تنعكس الاستدارة التركية نحو النظام السوري بشكل واضح في الميدان، بمنطقة ريف حلب الشمالي، حيث تحولت قضية اغتيال الناشط الشاب محمد عبد اللطيف أبو غنوم وزوجته حنان محمد الحسن الحامل بطفلة في شهرها الخامس، إلى حالة اقتتال بعد ثبوت تورط قيادة الصف الأول في إصدار أمر الاغتيال.
تدخلت هيئة «تحرير الشام» على الفور في المسألة وهددت «الفيلق الثالث» الذي سيطر على مقر الزراعة والكلية العسكرية في الباب شرقي حلب التابعين لفرقة «الحمزة» عقب حادثة الكشف عن المتورطين.
ودخلت هيئة «تحرير الشام» المعركة بـ «جيش عمر» و«لواء طلحة» ليل الأربعاء عبر محوري الغزاوية وجنديرس باتجاه منطقة عفرين ذات الغالبية الكردية، وقاد الهجوم، حسب مصادر عسكرية، القائد العسكري لهيئة «تحرير الشام» مرهف أبو قوصرة، المعروف باسم «أبو حسن 600» وهو المشرف على محور الهجوم من دير بلوط إلى جنديرس ومنها باتجاه عفرين، فيما قاد الهجوم على المحور الشرقي الذي يصل إلى الباسوطة فعفرين، مسؤول قطاع أريحا وجبل الزاوية، أكرم الترك «أبو أسامة».
قاومت حركة «التحرير والبناء» رتل «تحرير الشام» ومنعته من الدخول 24 ساعة لكن فرقة «سليمان شاه» المعروفة محليا باسم العمشات نسبة لقائدها محمد الجاسم أبو عمشة، قطعت طريق الإمداد والحركة بين منطقة جنديرس وعفرين وسيطرت على ناحية المعبطلي شمال عفرين، وهو ما أجبر قادة «أحرار الشرقية» و«جيش الشرقية» على تحييد فصيليهما عن القتال.
على محور الباسوطة، وهي المنطقة التي تسيطر عليها فرقة «الحمزة» ويقودها النقيب حازم مرعي فقد انضمت للقتال إلى جانب «تحرير الشام» رغم إعلان قائد القاطع بداية عدم تدخله بالاقتتال الذي بدأ إثر عملية الاغتيال في مدينة الباب.
الاختراقات الحاصلة وخصوصا التي قامت بها الفصائل الموالية للواء السلطان مراد، دفعت «الجبهة الشامية» و«جيش الإسلام» وهما القوتان الرئيسيتان في «الفيلق الثالث» إلى تفضيل الانسحاب والتراجع من مدينة عفرين نحو منطقة كفرجنة وذلك لعدة أسباب، أهما عدم خوض حرب شوارع في مدينة مكتظة بالمدنيين، لكن السبب الأهم هو شعور الجبهة الشامية بغدر الفصائل بها بحجة موقف الحياد من الاقتتال، أضافة إلى أن منطقة كفرجنة تعتبر حصناً متقدماً غرب مدينة اعزاز وهي المعقل الرئيسي لـ«لجبهة الشامية».
تابعت كتائب «تحرير الشام» (جبهة النصرة) التقدم باتجاه كفرجنة ليل الخميس، وفشلت بتحقيق أي خرق في المحور، على العكس تمكن الفيلق الثالث من السيطرة على موقعين استراتيجيين جنوب عفرين، وهو ما أشعر قادة «تحرير الشام» انهم قد يقعون في كمين وتجري عملية التفاف على ارتالهم المنتشرة على طريق عفرين -كفرجنة.
