وأخيرًا وضعت المليشيات المسلحة خلافاتها حول تسمية رئيس الحكومة جانبا، والتي استمرت عدة شهور. لكن ليس بسبب انتصار طرف على اخر، او وصولها الى اتفاق او عقد هدنه، وانما حدث ذلك بعد الامر السلطاني الامريكي بتمرير مرشحها لرئاسة الحكومة مصطفى الكاظمي، او مواجهة نتائج لا تحمد عقباها، خاصة وان الولي الفقيه الايراني علي خامنئي، الاب الروحي لهذه المليشيات، قد اضطر الى الخضوع للامر الواقع، بعد فشل مندوبيه في الحفاظ على عادل عبد المهدي في منصبه. وقد اشرنا لهذا الامر في مقالنا المنشور قبل ثلاثة اسابيع وتحديدا في السابع عشر من الشهر الماضي تحت عنوان “امريكا وايران وثالثهم كلبهم”، وقلنا بالحرف الواحد، ” لقد اضطر رعاة العملية السياسية، امريكا وايران، الى وقفها، اي الخلافات، والاتفاق على تكليف المدعو مصطفى الكاظمي لتشكيل الحكومة الجديدة. خاصة وان كلا البلدين المحتلين قد وجد في الكاظمي قاسما مشتركا ومقبولا. حيث رأت ايران فيه الرجل الذي قد يستطيع لعب دور في تخفيف حدة التوتر مع امريكا، في حين رأت امريكا في الكاظمي الشخص القادر على لملمة الوضع، والحد من اعتداءات المليشيات المسلحة على القوات الامريكية وقواعدها المنتشرة في العراق”. بالضبط كما فعل الطرفان قبلها بتنصيب عادل عبد المهدي المستقل رئيسا للوزراء، بعد فشل زعماء المليشيات في الوصول الى اتفاق حول ترشيح شخصية من بينهم. وبدل ان ينبس احدا منهم ببنت شفه، تسابقوا في تقديم فروض الولاء والطاعة للقادم الجديد، لنيل حصة اكبر في حكومته المرتقبة. وبالتالي لم يكن توقعنا بتمرير حكومة الكاظمي بحاجة الى ذكاء او خبرة.
اذن سقط القناع عن هؤلاء الاشرار، وعلى وجه الخصوص الذين تاجروا بالوطنية ودعمهم للثورة العراقية، واعتبار ساحة التحرير هي الكتلة الاكبر التي من حقها تسمية رئيس الحكومة، والمقصود هنا، كتلة سائرون التي تضم مقتدى الصدر وتياره الموهوم والحزب الشيوعي المنقرض، حيث افتضحت اكاذيبهم واساليبهم الوضيعة. فالكاظمي الذي صوتوا له هم اكثر علما من غيرهم بانه ابن العملية السياسية، ويشغل منصب رئيس جهاز “الامن الوطني”، وهو الذي وصفوه بانه عميل المخابرات الامريكية، وهو الذي شارك باغتيال قاسم سليماني وابو مهدي المهندس. وهو الذي توسلوا اليه لنيل حصة الاسد من الحقائب الوزارية. اما لماذا اختارت امريكا الكاظمي وتمسكت به، في حين تخلت عن مرشحيها محمد توفيق علاوي وعدنان الزرفي، فهذا يدخل في خانة المقولة الدارجة ” للضرورة احكام”. فالتمسك بالكاظمي جاء على خلفية عجز هؤلاء عن اختيار شرير من بينهم يتوافقون عليه، وفشلهم ايضا في انهاء الثورة العراقية او الالتفاف عليها، او الحد من تصاعد الاستياء الشعبي ضدهم. الامر الذي قد يؤدي الى نهايتهم جميعا دفعة واحدة.
اما احكام هذه الضرورة امريكيا وايرانيا، فهي اختيار رئيس غير متهم بارتكاب جرائم وسرقات مثل نوري المالكي او عادل عبد المهدي او هادي العامري، او ينتمي علنا الى هذه الميليشيا او تلك، ليسهل تمرير حكومته بين الناس على انها حكومة مستقلة، وان رئيسها هو بمثابة المخلص او المنقذ، على امل كسب ثقتهم وتوجيه انظارهم اليها، وبالتالي حرمان الثورة من وقودها الدائم، ليسهل لاحقا عزلها واضعافها ومن ثم اجبارها على التراجع او القبول بانصاف الحلول. وفي هذا الخصوص، لا نستبعد اطلاقا، كما ذكرنا في المقال نفسه، اقدام الحكومة بعد تشكيلها على اتخاذ اجراءات او قرارات سريعة تلبي بعض حاجات الناس، من قبيل توفير بعض الخدمات الضرورية والحد من الفساد الاداري والمالي مؤقتا ،وربما احالة مجرمين ومفسدين في العملية السياسية من الدرجة العاشرة الى القضاء واصدار احكام بحقهم.
هذا السلاح استخدمته امريكا من قبل وسمته السلاح السياسي، واعتبرته في مثل هذه الظروف اكثر تاثيرا من السلاح العسكري، او كما وصفته كونداليزا رايس وزيرة الخارجية الامريكية في عهد بوش الابن، بانه اشد تاثيرا من الطائرة والدبابة والمدفع. فحين عجزت امريكا عن انهاء المقاومة العراقية عسكريا، او الحد من توسعها وانتشار لهيبها الى عموم مناطق العراق ومدنه، فتحت ابواب مشاجب سلاحها السياسي للالتفاف عليها وتشتيت قواها ومنعها من تحقيق انتصارها النهائي. وحققت نجاحات مهمة في عز قوة المقاومة في عام 2005 ، 2006 ، 2007. حيث اقنعت بعض فصائلها بالمشاركة في الاستفتاء على الدستور، وفي الانتخابات “التشريعية” وما سمي بالعملية السياسية، مقابل منحها مكاسب فئوية ضيقة، لتنتهي بالنجاح الاكبر، ونعني به تشكيل ما يسمى بالصحوات، التي طعنت المقاومة في ظهرها طعنة لئيم غادر. وبالتالي يمكن القول لقد ذهب عادل عبد المهدي وحل محله مصطفى الكاظمي وستبقى دماء العراقيين الطاهرة تسيل، اذا لم تسقط العملية السياسية برمتها، وتشكيل حكومة وطنية مستقلة فعلا.
