ترى استطلاعات الرأي أن مصالحها تؤكد ميلها نحو الغرب في مواجهته مع الصين وروسيا ولكنها تريد ذلك بلا تبعات. يكثر الحديث في أوساط البحث الاستراتيجي هذه الأيام عن مراجعة عميقة تجريها الهند لمواقفها التقليدية في السياسة الخارجية والتطورات الدولية، وتلك المحيطة بها. وهي مراجعة يراها بعضهم قد تعني القطيعة السياسية مع الماضي والانتماء إلى المستقبل في مسعاها الحثيث إلى الحصول على موطئ قدم في عالم ثورة العصر الرقمي. فلطالما تميزت الهند بسياساتها المتأرجحة في النظام العالمي لما بعد الحرب العالمية الثانية بين الشرق والغرب التزاماً بمبدأ عدم الانحياز، الذي كان ستاراً لإعلاء مصالحها، والبقاء طافية في عالم من الأمواج المتلاطمة.
ففي وقت تعتبر الهند أكبر ديمقراطية في العالم (من حيث الكتلة السكانية)، فإن الهنود كما يقول هنري كيسنجر في مقالة شرح فيها العقلية الهندية، ونشرها في “نيويورك تايمز” في 2006، لا ينظرون إلى الديمقراطية باعتبارها ترجمة لثقافتهم الهندية، بل ينظرون إليها باعتبارها تكييفاً عملياً، ووسيلة فاعلة للتوفيق بين مكونات المجتمع الهندي متعدد اللغات والثقافات الذي تشكل عبر ماضي الهند الاستعماري. على عكس الأميركيين الذين ينظرون إلى بلدهم باعتباره “المدينة المشرقة فوق التل”، فيما ينظرون إلى مؤسساتهم الديمقراطية على أنها فريدة وضرورية لبقية دول العالم وضمانة للسلام العالمي.
من هنا فإن قراءة سريعة لما تستنبطه مراكز البحث الفكري من توجهات جديدة في السياسة الهندية، وخصوصاً الحراك الاجتماعي الهندي، ترجح التصاق الهند بشكل متزايد بالغرب وثقافته ورؤيته للعالم من منظور انخراطها المتفاعل مع الثورة الرقمية الغربية، على أنها في الوقت نفسه لا تريد التورط في الجهود الغربية لفرض رؤيته الكونية على الآخرين.
في المقابل تبتعد الهند بسرعة السلحفاة عن دول مثل روسيا والصين، وهما الدولتان اللتان كانت الهند وما زالت شريكتهما في مشاريع كثيرة مثل تحالف “بريكس” الذي يضم إضافة إلى الصين وروسيا، جنوب أفريقيا والبرازيل، ويهدف إلى بناء نظام مضاد للنظام الغربي السائد، ومنظمة شنغهاي للتعاون التي تضم إضافة إلى الصين وروسيا، دولاً من الاتحاد السوفياتي السابق وباكستان، وهو جهد صيني لبناء كتلة سياسية واقتصادية وأمنية في الاتجاه نفسه، إضافة إلى انخراطها في الحوار الثلاثي الروسي – الهندي – الصيني.
ارتباطاتها القديمة
وخلال الحرب الباردة بين المعسكرين الغربي والشرقي، استطاعت الهند أن تتخفى خلف أستار “عدم الانحياز”، وكانت مواقفها بنظر المراقبين الغربيين حيال أكثر القضايا حسماً تراوح ما بين دعم المواقف السوفياتية أو البقاء في المنطقة الرمادية، وحققت بذلك شراكة عسكرية استراتيجية مع المعسكر الاشتراكي، وكان التسليح الروسي هو عماد الجيش الهندي، في مواجهة باكستان التي كانت أحد أبرز المعاقل المتقدمة للمعسكر الغربي في وجه الاتحاد السوفياتي ومناطق نفوذه زمن الحرب الباردة.
إلا أن المراقبين يلحظون تحركاً هندياً للتحول غرباً، إذ قلصت الهند مشترياتها من الأسلحة الروسية إلى النصف خلال العقد الأخير. ومع هذا تظل رسائل الهند مشتبكة، فهي لا تبتغي تقويض علاقاتها مع روسيا وواشنطن على حد سواء. ولهذا فهي تمسك بالعصا من المنتصف، أو ربما أن قراءة كيسنجر هي الأدق، فهو يرى أن البيروقراطية الهندية على رغم أنها محترفة ومؤهلة إلا أنها بطيئة جداً. وهنا يكمن السبب في عدم مغادرتها ارتباطاتها القديمة.
وما زالت الهند تعول على ارتباطاتها القديمة، وربما هكذا يجب أن تقرأ تصريحات وزير خارجيتها بشأن أوكرانيا، في يونيو (حزيران) الماضي، على هامش مؤتمر في سلوفاكيا التي رفض فيها إدانة الهجوم الروسي، وأكد إرسال بلاده المساعدات الإنسانية إلى كييف والاستمرار في مغازلة الولايات المتحدة الأميركية وإبقاء الخطوط مفتوحة معها. وهذا ما يبرر مواصلة الهند انخراطها في الحوار الأمني الرباعي في آسيا مع أميركا واليابان وأستراليا، لاحتواء الخطر الصيني، على رغم مما قد يبدو تناقضاً واضحاً، فمن جانب تعمل الهند مع الصين في قضايا الأمن ومن جانب آخر تعمل على احتوائها مع أميركا وحلفائها الآسيويين.
وحيال هذه الرسائل المشتبكة، يزداد ضغط الرأي العام الهندي، وخصوصاً استطلاعات الشرائح الشابة في المجتمع التي باتت تضيق من التأرجح الرسمي الذي يتحجج بالمصالح الهندية العليا في التمسك بسياساتها غير المنحازة، بما يبقي خطب ودها شرقاً وغرباً. وترى استطلاعات الرأي أن مصالح الهند بالأرقام والمؤشرات الاقتصادية تؤكد ميلها نحو الغرب في مواجهته المتنامية مع الصين وروسيا. ولكنها تريد ميلاً للغرب بلا تبعات، فيما يضغط الغرب نحو مزيد من
الصين تدفع الهند غرباً
ربما شكلت السياسات التصادمية بين الصين والهند نقطة التحول الرئيسة في التفكير الهندي الجديد، إذ يرى مراقبون أن العلاقة بين الجارتين الكبيرتين في آسيا انتقلت من “الارتباط التنافسي” إلى “التعايش التنافسي”، لتصير إلى “التعايش المسلح”، كما أشار وزير خارجية الهند السابق. فمنذ الاشتباكات الحدودية الأخيرة بين البلدين في 2020، توصلت الدوائر الاستراتيجية في نيودلهي إلى قناعة راسخة بأن الصين لا يمكن أن تكون شريكاً موثوقاً، بل إنها باتت تشكل خطراً وجودياً وداهماً على أمن الهند القومي. ولهذا يتجه القرار الاستراتيجي الهندي غرباً.
وكانت البداية في هزيمة الهند في الحرب الحدودية مع الصين في 1962 بعد انتفاضة التيبت، إلا أن عودة المواجهات في 2020، شكلت صدمة نفسية استراتيجية لصناع القرار الهنود. ففي عقيدتهم الاستراتيجية تشكل الدول الحدودية الصغيرة مثل بوتان وسيكيم ونيبال وسريلانكا، وحتى بنغلاديش، الحظيرة الخلفية للنفوذ الهندي للإبقاء على هيمنتها، حتى ولو استخدمت القوة. وتأتي الصين لتضرب في العمق هذه التوجهات.
وعلى رغم أن بكين تصر على إبعاد الخلاف الحدودي عن ملفات التعاون الدبلوماسي والدفاعي والاقتصادي بين البلدين، إلا أن الهند لم تعد تثق بالصين، وتعتبر أن الملف الحدودي شرط معياري لازم قبل أي حديث. من هنا فقد امتنع رئيس الوزراء الهندي عن لقاء الرئيس الصيني على هامش قمة سمرقند لمنظمة شنغهاي للتعاون في سبتمبر الماضي.
وخلال المرحلة الحالية تعمل الحكومة الهندية على إعادة عجلة الشراكة الصينية – الهندية التي شهدت نمواً كبيراً خلال العقود الماضية إلى الوراء، وبدأت بتقييد عمل الشركات الصينية وتحديداً في المشاريع المتصلة بالجوانب الحساسة والقطاعات الحرجة والعقود الحكومية، وقطاع تكنولوجيا الاتصالات، وخصوصاً إبعاد الصين عن شبكة الهند للجيل الخامس للاتصالات، ومراقبة الشركات الصينية التي تعمل على نقل البيانات. كما أنها حظرت تطبيق “تيك توك” الصيني في الأراضي الهندية.
السؤال الأصعب
في المقابل وسعت الهند علاقات المنافع المتبادلة مع أستراليا وفرنسا واليابان وكوريا الجنوبية وبريطانيا وأميركا والسعودية والإمارات، بما يقوي موقفها تجاه الصين في قطاعات الدفاع والأمن والاقتصاد ومجالات التكنولوجيا الرقمية.
ويبقى السؤال الأصعب إلى أي مدى يمكن انخراط الهند مع الجهود الغربية والأميركية لاحتواء الصين؟ فالتجربة التاريخية أكدت بما لا يدع مجالاً للشك أن التأرجح الهندي والإرث الكبير لعقيدة عدم الانحياز يفترضان أن تكون معياراً لمعرفة ما يمكن وما لا يمكن للهند القيام به. ويرى مراقبون للسياسة الهندية أن دلهي ستختار طريقها الخاص، ولكنه سيكون طريقاً يميل في اتجاه الدول التي تسعى إلى احتواء نفوذ الصين المتزايد في آسيا والعالم.
في الأخير الهند تريد أن تكون جزءاً من المشروع الآسيوي، ولكنها لا تريد أن تحسب على السياسات الصينية والروسية، كما هي حالها تجاه الغرب، وتريد أن تكون الهند وحسب. ويقول وزير خارجية الهند إن بلاده تتوقع أن يستمر الصعود الآسيوي المعقول، لأن المؤشرات الاقتصادية والديموغرافية ترجح ذلك، ولكنه يسأل إلى أي مدى ستتفادى الدول الآسيوية انقساماتها، فكل ذلك يعتمد على قدرتها أو إخفاقها في رتق التشققات بين دولها.
من هنا فإن الهند ربما تتحرك بسرعة السلحفاة، ولكنها وإن كان ذلك غير منظور بالعين المجردة، تتحرك غرباً بما يلائم ثقافتها وهويتها وشخصيتها الفريدة.
المصدر: اندبندنت عربية