في تصريح جديد ولافت، أكد وزير الدفاع الإسرائيلي نفتالي بينيت الأسبوع الفائت، أن الدولة العبرية ستواصل عملياتها في سوريا حتى «رحيل» إيران منها، وذلك عقب غارات استهدفت القوات الإيرانية والمجموعات الموالية لها، وأسفرت على ما ذكر عن مقتل 14 مقاتلاً. وقال الوزير في مؤتمر صحافي: «نحن لا نواصل لجم نشاطات التموضع الإيراني في سوريا فحسب، بل انتقلنا بشكل حاد من اللجم إلى الطرد، أقصد طرد إيران من سوريا». فهل من مستجدات وراء مضاعفة العمليات الإسرائيلية التي باتت شبه روتينية وتتوّزع على كل مساحة الأراضي السورية تقريباً؟
تصريح الوزير بينيت يستأهل التوقف عنده، لا سيّما في ظلّ ما يشاع من معلومات حول البحث عن بدائل للرئيس السوري بشار الأسد وفساد محيطه إلى ما انكشف من خلافات مستحكمة وغير مسبوقة داخل عائلته تتناقلها وسائل الإعلام ومنصات التواصل الاجتماعي. ويضاف إلى ذلك ما يجري في الإقليم، وتحديداً في العراق، وما تحمله روزنامة الأيام المقبلة.
يجدر بداية عدم المبالغة والتوسع في ترجمة العمليات العسكرية هذه، بل النظر فيها على ضوء أمرين؛ الأول هو الموقف الإسرائيلي الثابت بالنسبة إلى الوجود الإيراني في سوريا القاضي بعدم تكرار تجربة تغلغل إيران في لبنان، ومنع قيام جبهة أخرى على غرار جنوبه على هضبة الجولان وعلى حدودها مع سوريا التي تميزت طيلة حكم آل الأسد بهدوء مريب. والثاني هو التوافق بين رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو و«خصمه» رئيس حزب «أزرق أبيض»، بيني غانتس، على تشكيل حكومة ائتلافية يتناوبان رئاستها خلال السنوات الثلاث المقبلة، ما يعني تعليق التجاذب الانتخابي في مسألة الضربات وإعادتها إلى الدائرة الأمنية وصلب الاستراتيجية العسكرية الإسرائيلية الهادفة إلى احتواء الوجود الإيراني في سوريا أو الحدّ منه إلى أقصى الحدود المتاحة، وبات تنفيذ هذه السياسة قراراً أمنياً استراتيجياً متفقاً عليه داخل المؤسسة العسكرية وأصبح أكثر سهولة بعد زوال الاستغلال السياسي له.
فماذا يقصد، والحال هذه، وزير الدفاع الإسرائيلي في تصريحه الجديد؟ هل تريد إسرائيل فعلاً في هذه المرحلة اقتلاع إيران بشكل نهائي من سوريا أم مجرد قصقصة أجنحتها؟ الجواب الموضوعي والأكثر رجحاناً هو النفي والقول إن الكلام الإسرائيلي يهدف عملياً إلى الحدّ من الوجود العسكري الإيراني في سوريا، ويشمل ذلك الميليشيات الإيرانية المنتشرة أو تلك التابعة لحلفاء إيران من لبنانيين وعراقيين وغيرهم، إضافة إلى منع وصول أسلحة متطورة وحديثة وكميات كبيرة منها. والأهمّ هو إبعاد الوجود الإيراني عن الحدود الإسرائيلية، الأمر الذي فشلت الوساطة الروسية في تحقيقه بدليل استمرار العمليات، بل ارتفاع وتيرتها واتساعها.
وفي هذا الصدد، ينبغي ألا يغيب عنا أن إسرائيل تُدرك على الأرجح قوّة الوجود الإيراني في سوريا وتجذره على أكثر من صعيد، من تمدده إلى الجيش والاستخبارات السورية ومفاصل مؤسسات الدولة إلى تغلغله في الاجتماع السوري، سواء عبر بناء الحسينيات أو عمليات التشييع أو شراء الأراضي والعقارات في أكثر من مدينة سورية، وهذا الأمر تحديداً يفسر تصميم إيران العنيد على حماية وجودها ونفوذها في هذا البلد، ما يشكل عقبة أساسية ورئيسية أمام تنفيذ أي كلام على غرار كلام بينيت ويبقيه في باب التمنيات ليس إلا. هذا الأمر لا يعني التشكيك في قوة القدرات العسكرية الإسرائيلية إنما دونها مخاطر الدخول في متاهات معارك عسكرية كبيرة أو حرب إقليمية واسعة لا حاجة ملحة أو تهديد أمنياً وجودياً في الوقت الحاضر يحتم القيام بهكذا مغامرة، ما دامت إسرائيل قادرة على احتواء مصدر الخطر.
