أفضى مشهد الاقتتال الدامي الذي اندلع مؤخراً في مدن وبلدات الشمال السوري إلى توقف قسري وبفعل عوامل خارجة عن إرادة المتقاتلين، إلى لجم أصوات المدافع وراجمات الصواريخ بين الفرقاء المتقاتلين المتمثلين بالفيلق الثالث من جهة، وهيئة تحرير الشام التي تسعى للسيطرة على كامل المحرر تساندها فصائل فاسدة محسوبة على الثورة (فرقة السلطان سليمان شاه، وفرقة الحمزة وأحرار الشام، وبعض الفصائل التي ادعت الوقوف على الحياد) من جهة أخرى، تلك الفصائل التي ترتدي عباءة الثورة وتلهج بلسانها، إلّا أنها حوّلت الشمال السوري الى حلبة صراع ، كل يسعى لإنهاء الآخر، كما يسعى إلى تحرير المحرر، كما فعل تنظيم داعش من قبل، وذلك بدلاً عن توجيه هذا السلاح والحشود والارتال الى الجبهات ضد النظام وتحرير المناطق التي يسيطر عليها النظام وطرد الميليشيات الإيرانية و الطائفية.
ومع هذا السكوت القسري لبنادق المتقاتلين انطفأت جميع الشعارات التي رفعها هؤلاء كذرائع زائفة لتبرير اقتتالهم الذي توهّم كل طرف منهم بأن يكسو نزوعه الفصائلي المجافي للوطنية، بعداً قيمياً أو شرعياً أو إنسانياً، الأمر الذي يؤكّد دون أدنى ريب، أن افتقار الحالة الفصائلية للمشروع الوطني الذي يمكن أن تنهض عليه، إنما يُفقدها أدنى درجات المصداقية والقدرة على إقناع السوريين بأي جدوى لتفلّتها عن مجمل قيم وثوابت الثورة.
وقبل أن يسحب الجولاني جحافل قوات الأمن العام التابعة له من مدينة عفرين وما حولها، والمراوغة والخداع بسحب بعض الأسلحة الثقيلة بضغط من الجيش التركي، بدأ الحديث يكثر عن ترتيب جديد للمنطقة، وحلّ لفصائل الجيش الوطني وإعادة هيكلته من جديد بمبادرة من تركيا التي يتهمها الكثيرون بأن بعض مسؤوليها القائمين على إدارة هذه المنطقة (درع الفرات، غصن الزيتون، نبع السلام) هم من أوصل تلك المناطق إلى هذا الحال المزري من الفوضى، وذلك من خلال تعيين، بل تصنيع قادة فاسدين وفاشلين في كل مؤسسات الثورة المدنية والعسكرية والسياسية، بل ربما يذهب البعض إلى أبعد من ذلك، حين يرى أنّ هيئة تحرير الشام ما كان لها أن تجرؤ على اجتياح الشمال لولا وجود إيحاءات من الجانب التركي، أو على الأقل إبداء بعض التسهيلات لهذا الاجتياح.
وبعيداً عن دقة هذه الاستنتاجات أو عدم دقتها، وأيّاً كانت البواعث التي دفعت الجولاني باتجاه عفرين أو أعزاز، فإن الشاغل الأبرز للمشهد الإعلامي السوري هو تشابك التحليلات والتكهنات بوجود خطة تركية لإعادة ترتيب شمال السوري من الناحية العسكرية والمدنية، ولعل ما زاد في اشتعال تلك التحليلات هو المقال الذي نشره موقع “ميدل إيست آي” البريطاني في تشرين الأول/أكتوبر بعنوان جذاب طالما انتظر تحقيقه جمهور الثورة في المحرر الذي ضاق ذرعاً بكل تلك الفصائل والتشكيلات: “أنقرة ستحل الجيش الوطني، وتشكيل جديد سيظهر في الساحة”، وسط إصرار الجيش التركي على اخراج قوات الجولاني العسكرية والأمنية من المنطقة ومحاسبة ومعاقبة الفصائل التي سهلت دخولها أو شاركت في القتال الى جانبها (فيلق الشام، احرار الشام، فرقة الحمزة، فرقة سليمان شاه).
الجميع في حالة ترقب وانتظار، رياح تغيير تعصف بتلك التشكيلات التي أصبحت عبئاً على الناس عوضاً عن أن تكون عوناً لها، وتعيد هيكلة المؤسسات الهلامية الشكلية التي لم تكن سوى أسماء براقة خاوية من أي مضمون او فعل كالحكومة المؤقتة ووزارة الدفاع والجيش الوطني، وتحويلها الى مؤسسات فعلية بصلاحيات كاملة تضبط الوضع العسكري والأمني والمعيشي.
أسئلة كثيرة ربما يصعب الإجابة عنها في الوقت الراهن : من يستطيع حل الفصائل وإعادة هيكلتها ومأسستها في جيش وطني حقيقي، او بالأحرى من لديه الرغبة بفعل ذلك؟، وهل ستسمح الجهات المتنفذة والمستفيدة من واقع التشرذم والفوضى والفساد بتفكيك منظوماتها وهي صاحبة السلطة والقوة والسطوة والدعم، ومرتبطة بشبكات داخلية وخارجية للجريمة المنظمة وتهريب المخدرات والاثار والبشر وغيرها؟، وهل مسموح دولياً فعل ذلك في ظل استمرار الاعتراف الدولي بحكومة وجيش النظام؟، ألا يعني أن مأسسة الفصائل والتشكيلات العسكرية تستوجب إعادة النظر في مؤسسات المعارضة السياسية ممثلة بالائتلاف وهيئة التفاوض واللجنة الدستورية بالإضافة الى الحكومة المؤقتة التي ربما يكون لتلك المؤسسات التي يوجد ممثلين للفصائل فيها دور المُعيق لهذا المشروع.
