يلاحظ المراقب المتابع للتحرك السياسي الإيراني اتّساع نطاقه، ليشمل دولاً وأقاليم في جميع القارّات، وتنوعه، ما بين سياسي واقتصادي وعسكري واجتماعي وديني/ مذهبي، ويلمس، من دون كبير عناء، الفرص والمخاطر التي ينطوي عليها هذا التحرّك في ضوء تعدّد الساحات والقوى وتعارض المصالح وتضاربها، ما يثير أسئلةً حول طبيعة المنهج السياسي الذي يفتح ملفات ساخنة في كل هذه الساحات، وما يترتب عليها من نتائج وانعكاسات على الأهداف الاستراتيجية للنظام الإيراني، بما في ذلك كلفة مادية وبشرية كبيرة ومؤثرة على مستقبل الدولة والمجتمع الإيرانيين.
بدأ التحرّك الإيراني الشامل بُعيد قيام الثورة الإسلامية عام 1979، في جواره القريب، العراق ودول الخليج العربي، تطلق عليه طهران تسمية جغرافية هي غربي آسيا، على خلفية رفضها الاعتراف بعروبته، هو، التحرّك، استمرار لتحرّك كان الشاه المخلوع، محمد رضا بهلوي، قد بدأه في ضوء تصوّرٍ للهيمنة على المنطقة من غرب إيران إلى قناة السويس، تحت راية تصدير الثورة ونُصرة المستضعفين، محرّضاً الشعوب العربية على حكّامها ودعوتها إلى الالتحام معه لرفع المظلومية التاريخية عن الشعب الفلسطيني المسلم بتحرير فلسطين عبر تشكيل قوةٍ مقاتلةٍ من عشرين مليون مقاتل، جيش القدس، ولمّا اكتشفت عدم جدوى هذا الخيار واستحالته، انتقلت إلى بديلٍ أكثر عمليةً باستغلال مظلومية الشيعة العرب، وتحريضهم على التمرّد على الحكام السنّة ورفض شرعيتهم والإعلان عن ولائهم لولي الفقيه، ما قاد إلى انفجار الحرب العراقية الإيرانية التي استمرّت ثماني سنوات، محصلتها خسائر بشرية ومادية كبيرة للدولتين والشعبين، ما دفع النظام الإيراني إلى تغيير استراتيجيته في ضوء توازن القوى الذي يحكمه الوجود الأميركي في هذه الدول، ويجعله في غير صالحه، فتبنّى خيار التسلل إلى داخل المجتمعات العربية وتفكيكها وتمزيق نسيجها الاجتماعي، عبر تشكيل كيانات سياسية وعسكرية للتجمّعات الشيعية فيها وتحويلها إلى أذرع له، وتوظيفها في تحرّكه ومعاركه للضغط على الأنظمة العربية ورعاتها الأميركيين.
دفع اعتماد دول الخليج العربي على القوة الأميركية لحماية أمنها الوطني إيران إلى لعب ورقة فلسطين، لإحراج هذه الدول في ضوء تبنّي الولايات المتحدة إسرائيل وسعيها إلى تكريسها قوة مهيمنة في الإقليم بتفوقها على العرب مجتمعين؛ والضغط على الإدارات الأميركية، عبر السعي إلى تطويق إسرائيل وإلحاق الأذى بها من خلال الحركات المسلحة العربية، الشيعية والسنّية، التي ترعاها تسليحاً وتمويلاً.
وقد ساعدت الحروب الأميركية في العراق وأفغانستان إيران على التمدّد في العراق والتحكّم بخياراته وقراراته، كما سمحت لها تداعيات الربيع العربي وثوراته المجهضة والمواقف الإقليمية والدولية منها بتحقيق هدفها بالتغلغل في ثلاث دول عربية أخرى، سورية ولبنان واليمن، وفرض خياراتها على مساريها السياسي والاجتماعي.