ما من شك في وعي إسرائيل وجديتها تجاه المخاطر التي تشكلها عليها إيران عامة ووجودها قرب حدودها خاصة، إنما المستغرب أن السياسة الإسرائيلية كانت على مدى سنوات طويلة، لا سيما إبان تولي نتنياهو رئاسة حكومة شبه غائبة عن تطورات الإقليم، واقتصرت على مقاربات مبسطة لمشاكل وقضايا معقدة وقاربت هذه المشاكل «بالقطعة»، بحيث اعتمدت المقاربات الأمنية العسكرية والتكتيك عوض رؤية وسياسة متكاملة لما يجري، خصوصاً تطورات ما بعد الربيع العربي والنزاعات والحروب الدائرة في أكثر من مكان.
فباستثناء التعاون الأمني والعسكري مع كل من الأردن ومصر، ليست هناك من رؤية إسرائيلية لمستقبل العلاقات مع العالم العربي، بل نراها تمعن في سياسة التمييز والعداء والقهر ضد الفلسطينيين وفي الاستيلاء على أراضيهم. وتتحدث دوماً عن الخطر الإيراني من دون أن تقوم بأي خطوة جدية لاستيعاب هذ الخطر، وحتى بدون أن تحصّن نفسها بطريقة أخرى غير أسلوب العمليات العسكرية.
ويبدو أن إسرائيل ستستمر في نهجها بعد الاتفاق بين غانتس ونتنياهو؛ اتفاق ليس سوى تمديد للسياسة الإسرائيلية القائمة في المنطقة. فغانتس الذي كان بالأمس «خصماً» لدوداً، قبل اليوم بالتحالف مع الفساد ولم يتوانَ حتى عن التضحية بالتحالف العربي في الحكومة ليكشف عن عنصريته.
وفي ظل هذه السياسة الإسرائيلية، يبدو من الصعب اقتلاع إيران من سوريا أو من غير سوريا. فلا يمكن لإسرائيل معالجة هذه المسألة وهي مصرّة على سياساتها من دون رؤية مغايرة جديدة على مستوى المنطقة، واعتماد مقاربة جديدة للأزمة السورية تختلف عن المقاربة الحالية القائمة على التناقضات. فهي تريد طرد الإيرانيين من سوريا وفي الوقت نفسه تتمسك ببشار الأسد رئيساً؟ وهو موقف مشابه للموقف الروسي الذي يتمسك بالنظام السوري وسياسته المتبعة على مدى أكثر من 50 عاماً، وكانت له اليد الطولى في وصول إيران إلى القوة والنفوذ اللذين وصلت إليهما في المنطقة.
إن اقتلاع إيران من المنطقة، إن حصل، يبقى مرتبطاً بالدينامية الأميركية – الإيرانية فقط وما سوف يجري بين البلدين. ففي هذه المرحلة التي تسبق الانتخابات الأميركية بأشهر قليلة، يبدو هذا الموضوع حساساً لسببين رئيسين:
أولاً لأنه لا يمكن التنبؤ بما يمكن أن تقوم به الجهات المتشددة في إيران قبل الانتخابات الأميركية بما قد يؤثر على نجاح الرئيس دونالد ترمب فيها.
ثانياً لأنه لا يمكن التنبؤ أيضاً بحجم الردّ الذي قد يقدم عليه ترمب في حال استُفزّ، وهو المعروف بردود فعله غير المتوقعة. وعليه، يبدو من الصعب التكهن بمثل هذه الأمور، لكنها تبقى قائمة وواردة في مثل هذه الفترة، خصوصاً أن الرئيس الأميركي لا يحتمل نكسة إضافية بعد نكسة جائحة «كورونا» في الولايات المتحدة.
في المحصلة، ستبقى حرب الاستنزاف قائمة بين إيران في سوريا وإسرائيل ووتيرة الضربات الإسرائيلية مرشحة للتزايد، وهي إن كانت توجع إيران فإنها لن تقتلعها وتبقى على غرار ما شهده لبنان خلال السنوات الماضية من اعتداءات إسرائيلية متكررة لم تستطع في الماضي «اقتلاع» الفلسطينيين قبل حرب عام 1982، ولا هي اليوم قادرة على نزع سلاح «حزب الله». وكما حرب الاستنزاف مستمرة، كذلك الستاتيكو القائم في أكثر من منطقة حالها حال جميع اللاعبين في الإقليم، أما الخاسر الأوحد فيظلّ الشعوب المقتولة والمهجّرة والمعذبة بدون أي واعز أخلاقي.
المصدر: الشرق الأوسط