منظومة القرار لا تريد الاعتراف بالمتغيرات الاجتماعية والسياسية الحاصلة داخل المجتمع. بعد مرور 40 يوماً ونيف على حادثة مقتل الفتاة مهسا أميني والأحداث وموجة الاعتراضات والتظاهرات التي تفجرت في المدن والشوارع الإيرانية رافعة مطالب متشعبة، من المفترض أن يؤدي اجتماعها في لحظة زمنية واحدة أن تضع النظام ومؤسساته أمام سؤال مفصلي يطاول مستقبل استمراريته وبقائه سياسياً واجتماعياً وثقافياً وحقوقياً واقتصادياً، بخاصة إذا ما كان الظاهر من أداء هذا النظام هو الفشل الواضح في تقديم العلاجات المطلوبة للأزمات المتراكمة التي تعانيها هذه القطاعات نتيجة سياسات فوقية لا تنظر إلى ما يحدث داخل المجتمع والحراك الاجتماعي من تحولات وتغييرات ربما يتجاوز تأثيرها المظاهر الخارجية أو التعبيرات السلوكية اليومية، إلى ما هو أبعد، ويلامس البنية الثقافية والعقائدية لهذا المجتمع.
ربما تكون منظومة السلطة الممسكة بالنظام والدولة في إيران توصلت إلى اعتقاد بأنها استطاعت السيطرة على حركة الاحتجاج والاعتراض الأخيرة وأن ما تطرحه من شعارات سياسية واجتماعية وثقافية “سطحية” حول ضرورة فتح باب الحوار وتعديل بعض السلوكات والتصرفات كمدخل يؤسس لمعالجات مستقبلية تصب في إطار الاستجابة للمطالب الشبابية والاجتماعية، غير أن ما تكشف عنه الإجراءات والمواقف لا يوحي بأن النظام ومؤسساته وأجهزته باتت على قناعة بضرورة القيام بخطوات جدية وجذرية وجوهرية في هذا الاتجاه، أو بما يخدم هذا التوجه.
الموقف الذي أطلقه قائد حرس الثورة الجنرال حسين سلامي، السبت الماضي، من مدينة شيراز خلال تشييع ضحايا الاعتداء على المدنيين وبغض النظر عن الإشكالية التي ترافق التفسيرات والجهات المسؤولة عن هذا الاعتداء والذي دعا فيه المحتجين إلى العودة للمنازل وعدم الخروج إلى الشوارع وأن الأمور انتهت هو موقف يكشف عن وجود إصرار داخل منظومة القرار لا يريد الاعتراف بالمتغيرات الاجتماعية والسياسية الحاصلة داخل المجتمع الإيراني وأن سياسات النظام وصلت إلى حائط مسدود في تعاطيها مع المطالب الشعبية لأن محاولة رمي كرة الاتهام على قوى ودول خارجية وأجنبية وتحمليها مسؤولية ما شهدته إيران من حراك اعتراضي ومطلبي، يعني أن هذه المنظومة لم تصل إلى مرحلة الاعتراف بفشل أدائها وسياساتها الداخلية وأن المجتمع الإيراني بكل مكوناته السياسية والثقافية والعرقية بات على استعداد لموجات من الانفجارات الاعتراضية المتتالية مع فواصل زمنية متقاربة.
التصعيد مع الخارج ومحاولة اتهامه بالتحريض يكشفان عن أن المنظومة الحاكمة لم تخرج إلى دائرة الفضاء الداخلي وما يدور من جدل بين القوى الاجتماعية الفكرية والثقافية والسياسية، ولا تريد الاعتراف أيضاً بأن محاولاتها الاستفراد بالسلطة وإقصاء القوى السياسية المعارضة أو المختلفة معها أوصل النظام والسلطة إلى نقطة اللاعودة ووضعها في مواجهة تحديات كان من الممكن عدم الوصول إليها في ما لو كانت مارست قليلاً من البراغماتية السياسية والعقائدية التي تساعد وتسمح في ليونتها باستيعاب الآخر وإشراكه في تحمل المسؤولية.
ويبدو أن منظومة السلطة ما زالت تقف في المنطقة التي رسمتها لنفسها والقائمة على رفض تقديم أي مؤشرات جدية إلى إمكانية إحداث تحول في آلية وأسلوب تعاملها مع القوى السياسية في الداخل، فنجدها عمدت إلى التصعيد مع بعض الأحزاب الإصلاحية في وقت هي أحوج ما تكون لإعطاء هامش وظيفي لهذه القوى والأحزاب للعب دور في تهدئة الشارع واستيعاب الحراك الاعتراضي من خلال منحها مساحة لفتح حوار مع الأجيال الشبابية التي ربما تجد لغة مشتركة بينها لا تزال متاحة لتفاهمات قد تمنع الوصول أو الغرق في مواجهات مفتوحة لن تبقي في حال استغلت وانفجرت على أي من الأطراف، سواء تلك الممسكة بالسلطة والمتفردة بها، أو تلك التي تحمل خطابات إصلاحية وتغييرية لا تشكل تحدياً جذرياً ونوعياً لمنظومة السلطة.
وفي هذا السياق يمكن فهم الإجراء الذي قامت به وزارة الداخلية بتجميد عمل حزب “اتحاد ملت – اتحاد الشعب” الإصلاحي الذي يلعب دوراً محورياً وأساسياً في تشكيل “جبهة الإصلاحات” التي تضم جميع الأحزاب الإصلاحية وهي الأحزاب التي أعلنت التزامها الدستور الإيراني وما جاء فيه، بخاصة ما يتعلق بولاية الفقيه وإسلامية النظام، وهو التزام ربما لا يعني الإيمان به أو بما جاء في المواد المتعلقة بهذه الأبعاد.
وهذا الإجراء يأتي في وقت بدأت قيادات النظام الحديث عن ضرورة فتح قنوات حوار مع القوى المعترضة الشابة والأحزاب السياسية التي لا تحمل مشروعاً انقلابياً أو تغييرياً جذرياً وتخفيف القيود على التجمعات الاعتراضية من خلال بحث إمكانية تخصيص أماكن محددة في المدن، تحديداً في العاصمة طهران لهذه الجماعات للتظاهر والإعلان عن موافقها واعتراضاتها. وهو إجراء يكشف عن وجود أزمة ثقة مركبة لدى المنظومة الحاكمة، أولاً لجهة أنها غير واثقة بأدواتها التي تستخدمها لفرض خطابها السلطوي غير القادر على الاعتراف بأي شريك مهما كانت طبيعته أو خلفيته الثقافية والعقائدية والسياسية، وثانياً، لعدم ثقتها بقدرتها على احتمال تداعيات أي تراجع ربما تكون مجبرة على اتخاذه والعودة للاعتراف بوجود هذه القوى كشريك أو كفاعل مؤثر داخل المجتمع السياسي والشعبي الإيراني، بالتالي تكون خسرت كل الجهود التي بذلتها من أجل إبعاد وإقصاء وإخراج هذه الأحزاب من دائرة القرار والشراكة والتأثير التي كلفتها كثيراً من الأثمان وتكون عاجزة عن تقديم نفسها المنقذ القادر على إخراج إيران من الأزمات التي تواجهها وواجهتها على مدى العقود الماضية.
المصدر: اندبندنت عربية