رغم سنوات من تحسين السمعة الدولية لهيئة تحرير الشام، إلا أن استراتيجية الجولاني في شمال غرب سوريا كانت مدفوعة بالانتهازية وليس بالأيديولوجية.
في ظل التحوّلات والظروف المعقدة التي تعيشها سوريا، تتغيّر باستمرار مواقف معظم القوى المحلية والإقليمية والدولية، وهو ما أدى بدوره إلى تغيير المسار العام للبلاد مع بروز التحالفات والعداوات. مع تحول السيناريوهات على الأرض، باتت إحدى السمات المتكررة للصراع في سوريا، هي احتمال أن يكون عدو الأمس صديق الغد – أو العكس. وأبرز مثال على ذلك كان التحول الأخير الذي حدث في ميزان القوى في إدلب وشمالي حلب، حيث يعمل أبو محمد الجولاني، أحد أبرز الشخصيات المثيرة للاهتمام والتي يصعب التكهن بتصرفاتها، على بسط سيطرته على معظم المنطقة عبر قيادة فصيل هيئة تحرير الشام.
اتسمت مسيرة الجولاني – كزعيم لهيئة تحرير الشام- ببراغماتية شديدة ساهمت في نجاحها واستمرارها وذلك رغم وجودها في وسط غالبًا ما يتسم بالجمود الإيديولوجي، حيث دفعته تلك البرغماتية للتخلي عن خلفيته الراديكالية المتزمتة، وشرع في تغيير قناعاته بسرعة فائقة وبصورة متكررة كلما اقتضت مصلحته ذلك. في البداية، قام الجولانى بفك ارتباطه بتنظيم الدولة الإسلامية عندما عمل على النأي بجبهة [النصرة] عن التنظيم بعد أن أعاد البغدادي تسميتها بـ “الدولة الإسلامية في العراق والشام” (داعش). ثم بعد ذلك، عمل الجولانى على تغيير أهدافه العابرة للحدود ليصبح فصيل محلي، حيث أعاد تسمية جبهة النصرة وأصبح يطلق عليها “هيئة تحرير الشام”، في سيناريو مشابه لحركة حماس في غزة.
يشير خطاب الجولانى بشأن ضرورة بناء كيان سني في المناطق المحررة مرة أخرى إلى أن التحولات التي أحدثتها هيئة تحرير الشام في بنيتها الفكرية والتنظيمية، إلى سعي الهيئة لتحقيق مصالح مرحلية ضيقة تأتي في إطار خدمة أهداف سياسية تكتيكية. عمل الجولاني. منذ قدومه إلى سوريا على عدم الوقوع في عزلة عسكرية، وذلك رغم عدم قبوله شعبياً. وقبل توغل هيئة تحرير الشام في عفرين – وهي منطقة خاضعة في الأصل لسيطرة قوات سوريا الديمقراطية، ثم استولى عليها الجيش الوطني السوري المدعوم من قبل تركيا (مكون في الأساس من عناصر سابقة في الجيش السوري الحر)، قام الجولانى بتوطيد علاقاته مع فصائل من الجيش الحر وفصائل إسلامية أخرى.
مع تحول الجيش السوري الحر إلى ما يسمى بالجيش الوطني السوري في شمال غرب سوريا، عمل الجولاني أيضًار على تعزيز علاقاته مع الفصائل الإسلامية مثل فرقة الحمزات ولواء الشاه، حيث سمحوا لهيئة تحرير الشام بالتوغل إلى شمال حلب. شارك الجولاني أيضًا في جهود متعددة استمرت لسنوات لتحسين صورته في الغرب وبناء علاقات غير مباشرة مع دول أجنبية، وكان ذلك واضحًا خلال مقابلته مع الصحفي مع مارتن سميث من قناة “بي. بي. إس فرونتلاين.”
إلى جانب نفوذه الأمني المتزايد، عمد الجولانى إلى السيطرة على مفاصل الاقتصاد حيث استولى على المعابر وتجارة النفط والمحروقات والقمح والقطن وبيع الأراضي ومحلات الصرافة. كما ركز على دور الإعلام وأهميته، حيث أنشأ وكالة إعلامية رسمية “وكالة إباء”، وقام ببناء جيش إعلامي رديف يحشد له ولسياساته عبر قنوات تيلغرام الأكثر استخداماً في أوساط المعارضة والشمال “المحرر” لتمرير والتمهيد والدفاع عن مشاريعه.
وفي خطوة أخرى وأعتقد أنها لن تكون الأخيرة ، حاول الجولانى الانفتاح على الأديان والطوائف السورية الأخرى حيث قام بإعادة فتح كنيسة بلدة اليعقوبية في منطقة جسر الشغور في محافظة إدلب في آب / أغسطس الماضي، وتم عقد أول قداس فيها منذ عام 2011،الأمر الذي أثار غضب الإسلامين وأصحاب الفكر المتشدد، إلى أن أصدرت هيئة تحرير الشام بياناً بذلك كان من بين ما جاء فيه إن ” هيئة تحرير الشام تعتبر سكان بلدات غرب إدلب الذين يعتنقون الديانة المسيحية جزءاً من المجتمع لهم حقوقهم من العيش في بيوتهم ويمارسون أعمالهم وأنشطتهم منذ بداية الثورة وينعمون بالأمن.” كما أشار البيان إلى أن سكان هذه البلدات عليهم واجبات وأبرزها “عدم الاصطفاف إلى جانب النظام وإعانته والالتزام بالسياسة العامة في المناطق المحررة.”
الآن، ورغم سيطرة حكومة الإنقاذ، التابعة للجولانى على محافظة إدلب، إلا أن سجون الجولاني (الزنبقي والعقاب وحارم) أصبحت تعج بالجهاديين وقيادات وعناصر تنظيم القاعدة خصوصاً “المهاجرين” غير السوريين بتهم الانتماء لـ “داعش” أو من وصفهم بالخوارج ورؤوس الفتنة.
