رغم كل “بروباغندا” السلطة في “تضخيم” حجم القافلة الأولى لعودة اللاجئين السوريين، بعد توقف مساعيها قسرياً منذ سنة 2019، لم يرق الحدث إلى حجم الإهتمام الإعلامي الذي لقيه، بعد تصويره إنجازاً آخر يضاف إلى إنجازات العهد، وخصوصاً من قبل وزير الشؤون الاجتماعية هيكتور حجار، المصنف من حصة الرئيس ميشال عون في حكومة نجيب ميقاتي المستقيلة، والذي كان قد وضع العودة منذ انتقاله إلى البقاع يوم أمس، بمصاف حدث ترسيم الحدود البحرية مع إسرائيل!
ثلاث لوائح
عملياً، لم تتجاوز أعداد العائدين في بلدة عرسال المئات، علما أنها تضم 70 ألف نازح سوري. وقد سلك العائدون عبر الطرقات الوعرة في منطقة وادي حميد باتجاه معبر الزمراني في سوريا، فيما لم يسجل عند نقطة المصنع الحدودية في منطقة البقاع الأوسط سوى خروج 12 لاجئاً سورياً تحت رعاية لجنة المصالحة التي نشأت لهذه الغاية. وقد علم أن هؤلاء ليسوا من اللاجئين المقيمين في منطقة البقاع.
ومع ذلك، أكد الوزير حجار، الذي انتقل إلى عرسال صباح اليوم الأربعاء، لـ”المدن”، “إن أهمية هذه القافلة للعائدين ليست في أعداد المغادرين فيها، وإنما في أننا ثبتنا إرادتنا بتأمين العودة، وهذه هي أول خطوة. وأكدنا بأن خطتنا وضعت على الطريق الصحيح، وأن حقنا أن نعيد السوريين إلى بلادهم”. متحدثاً عن قافلة ثانية ستتشكل الأسبوع المقبل، والتي علمت “المدن” أنها ستضم أيضاً أسماء من لم يسمح لهم بالمغادرة في قافلة اليوم، رغم إبلاغهم بإدراج أسمائهم من ضمن هذه القافلة.
استغرقت مهمة فريق الأمن العام اللبناني الذي يدقق في لوائح المسجلين للعودة الآمنة بمنطقة وادي حميد ساعات طويلة، حيث أشرف على عملية المغادرة عند نقطة عسكرية.
وقد زود فريق الأمن العام المدقق بالأسماء بثلاث لوائح، واحدة تضمنت أسماء الذين لا إشكالية على مغادرتهم، وهي لائحة مختلطة بأسماء السيدات والرجال، وهؤلاء اجتازوا حاجز الجيش اللبناني من دون أي إشكالية. والثانية أسماء للمتخلفين عن الخدمة الإلزامية أو الاحتياطي، وقد تعثرت مغادرة هؤلاء إلى الأسبوع المقبل وفقاً لما أكدته مصادر أمنية، ريثما تتم تسوية أوضاعهم مع السلطات السورية. وعلم أن هؤلاء سيمهلون فترة ستة أشهر من دون استدعائهم للخدمة في سوريا. أما اللائحة الثالثة فهي لأشخاص لديهم إشكاليات قضائية داخل بلادهم، وقد تأجلت مغادرتهم أيضاً بانتظار استكمال المساعي التي يجريها اللواء عباس إبرهيم لإسقاط العقوبات. خصوصاً أن شروط المغادرة نصت على عودة طوعية وفقاً للمصادر، ولكن أيضاً آمنة، لضمان عدم تعرض الراغبين بالعودة لأي ملاحقات أمنية أو قضائية، وحتى لو كانوا على نزاع مع النظام.
انتقاد الصحافة.. والشائعات
في المقابل، امتنع الوزير حجار على الرد على سؤال توجهت به “المدن” عن أبرز الضمانات التي تلقاها من الجانب السوري بالنسبة للعائدين، من ضمن “المصالحة” الجارية. وأصر حجار على التركيز على الجانب الإيجابي من “إنجازه”. وعلى “المشهد الوطني” لاستئناف حملات إعادة السوريين إلى بلادهم، متخذاً موقفاً هجومياً على بعض الصحافة، التي اعتبر أنها تحاول عرقلة هذه العودة من خلال خلق شائعات منذ أيام، ليضع هذه الشائعات في إطار “فرض الإقامة القسرية على السوريين بمقابل سعينا لعودتهم الطوعية”، كما قال.
بدا المشهد الذي أراد لنا حجار أن نركز عليه في المقابل، سريالياً للغاية. ففي خلفية ما كان يؤشر إليه من حدث ضخم يتمثل في أعداد الآليات والناس التي تجمعت بساحة اللقاء الأخير قبل مغادرة الأراضي اللبنانية، كانت تظهر مساحات الأراضي الشاسعة المستغلة كتجمعات لخيم النازحين السوريين في هذه المنطقة. وقد خرج هؤلاء من داخل خيمهم لإلقاء النظرة الأخيرة على أقرباء لهم وجيران وأصدقاء، سيشكلون بالنسبة لهم عينات اختبار لمدى صدق السلطات السورية فعلياً في تأمين إقامتهم الآمنة بمناطقهم، وإعادة ممتلكاتهم وأشغالهم وحياتهم التي فقدوها سابقاً في قراهم، خصوصاً أن معظم العائدين هم من منطقة القلمون وقراها التي شهدت مواجهات واسعة وعنيفة مع النظام السوري، وبعض هؤلاء يريدون أن يتأكدوا أيضاً بأنهم لن يُسحبوا للخدمة العسكرية الإلزامية فور عودتهم إلى بلادهم.