يشير المشهد السياسي، الإقليمي والدولي، إلى انخراط النظام الإيراني في معارك سياسية ودبلوماسية واقتصادية وعسكرية، في مسعى منه إلى تحقيق هدفين رئيسيين: دفع الإدارة الأميركية إلى القبول بشروطها للعودة إلى الاتفاق النووي الإيراني، المعروف رسمياً بـ “خطة العمل الشاملة المشتركة”، خصوصاً إغلاق وكالة الطاقة الذرية تحقيقها حول اكتشاف أثر يورانيوم مخصّب في ثلاثة مواقع غير مصرح بها. تعهد أميركي بعدم الانسحاب من الاتفاق مستقبلا، أو تقديم ضماناتٍ بالسماح للشركات الدولية بالعمل فيها في حال انسحاب إدارات قادمة منه، فالتحرّكات والمناورات السياسية الإيرانية مركّبة وشديدة التعقيد، تبدأ من رفع شعار إخراج القوات الأميركية من الإقليم والتحرّش بهذه القوات، بما في ذلك مضايقة السفن التجارية والعسكرية في الخليج العربي والبحر الأحمر، حجزت ثلاث سفن مراقبة مسيّرة من طراز سالدرون إكسبلورر، واحدة في الخليج واثنتين في البحر الأحمر، وأعادتها بعد نزع كاميرات إحداها، وتحريض فصائل تابعة لها شرقي سورية على تعزيز وجودها ونشر خلاياها في منطقة شرق الفرات، ومهاجمة القوات الأميركية المنتشرة هناك، مروراً برفع سويّة التعاون والتنسيق مع الصين وروسيا، عقدت، في إطار خيارها السياسي القطع مع الغرب والتوجّه شرقاً، مع الأولى اتفاقية استراتيجية مدتها 25 عاماً تقوم بها الصين بتطوير البنى التحتية، خصوصاً في مجال الطاقة والنقل، وتمويلها بمبلغ سنوي يفوق الخمسة عشر مليار دولار، وتنوي عقد اتفاقية مماثلة مع روسيا، وتبنّت وجهة نظر الأخيرة عن غزوها أوكرانيا وباعتها طائرات من دون طيار قاذفة وانتحارية، من طراز “مهاجر 6″ و”شاهد 129” و”شاهد 191″، فرضت الإدارة الأميركية عقوباتٍ على الحرس الثوري الإيراني لعلاقته بتصنيع هذه المسيّرات؛ وعلى شركة إيرانية وأفراد آخرين لدورهم في تصديرها، واتفقت طهران معها على مساعدتها في كسر العقوبات الغربية على النفط والغاز بنقل كمياتٍ منهما إليها وبيعهما كنفط وغاز إيرانيين، علماً أنّها في تنافس محموم معها لتسويق نفطها وغازها في الصين والهند، كما سعت إلى شراء أسلحة روسية متطوّرة، طائرات سوخوي 35، إطلاق قمر صناعي تجسّسي، أطلقته روسيا من قاعدتها الفضائية في كازاخستان، ميناء بايكونور الفضائي، ونسّقت معها عسكريا في سورية للحفاظ على التوازن القائم ومضايقة القوات الأميركية شرق الفرات والتنف. وباعت مسيّرات لفنزويلا، وسعت إلى الانضمام لمنظمة شنغهاي للتعاون، في تحدٍّ صريح للولايات المتحدة، وقد وسّعت دائرة احتكاكاتها بحلفاء الولايات المتحدة في ضوء رفض الأخيرة مطالبها للعودة إلى الاتفاق النووي، عرقلة استخراج الغاز من حقل القرش (كاريش بالعبرية)، حيث أرسل حزب الله مسيّرات غير مسلحة فوق سفينة التنقيب “إنرجان باور” وهدّد بمنع استخراج الغاز قبل تحقيق مطالب لبنان في ترسيم الحدود البحرية، وقصف مواقع في كردستان العراق، للتعبير عن رفضها تصدير غاز الإقليم إلى أوروبا عبر تركيا، ودعمت قوات حزب العمال الكردستاني في مواجهته مع بشمركة الإقليم في منطقة سنجار، وأرسلت عملاء إلى الأراضي التركية لقتل سياح إسرائيليين أو اختطافهم، نشرت السلطات التركية لقطات نادرة توثق ملاحقة العملاء الإيرانيين السياح الإسرائيليين في إسطنبول، ما وفر مزيداً من المعلومات عن خطط إيران ضد الإسرائيليين، واستقبلت أمين عام حركة الجهاد الإسلامي في فلسطين، زياد نخالة، على مستوى عالٍ والإعلان عن استمرار دعم النضال الفلسطيني ضد إسرائيل، وشنّت هجوماً سيبرانياً استهدف البنى التحتية الرقمية للحكومة الألبانية، وفرضت الإدارة الأميركية عقوبات على وزارة الاستخبارات الإيرانية ووزيرها إسماعيل خطيب.