اما الذين يتحدثون اليوم، زورا وبهتانا، عن اصلاحات وتغييرات وتحقيق المعجزات على يد القادم الجديد و”حكومته الوطنية المستقلة”، فهم من جهة غير واثقين اصلا بما يقولون، لانهم ببساطة شديدة جدا يعتاشون على فتات هذه الحكومات، او “لحم كتافهم من خيرها” كما يقال. او في نفوسهم مرض الطائفية المزمن، الذين يغنون للقادم الجديد، حتى تبقى السلطة بيد الطائفة وما ينطوها، على حد تعبير “مختار العصر” المخلوع نوري المالكي. والطائفة والمذهب الشيعي منهم براء. وبذلك يرتكب هؤلاء جريمة نكراء ويساهمون في اراقة مزيد من دماء العراقيين الطاهرة. فالكاظمي لن يكون سوى الوجه الاخر لسلفه عادل عبد المهدي، كونه جاء من نفس مستنقع العملية السياسية الطائفية، ومن ذات المنطقة الخضراء. اما حكومته، فهي لم تشكل من وجوه وطنية ونزيهه وكفوءة ومخلصة وتضع الله بين عيونها كما وعد، وانما ضمت وجوها من هؤلاء الاشرار او بترشيح منهم. ناهيك عن ان الكاظمي نفسه جاء بامر امريكي وبتنسيق مع
ملالي طهران، وعلى رؤوس الاشهاد، ولم يات من وسط المظلومين والمضطهدين أو الغلابة كما يقول المصريون. وبالتالي فان حكومة الكاظمي لن تخرج من جلباب ابيها المحتل، سواء كان امريكيا او ايرانيا. وهذا يعني بان مهمتها ستكون حتما امتدادا لمهمات الحكومات السابقة، وفي مقدمتها القضاء على اي تململ او احتجاح او انتفاضة او ثورة تقوم ضد هذه العملية السياسية او حتى اصلاحها من داخلها.
قد يحدثنا البعض عن دور الفرد في التاريخ، وان مصطفى الكاظمي هو ذلك الشخص الذي ادخره القدر لهذا اليوم، فلماذا لا نعطيه الفرصة ونؤيده ونلتف حوله؟
هنا يكون التذكير مناسبا بقول الامام علي ابن ابي طالب عليه السلام حين قال للخوراج ردا على اقتراحهم بالاحتكام الى القران ” انها كلمة حق يراد بها باطل” وانا اقول للخوارج من احباب المحتل ومن اتباعه ومريده والمستفدين منه نفس الشيء، فجدار الاسمنت المسلح الذي وضعه المحتل في وجه كل من يحاول الاصلاح، لا يمكن احداث تقب ابرة فيه، او المساس بسياج العملية السياسية الطائفية بكل مكوناتها، من انتخابات وحكومة وبرلمان ودستور، فهذه قد جرى تصميمها بطريقة لا تسمح اطلاقا للقادم الجديد بتغيير قواعدها التي استندت اليها. وعلى ارض الواقع فانه لم تمض سوى ساعة واحدة على نيل حكومة الكاظمي الثقة، حتى سارع جميع متزعمي المليشيات المسلحة بتصريحات تنفي الاقدام على اجراء انتخابات مبكرة او تعديل الدستور او قانون الانتخابات او غيرها. في حين لم نسمع من الكاظمي اي خبر عن الانتخابات المبكرة وتعديل قانونها او تقديم قتلة الثوار للمحاكم. بل لا اجازف اذا قلت، بان الكاظمي وحكومته سيتعاملان مع الثوار بالطريقة الاجرامية نفسها التي تعامل بها سلفه عادل عبد المهدي وحكومته. ولكي لا نطيل اكثر، فان هذه الظاهرة ليست استثناء عراقيا، وانما هي سمة العملاء في كل مكان وزمان. وبالتالي فاية مراهنة على احداث تغيير من داخل هذه العملية السياسية، هي مراهنة خائبة لن يكتب لها النجاح اطلاقا.
خلاصة القول، ان حكومة الكاظمي شانها شان الحكومات السابقة، هي سلطة احتلال وليست حكومة عراقية، واذا سلمنا بها كحكومة، فهي حكومة عميلة وليست حكومة وطنية، حكومة قتلة وسراق المال العام وفساد لا مثيل له في تاريخ الشعوب، وليست حكومة ديمقراطية، فالنظام الديمقراطي، لا يستوي مع نظام محاصصة طائفية وعرقية وعشرات الميليشيات المسلحة، وان رعاة العملية السياسية، امريكا وايران، لا يعملان، بل لا يفكران للحظة واحدة القيام بخطوة لصالح العراق والعراقيين، وانما يعملان بكل ما اوتيا من قوة لتدمير العراق دولة ومجمتعا. هذه هي الحقيقة التي اثبتتها سنين الاحتلال العجاف. وهذه الحقيقة تقودنا الى حقيقة اخرى، هي ان الثورة العراقية هي الحل الاوحد، وان موجتها الثالثة اتية لا ريب فيها، وإنها منتصرة قطعا عاجلا ام اجلا.
المصدر: العراق العربي