صعوبة البقاء.. والعودة أيضاً
وعليه، لم يكن الوزير بحاجة لكثير من الإثباتات لمجادلته حول كون عدم الرغبة بالعودة، ولو مرحلياً، أقوى بكثير من الرغبة بالعودة. حتى ولو كان من يصمدون في لبنان يقرون بأن حياتهم كلاجئين لم تكن يوماً سهلة منذ أن بدأت قبل أكثر من عشر سنوات، ويؤكدون تفاقم صعوبتها في السنوات الأخيرة، عندما بدأوا يلمسون نظرة عداء تجاههم حتى في المجتمعات التي حضنتهم سابقاً، بالإضافة إلى ما يتعرضون له من استغلال حتى في لقمة عيشهم.. في وقت بدا أن عائق العودة أمام قسم من هؤلاء هو في تزامن قوافلها الأولى مع موسم بدء المدارس، إضافة إلى كون الكثيرين لم يعودوا يملكون منازل أو أمكنة يمكثون فيها شتاء.
أما العائدون، فقد حمل كل منهم أمتعة فقره وحتى تجهيزات خيمه المتهالكة معه، لينطلقوا في رحلة بؤس مجهولة المصير بالنسبة لهم، كما أكدوا. ومع ذلك بدا أن لكل منهم قصته ودوافعه الخاصة لإتمامها. فيما القاسم المشترك الأكبر بينهم جميعاً، أنهم ليسوا ممن دفعوا للعودة نتيجة لتفاقم سوء ظروفهم مؤخراً، وإنما معظمهم كانوا ممن تسجلوا للعودة من ضمن قوافل “المصالحة” التي شكلت منذ ما قبل جائحة كورونا وتعرقلت لظروفها.
ومع ذلك، فإن العودة لم تتح لكل الذين ظنوا بحلول موعدها. وبعض من دعيوا قبل أيام لتحضير أمتعتهم، قفزت أسماؤهم أو أسماء أرباب عائلاتهم إلى لوائح من عليهم تسوية أوضاعهم أولاً، فيما أوضح مصدر أمني مواكب للعملية بأن “عودتهم على مسؤوليتهم” لن تكون متاحة في المرحلة الحالية، وإنما هي مقترنة بالمتابعة التي يجريها اللواء عباس ابرهيم مع السلطات السورية لتذليل كل الإشكاليات.
الخيبة والوجع
وعليه شوهدت عائلات تسلك مجدداً الطريق المعاكس باتجاه تجمعات خيمها في عرسال. وعمت الفوضى المكان بشكل كبير، لتعمّ الخيبة على الوجوه. وكان من بين هؤلاء رب أسرة وُضع إما أمام خيار البقاء في لبنان مشرداً مع عائلته، التي فككت كل ممتلكاتها، أو أن يترك عائلته تغادر من دونه إلى سوريا، ليعيشا معاً قلق إمكانية عدم لقائهم مجدداً.
وترجم هذا الوجع عدة مرات وبأشكال مختلفة. وعبرت عنه أيضاً والدة اضطرت للمغادرة مع جزء من عائلتها، مخلفة نصف قلبها في لبنان مع جزء آخر من العائلة اضطر للبقاء في لبنان بانتظار تسوية أوضاع أحد أفرادها الموقوف منذ أشهر من دون محاكمة أو حتى استجواب بسبب إعتكاف القضاء، فيما عائلته تعتقد ببراءته.
هذه الحالات واكبتها محامية سورية ذكر أنها مكلفة من قبل الطرفين اللبناني والسوري لإتمام إجراءات العودة المستقبلية، بالإضافة إلى مواكبتها من قبل مندوبين عن الجهات الداعمة، ولا سيما مفوضية الأمم المتحدة للاجئين، التي قام مندوبوها بتوزيع إرشادات على المغادرين حول طريقة التواصل معها داخل الأراضي السورية، ورفض هؤلاء التعليق على ما تردد عن تدخلات مورست من قبل منظماتهم لثني البعض عن قرار العودة.
في المقابل نفى رئيس بلدية عرسال باسل الحجيري أن يكون قد سمع عن ضغوط مورست على السوريين من الجهات الداعمة، ولكنه أكد بأن هناك جواً تخويفياً من قبل بعض معارضي النظام، وهناك اتهامات لحقت بالراغبين بالعودة بأنهم من أتباع النظام السوري، مشيراً إلى أن نظرة السوريين إلى العودة ما زالت مختلفة وإنما طريق العودة برأيه قد فتحت.
وأكد الوزير حجار في المقابل بأن “التضامن السياسي اللبناني تام مع ضرورة العودة الآمنة والطوعية للاجئين السوريين، وأن سوريا مسهلة لهذه العودة”، بانتظار تثبيت هذه التأكيدات بعد دخول لبنان في مرحلة سياسية جديدة عند انتهاء ولاية رئيس الجمهورية في الأسبوع المقبل.
المصدر: المدن