تُحاول مختلف الجهات الدولية والعربية، وجماعات سورية معارضة أو موالية، العمل على تصوّر صياغة لمستقبل سورية بما يتناسب وأولوياتها أو مشروعها أو أجندتها الخاصة، بغضّ النظر عن مجموع إرادات الشعب السوري، ومدى تقبلهم أو خلافهم مع تفاصيل (وطرق) تنفيذ تلك الصياغات أو المبادرات في الواقع السوري. فبينما تسعى جهات دولتية للإبقاء على سورية ملفاً ثانوياً يُضاف إلى قضايا كبرى، مثالها ارتباط الحل السوري بالتوافق على حل الملف النووي الإيراني، وآليات التزام إيران استحقاقاته، ليكون لها حصّة في تقاسم النفوذ على سورية، وفق الإرادة الأميركية – الاسرائيلية، أو تبقى مواقعها في سورية تحت عين سلاح الجو الاسرائيلي ومرماه، بينما يحدُث هذا تصرّ جهات دولية أخرى، أيضاً، على ربط الملف السوري حالياً بالغزو الروسي لأوكرانيا، وبتأثيراته في موقع روسيا دولياً، وما نتج ويمكن أن ينتج منه واقعياً، بسحب التكليف الأميركي السابق لموسكو بإدارة الصراع في سورية، بعد سنوات من التعاطي معها دولياً على أنها الطرف الفاعل في ذلك البلد، والسماح لها بالتحرّك جنوباً، وعقد التسويات مع فصائل المعارضة لتبريد الجبهات القريبة من الحدود السورية مع إسرائيل، وإبعاد المليشيات التابعة لإيران عنها، وكذلك خوض غمار الحرب شمالاً واستعادة حلب من المعارضة المسلحة لكبح جماح تمدّد النفوذ التركي في سورية من جهة، وحماية مصالح الكرد الموالين للولايات المتحدة، من جهة أخرى.
استنفد الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، بإعلانه أخيراً ضمّ مناطق أوكرانية إلى الاتحاد الروسي فرص التصالح مع الجانبين الأميركي والأوروبي. وبالتالي، إن التعاطي معه بوصفه دولة معتدية في أوكرانيا سيسحب منه التفويض باعتباره دولة راعية للحل في سورية أيضاً، حيث لا يمكن منحه الفرصة من جديد لحضوره دولياً في أي عملية تسوية قادمة، ما يترك الفرص لإيران في حال تجديدها التزامها الاتفاق النووي أن تكون صاحبة الحظوة الأكبر في سورية. أي إن الصراع في سورية لا يمكن فصله عن محاولات روسيا لتوسيع نفوذها وتعزيزه في أوروبا وفي الشرق الأوسط، بما يعنيه ذلك من إبقاء الصراع السوري عالقاً، من دون حلول، إلى حين توصل الولايات المتحدة والدول الأوروبية إلى طريقة لوضع حد للحلم الإمبراطوري الروسي في أوكرانيا وغيرها، وهذا لن يحدث مع بقاء بوتين في السلطة.
هكذا، ففي غياب الدور الروسي أو تغييبه، والذعر الذي يسببه واقع حال سورية وغياب “الدولة” والفوضى السياسية والأمنية، داخل سورية وعلى الحدود مع جيرانها، دفع إلى تعويم الحديث عن مبادرات عربية لإنضاج حل للقضية السورية، يحدّ من تصدير النظام السوري أزماته إلى جواريه، العربي والإقليمي، أي انطلاق العمل العربي من مفهوم ردّ الأذى عن أنفسهم، ووضع حدٍّ لما تنتجه الاضطرابات الاجتماعية ونشوء جماعات خارجة عن القانون، مثل عصابات تهريب المخدّرات التي باتت تحظى برعايةٍ مكشوفة، سواء من نظام الأسد، أو من مليشيا حزب الله، بمعنى أنها مبادرةٌ لكفّ أذى “بلطجة” النظام السوري عن الحدود مع جيرانه مقابل عودته إلى سجل الاجتماعات العربية.
السؤال الآن هو عن الضمانات التي يمكن أن يحصل عليها الأردن بوصفه راعياً للمبادرة من النظام السوري، إذا افترضنا أن الأردن يملك قرار المعارضة في الجنوب بالقبول بما تنتجه المبادرة. ولكن ما هي عوامل القوة التي تمتلكها المبادرة العربية لإلزام النظام بالذهاب إلى تسوية، مع وجود تجربة قريبة من تركيا، وردود النظام المتعنّت تجاه أي حلٍ لا يعيد له هيمنته الأمنية والتنفيذية على كامل مساحة الأراضي السورية، وهو ما اشترطه في التقارب مع تركيا التي تسيطر عسكرياً وسياسياً على نحو 11% من سورية، فيما لا تملك الدول العربية أي أرض تقايض عليها مقابل عملية التطبيع التي تتأملها من النظام، باستثناء وعود في تدفق المال الخليجي لعملية إعادة الإعمار، وهذا يعوقه قانون قيصر والعقوبات الأميركية السابقة والمحتملة التي تلاحق النظام السوري، باعتباره تاجر مخدّرات ومتهماً محتملاً في جرائم حرب، فهل تستطيع تلك الدول إهداء النظام السوري “سورية ما قبل 2011″، وكأن شيئاً لم يحصل، وذلك عبر مبادرتها التي تتولاها المملكة الأردنية الجارة، التي تنوء بحمل اللاجئين، وتئنّ حدودها من شحنات المخدرات والتلاعب بأمن حدودها ومخيمات اللاجئين فيها؟
أمن المملكة وسلامة مجتمعها من المخدّرات، ورغبتها في التخفيف من أعباء اللاجئين، دافع قوي لمبادرتها وحركتها دولياً وعربياً، وللبحث عن مخرج يعيد حالة الطمأنينة السابقة إلى حدودها، الأمر الذي يستوجب مثل هذا الحراك، لكن ذلك يستوجب، في الوقت نفسه، الحصول على ضمانات من النظام، وهو المستفيد الأول من تلك المبادرة، ومن جهاتٍ دوليةٍ تتحكّم بمناطق واسعة جنوباً وشمالاً في البلد، أي أن تكون تلك المبادرة شاملة كل الأراضي السورية، ومنصفة لكل الأطراف، وليست على حساب المعارضين للنظام، أو على حساب وحدة الأراضي السورية.
أقصد أن المعطيات الحالية لا تتيح أو لا تسمح بمبادرة من أي نوع، من الأردن أو من أي طرف آخر، فالأمر لا يتعلق بالنيات، بل يتعلق بموازين القوى، وبطبيعة الصراع بين الأطراف على الأرض السورية، فمن جهة النظام، يمكن أن يقبل بأية مبادرة قد تسهم برفع العزل عنه، من دون أي مقابل منه، أي بالتطبيع معه، لكنه لا يريد أن يقدِم على أي خطوة تفتح على التطبيع مع المعارضة، أقصد خطوة تسمح بإحداث تغيير سياسي ما وفق منطوق قرار مجلس الأمن رقم 2245. وبفرض أن الضغوط على النظام وصلت إلى حد اضطراره إلى الدخول في أية تسوية، فإن الأطراف الشريكة له لا تسمح له الآن بذلك، لا إيران، ولا روسيا، لأن كل واحد منهما يريد أن يستخدم سورية ورقة في سعيه لفرض مصالحه ونفوذه إزاء الأطراف الدوليين الآخرين.
المصدر: العربي الجديد