ما سبق من أسئلة يعيدني بالذاكرة الى منتصف العام 2012، عندما أعددتُ دراسة مشروع تشكيل جيش وطني منظم، ومشروع أكاديمية عسكرية لتأهيل مقاتلي الجيش الحر وإكسابهم الخبرات النظرية والعملية وتخريجهم ضباطاً وضباط صف، على أسس وطنية ومهنية بعيدة عن أي أيديولوجيا، ورفد هذا الجيش بهم، قبل أن تتغلل التنظيمات الإسلاموية وتتمكن من استقطاب أولئك العناصر الذين تغلب عليهم البساطة والعفوية. وعرضت تلك الدراسة على الكثير من الدول التي تدعي صداقة الشعب السوري، من أجل تبني هذا المشروع، ولكن بكل آسف لم ألقَ منهم سوى كلمات الإطراء والمجاملة، وكان أكثرهم صراحةً السفير الأميركي روبرت فورد الذي أكد لي أن لا أحد من الدول يمكن أن يتبنى هكذا مشروع طالما موفد النظام يصول ويجول في أروقة الأمم المتحدة، موازاة مع كون جميع الدول والمؤسسات الأممية لم تنزع الشرعية عن نظام الأسد رغم ارتكاب جيشه وأجهزته الأمنية لأفظع الجرائم بحق الإنسانية.
ما سبق يجعلني متاكداً من عدم جدوى كل ما يُطرح من مشاريع بشان مأسسة الفصائل وإعادة هيكلتها على أسس وطنية بعيدة عن الوصاية الإقليمية والدولية، انطلاقاً من مشروع المجلس العسكري الذي يتم تداوله بين الفينة والأخرى بقيادة العميد مناف طلاس، إلى ما تم تداوله مؤخراً عن نية تركيا حل الفصائل وإعادة بناء المؤسسة العسكرية، إذ لا يعدو ذلك كونه أكثر من مسكنات وإبر تخدير لامتصاص نقمة المظاهرات الشعبية المطالبة بتوحيد الفصائل، واحتواء غضب الشارع الثوري مما حصل مؤخراً من اجتياح الجولاني لمناطق سيطرة ما يسمى الجيش الوطني، وانكشاف هشاشة بنية تلك الفصائل وارتباط بعضها بهيئة تحرير الشام، التنظيم الإرهابي غير المقبول من الحاضنة الشعبية وجمهور الثورة.
ولعل الكلمة التي ألقاها السيد عبد الرحمن مصطفى، رئيس الحكومة المؤقتة عبر المقطع المصور الذي تناقلته وسائل التواصل وبعض القنوات الإعلامية، لا يخرج -هو الآخر– عن هذا السياق، أعني سياق احتواء السخط الجماهيري، ذلك أن حديث السيد رئيس الحكومة المؤقتة الذي انطوى على التبشير بوجود خطة إصلاحية مرتقبة تتضمن حوكمة رشيدة للشمال السوري –عسكرياً ومدنياً– لا يتقوّم من حيث المعطيات الملموسة، على أي حوامل حقيقية أو منطقية، بل ربما تكون العودة إلى أسلوب الترقيع هي أقصى ما تطمح إليه الحكومة المؤقتة، مع التأكيد الدائم على أن انخفاض سقف التوقعات لأي حالة إصلاحية يتم الحديث عنها لا ينبع من سوداوية في الرؤية أو عدمية في التصورات، بقدر ما ينبثق من رؤية الواقع كما هو بالفعل، وليس كما هو مُتخيَّل، ومع التأكيد على أن البدء بخطوات إصلاحية حقيقية بحاجة إلى إجراءات جذرية وحاسمة تستأصل الفساد ولا تحاول تبريره، وتهدم الزيف ولا تبني عليه، وهذا كلّه لا تزال إرهاصاته الفعلية غير متوفرة، على الأقل في الوقت الراهن، باستثناء الشيء الوحيد الذي يمكن المراهنة عليه، وأعني الزخم الشعبي وما تبقى من الاحرار في صفوف الفصائل، من أصحاب الهم الوطني والحس الثوري، بقلب الطاولة على الفاسدين من قادة الفصائل وذلك بمساندة ومساعدة النخب الوطنية وجمهور الثورة الذي يعاني من هؤلاء الفاسدين، وبالتالي يمكن أن يكون ذلك هو المدخل الأجدى لتصحيح المسار وتصويب النهج الذي يتيح المجال لفتح الجبهات ضد النظام وميليشياته وتحرير المناطق من تنظيم قسد الإرهابي والعودة بالجيش الحر الى سابق عهده والتفاف الناس حوله لحمايتهم من همجية النظام، واستمرار العمل من أجل إزالته.
المصدر: المدن