بالموازاة جرت جولة مفاوضات بين القائد السابق للفيلق الثالث أبو أحمد نور وقائد «تحرير الشام» أبو محمد الجولاني، وقال مصدر مقرب من قيادة الجبهة الشامية إن اللقاء عقد في معبر باب الهوى الحدودي مع تركيا، واستمر لساعة متأخرة من يوم الخميس، وتوقفت الاشتباكات ودخلت المنطقة هدنة غير معلنة خلال التفاوض، وعلمت «القدس العربي» من المصدر أن الجولاني اشترط لوقف القتال عدة شروط «أبرزها تشكيل قيادة موحدة أمنية ومدنية وخروج الفصائل من المدن وتمركزها على الجبهات مع النظام» ولكنه أجل الخوض بالتفاصيل حتى موافقة الفيلق الثالث. وأضاف «المصدر» أن الجولاني قال لنور أنه لن يوقف الحشد على اعزاز ويتراجع إلى عفرين إلا إذا دخلت قواته إلى قلب مدينة اعزاز حيث «دوار الجمال» ومن ثم تتراجع ووصف المصدر الخطوة بان الهدف منها «إهانة الجبهة الشامية وتكسير أسها» حسب تعبيره.
انتهت جلسة الخميس دون احراز تقدم، واتفق الطرفان على عقد جلسة مساء الجمعة، حضرها قائد الفيلق الثالث، حسام الياسين «أبو ياسين» إضافة لقائد المركزيات، مهند الخلف، الملقب أبو أحمد نور، وتوصل الطرفان إلى اتفاق مبدئي احتوى عشر نقاط، هي، وقف إطلاق نار شامل وإطلاق سراح كافة الموقوفين من جميع الأطراف وعودة قوات الفيلق الثالث إلى مقراته وثكناته، وفك الاستنفار العسكري الحاصل لدى تحرير الشام وعدم التعرض لمقرات الفيلق الثالث، ويتركز نشاط الفيلق الثالث في المجال العسكري فقط وعدم ملاحقة أي أحد بناء على خلافات فصائلية وسياسية. وتشير الفقرتان السادسة والسابعة إلى تنازل كبير من قبل قائد الفيلق الثالث، حيث لم ينص الاتفاق على انسحاب «تحرير الشام» من منطقة عفرين ولم يأت على ذكر عودة الأمور إلى ما قبل الثلاثاء، إضافة إلى ان البند السابع يحصر عمل «الفيلق الثالث» بالمجال العسكري وهو ما يمنعه من ممارسة أي نشاط اقتصادي أو سياسي أو حوكمي أو على صعيد المؤسسات الأمنية أو الشرطة المدنية أو العسكرية.
وعقب نشر بنود الاتفاق، سارعت قيادة الفيلق الثالث إلى تكذيبه أو اعتباره مسودة فقط أو خريطة طريق للحل، وعلمت «القدس العربي» من مصادر عسكرية في الفيلق المذكور، ان القادة العسكريين غضبوا جدا من نص الاتفاق وبعضهم تحدث مع «أبو ياسين» بشكل غير لائق، إضافة إلى اعتراض قيادة «جيش الإسلام» على الاتفاق، الأمر الذي دفع أبو ياسين إلى إخطار الجولاني بسحب نص الاتفاق بهدف إضافة بند ينص صراحة على مغادرة «تحرير الشام» منطقة عفرين بشكل كامل. وعزز صد هجوم «تحرير الشام» من معنويات جنود «الفيلق الثالث» خصوصا مع احباطهم من محاولات الاقتحام التي قامت بها العصائب الحمراء وكتائب خالد بن الوليد وهما قوتا النخبة في هيئة «تحرير الشام». وتتحدث مصادر الفيلق عن مقتل نحو 100 عنصر من «الهيئة» خلال يومي الخميس والجمعة وحدهما.