في وقت سابق من هذا العام توعد الجولاني بتوسيع نفوذه في المنطقة فكان متوقعاً أن يستغل أي فرصة ليتمكن من تنفيذ طموحة، ويبدو أن اغتيال الناشط محمد عبد اللطيف الملقب (أبو غنوم) على يد عناصر فرقة الحمزات والتي على إثرها اعتقل الفيلق الثالث المنفذين لعملية الاغتيال وبث اعترافاتهم على مواقع التواصل الاجتماعي، وما تبعه من هجوم للفيلق على مقرات الحمزات منحت للجولاني مبرراً للدخول على الخط ومساندة الفيلق الثالث.
وخلال الأسابيع القليلة الماضية تسارعت الأحداث ووصلت عناصر “هيئة تحرير الشام إلى حدود مدينة – اعزاز أبرز مدن درع الفرات، وتم إطلاق حملة على مواقع التواصل الاجتماعي تحت وسم #إدارة واحدة. لعل الهدف الأساسي للجولاني بعدما سيطر على منطقة عفرين ومناطق غصن الزيتون هو إدارة الشمال السوري من خلال حكومة “الانقاذ” دون وجود عسكري معلن.
ويشير الاتفاق الذي حصل بين هيئة تحرير الشام والفيلق الثالث والذي يتضمن استلام الهيئة الإدارة المدنية والاقتصادية والأمنية لمناطق غصن الزيتون ودرع الفرات أنه تم بتهميش واضح لدور الحكومة المؤقتة التابعة للائتلاف المعارض.
جرى ذلك علماً بأن الفيلق يُعتبر جزءاً من الجيش الوطني التابع لوزارة الدفاع التابعة للائتلاف، في حين كان من المفترض أن يكون التفاوض والاتفاق مع الحكومة المؤقتة وليس مع الفيلق لأن هذا الاتفاق سيفضي في نهاية المطاف إلى سيطرة “جهاز الأمن العام” التابع لحكومة الإنقاذ التابعة للجولاني على كل مفاصل المنطقة وبالتالي انتهاء دور الائتلاف.
يُمثل التوغل الأخير لهيئة تحرير الشام في عفرين تطوراً جديداً في خطة الجولاني فقبل ذلك، عملت تركيا على وضع حاجز بين هيئة تحرير الشام والجيش الوطني السوري المدعوم من قبل تركيا في أعزاز وعفرين. الآن، ومع ذلك، يبدو أن تركيا قد قبلت ضمنيًا هذه تلك التحركات الجديدة للجولانى، وذلك رغم قيامها بالتصدي له في المناطق التي تسيطر عليها هيئة تحرير الشام بشكل علني.
ومع ذلك، فمن المرجح أن القرارات التي يتم اتخاذها من قبل الجهات الإقليمية الأكبر، هي من ستحدد مستقبل الجولانى. في الآونة الأخيرة، يبدو أن الطرفان الروسي والتركي يهدفان إلى حدوث انفراجه ستؤثر بدورها على ميزان القوى داخل سوريا، خاصة في شمال غرب البلاد. وفي حال توصل النظام السوري والحكومة التركية، إلى اتفاق متقدم كما أشار إليه جاويش أوغلو، ربما يكون أحد شروط هذا الاتفاق هو القضاء على إمارة الجولاني في إدلب، وقوات سوريا الديمقراطية في شمال شرق البلاد، اللتان تمثلان شوكة في جانب كلا الطرفين.
وفي حال حدوث تلك الترتيبات، عندها قد يتجه الجولاني إلى التحالف مع قوات سوريا الديمقراطية في حال رغبة الأخيرة في فتح جبهة مشتركة ضد النظام وعدم القبول بالاتفاق التركي – السوري وتهديده المحتل عليها. ومن جهة أخرى، وفي ظل رفض الجولانى لأي اتفاق قائم على المصالحة بين النظام وتركيا، فمن الممكن أن يعود الجولاني ويتحالف مع رفاق الأمس الذين تعج بهم سجونه ويعيش بعضهم في مناطق سيطرته مثل حراس الدين وبقايا تنظيم داعش ومجموعات المهاجرين المتشددين إلى جانب فصائل أخرى من بقايا الجيش الحر والعناصر المسلحة التي ترفض التصالح مع النظام.
في سياق مغاير ورغم سعي الجولانى إلى إحداث تغييرات فكرية وتنظيمية جوهرية في هيئة تحرير الشام من خلال النأي بها عن الفكر الجهادي المعولم وتحسين صورتها الخارجية، بات من الواضح أيضًا أن تلك التغييرات مرتبطة بتقلُّبات الهيئة المصلحية المرحلية، والتي تتمثّل حاليًّا في تسويق نفسها ككيان معتدل ونزع تهمة تصنيفها بالإرهاب دوليًّا، وتثبيت موطئ قدمها وتمتينه محليًّا . ومع ذلك، فمن المرجح أن يتبدل الوضع في أي لحظة، وستتغير تكتيكات الجولاني معه في غمضة عين حيث يمكنه التراجع عن تلك المراجعات إذا كان يعني ذلك الحفاظ على سيطرته وتوسيع نفوذه في شمال غرب سوريا دون مراعاة احتياجات الشعب السوري أو مبادئ حركته.
يلماز سعيد، هو باحث كردي سورى، كتب العديد من المقالات التحليلية ومقالات الرأي المتعلقة بالشأن الكردي والسوري والتنظيمات الجهادية. شغل سعيد منصب نائب حركة الشباب الكردي في سوريا منذ عام 2015.
المصدر: معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى