بأعماله المختلفة، والتي تعود عليه بالفوائد كأن تقضي حاجة له وتلبّي رغبة ما لديه، أو أن تزيد في ثروته وتعظم من قوته وسلطته، أو أن تمنحه الشعور بالأمان والرضا والامتنان، باختصار أن ينعم بالسعادة. ذاك حلم الإنسان الأبديّ وهو ما يسعى إليه في سكونه وحركته وفي كلّ ما يفعله.
خوف الإنسان من الإنسان واعتباره خصماً هو أخطر ما يهدّد حاضر البشرية ومستقبلها، وهو ما يدعوه لصرف طاقاته وإمكاناته لدرء الشرّ المتمثل بالآخر عبر محاولة إضعافه واستعباده، وربما إفنائه والاستحواذ على مقدراته وأملاكه، فالأنانية تدفعه ليقدم مصلحته على مصالح غيره، بل إنّ المصلحة وفق رؤيته القاصرة تقتضي تعطيل مصالح خصومه أفراداً أو مجتمعات، والاستئثار بالمنافع واحتكار السعادة وسبلها. إنّه عين الوهم، بله الضلال الذي يقيل العقل ويعطل الحواس فتجنح بمركب الحياة إلى الغرق في لجة العدم.
كائناً ضعيفاً مذعوراً لا يملك غير صوتٍ مبهم وسيلةً يتيمة لاستجداء أسباب البقاء، هكذا يدلف الإنسان إلى رحابة الدنيا وصخبها، لا يتقن سوى البكاء سبيلاً للتعبير عن احتياجاته، وربما احتجاجه، سترتجف أطرافه مما يحدث حوله، وسيشعر بالخوف ويرغب بالعزلة، وستشتعل حواسه توقاً للعودة إلى رحم الأمّ حيث السلام والأمان ورغد العيش. لا شيء سيمنحه الطمأنينة والرغبة في الحياة والشجاعة لمواجهة عالمه الجديد سوى العائلة، وأولئك الناس الممتلئين إيماناً ومحبة ورغبةً في إسعاد من حولهم، الذين لا يرون الحياة ممكنة بدون الآخر الشريك في الحرية والمسؤولية، وبدون التنوّع والاختلاف.
المصدر: إشراق