سياسيا، أصدر الائتلاف الوطني السوري المعارض بيانا دان فيه الاقتتال، ولكنه لم يجرؤ على ذكر اسم «تحرير الشام» في حين غرد رئيس الحكومة السورية المؤقتة ان حكومته «تواصل إدارة مدينة عفرين» مشيرا إلى أن «القوات الأخرى غادرت المدينة» من دون ان يسمها، مشيرا إلى أن المؤسسات «المدنية والعسكرية تعمل بشكل كامل وتستمر بتقديم الخدمات للمدينة وأن المؤسسات الأمنية ستسهر على أمنهم وحماية ممتلكاتهم ولن تسمح بحدوث أي فوضى أو انفلات أمني». كما بثت تصريحا مصورا لناطق باسم وزارة الدفاع المعارضة، أكد فيه صباح الجمعة، خلو المدينة من كافة المظاهر المسلحة والفصائل وان من يقوم بحفظ الأمن والأمان هم الشرطة المدينة والعسكرية، وبعد دقائق من كلام المتحدث، بث نشطاء صورا لآليات وعربات عسكرية تتبع لهيئة «تحرير الشام» تتجول في شوارع عفرين الرئيسية وساحاتها، كما سرب السكان المحليون الأكراد صورا تظهر جهاز الأمن العام التابع للجولاني يقوم بتدقيق البطاقات الشخصية للساكنين في المنازل. في حين واصل المجلس الإسلامي السوري اتخاذ مواقف حازمة للغاية من «تحرير الشام» فأصدر بيانا، الأربعاء، حدد من خلاله موقفه من الأحداث الحاصلة في الشمال السوري، ودعا فيه إلى الوقوف بوجه هيئة «تحرير الشام» وفرقتي «الحمزة» و«السلطان سليمان شاه».
وقال البيان إن المجلس «يتابع ما يجري من اختطاف لناشطي الثوار أو اغتيالهم، وعدم مراعاة لحرمة النساء والحمل في بطونهن استجابة لأوامر تنفذ حرفياً، وما يحصل من انتشار للفساد والظلم والبغي، وتعطيل للتعليم».
وطالب البيان العناصر المنتمين لـ«هيئة تحرير الشام» و«فرقة «الحمزة» و«السلطان سليمان شاه» بوجوب حقن الدماء والامتناع عن طاعة من يأمرهم بمعصية، والابتعاد عن ترويع الآمنين أو الاحتماء بمخيماتهم، فإنّهم إنّما يقاتلون -في هذه المعركة- المصلحينَ من أجل الفاسدين.
على الصعيد الكردي، أرعب تحرك «تحرير الشام» الكيانات الكردية السورية وعلى رأسها المجلس الوطني الكردي ورابطة المستقلين الكرد وترك أعضاؤها مكاتبهم وهروبوا باتجاه مدينة اعزاز يوم الجمعة، وحمل المجلس الوطني الكردي مسؤولية ما يحصل للأطراف الدولية والإقليمية وحدد تركيا بشكل صريح ومباشر.
رغم تعقد المشهد في الشمال السوري، إلا أن نتائجه في نهاية الأمر ستتمكن أنقرة من استثماره وبلورته كورقة سهلة التفاوض مع النظام السوري، أما الحديث عن سر التحالف بين «شاتمي» بعضهم كل الوقت، فنعتقد أنه لا يمت للمصلحة بمعناها السياسي بشيء وهو بعيد عن الواقع وأقرب للخفة والسذاجة. فالجولاني يسعى إلى بسط نفوذه على كامل المحور في الشمال السوري، بعد نجاح تجربته في إدلب ومحيطها. كما أن أنقرة قد اختبرته جيدا بقضية الالتزام بالاتفاقيات التركية- الروسية. فقد سيرت الهيئة ارتالا ومرافقة لحماية قوات الشرطة العسكرية الروسية على طريق حلب-اللاذقية. وسيدفع القتال في حال استمراره إلى تشكل جبهة من الفصائل تكون أكثر التصاقا بأنقرة، وهي بالفعل جبهة الراكضين إلى التسوية مع النظام السوري في حال تمكن رئيس جهاز المخابرات في البلدين من التوصل إلى خريطة طريق يتوقع ان تتبلور معالمها قبل نهاية العام بكل تأكيد. انها بالفعل جبهة الطيعين.
المصدر: القدس العربي