ارتبط السعي الإيراني إلى الاتفاق مع الإدارة الأميركية على العودة إلى الاتفاق النووي برفع العقوبات الأميركية وفتح المجال لتصدير النفط والغاز بشكل رسمي، غير أنّ قوى سياسية وعسكرية إيرانية عرقلت العملية عبر التصعيد بالشروط والمطالب، إغلاق تحقيق وكالة الطاقة الذرية بشكل خاص. وهذا ما رفضته الإدارة الأميركية، لما له من انعكاس على تحديد طبيعة البرنامج النووي الإيراني. وهذا ما أكّدته الوكالة الدولية للطاقة الذرية، بقولها “إنها لا تستطيع ضمان أن البرنامج النووي الإيراني سلميّ حصرًا”، وشكا منه مدير عام الوكالة، رافاييل غروسي، في تقرير نُشر قبل أيام من انعقاد مجلس محافظي الوكالة، وفيه أنه “يشعر بقلق متزايد في وقت لم يُحرز أي تقدّم في ملف آثار اليورانيوم المخصّب التي عُثر عليها في الماضي في أماكن مختلفة”. وهذا بالإضافة إلى وقف عمل عدد من كاميرات المراقبة، وزيادة وتيرة التخصيب بتركيب أجهزة طرد مركزي متطورة ورفع نسب التخصيب إلى الـ 20% والـ 60%، وزيادة كمية اليورانيوم المخصّب تخصيباً عالياً، لديها الآن 331.9 كيلوغراماً مخصباً بنسبة 20% و55.6 كيلوغراماً مخصّباً بنسبة 60%. ما يطرح احتمال إعادة الملف النووي الإيراني إلى مجلس الأمن وفرض عقوبات جديدة على النظام الإيراني، فالتمسّك بالشروط جعل الوصول إلى اتفاق مستحيلا، زاده تعقيداً استهداف القوات الأميركية في حقل العمر ومعمل غاز كونيكو شرق الفرات، ما وضع الإدارة الأميركية في موقفٍ حرج، دفعها إلى الرد على الهجوم بقصف مواقع ومستودعات لمليشيات تابعة لإيران.
لم يقف التحرّك الإيراني السياسي والاقتصادي والعسكري عند مواجهة الولايات المتحدة وإسرائيل، بل تعدّاه إلى مواجهة التحرّك التركي في العراق وسورية وأذربيجان وآسيا الوسطى، حيث دعمت حزب العمال الكردستاني التركي في سنجار، وعارضت العملية العسكرية التركية في منبج وتل رفعت، ونسّقت تحرّكاً عسكرياً مع قوات النظام السوري وقوات سورية الديمقراطية (قسد) في ريف حلب، في قصف مشترك على مواقع الجيش التركي والفصائل العسكرية الموالية لها. كما توسّعت في زراعة المخدّرات وتصنيعها في لبنان وسورية، ورعت عملية ترويجها وتهريبها إلى جميع أنحاء العالم، دول الخليج العربي بشكل خاص، من أجل تمويل المليشيات الموالية لها وتدمير المجتمعات والشعوب، بما في ذلك الشعب السوري الذي تسعى للسيطرة عليه واستتباعه.
تعاني إيران، على الرغم من مظاهر القوة واستعراض العضلات والتدخّل الواسع في شؤون دول الجوار، والدوريات البحرية في أعالي البحار والمحيطات، وتزويد بحريتها بمسيّرات، والقدرات الصاروخية التي تزداد دقة ومدى، من نقاط ضعف قاتلة، تجسّدت في فشلها في حل مشكلات المواطنين اليومية، الخدمية والصحية، وفشلها في مواجهة التضخم وانهيار سعر العملة الوطنية وتراجع قدرة المواطنين الشرائية، وفشلها في مواجهة الظروف المناخية والكوارث الطبيعية، حيث جفاف الأنهار والبحيرات ونقص مياه الشرب والزراعة وسقاية المواشي. وما يزيد الوضع مأساوية ردّ النظام الإيراني على الاحتجاجات الشعبية على تدنّي الرواتب والعطش وضعف القدرة الشرائية، والتمييز العرقي والمذهبي، بمواجهتها بالاعتقالات والقتل والإعدامات، فقد أعدمت 251 شخصاً في الأشهر الستة الأولى من العام الجاري، مع قمع واضطهاد المواطنين غير الفرس، الكرد والعرب والبلوش والأذريين… إلخ، فالنظام يتبنّى أولوية وحيدة: البقاء في السلطة، من دون اعتدادٍ باحتياجات المواطنين ومواقفهم وتطلعاتهم. وقد كان اختيارها التوجّه شرقاً بمثابة رصاصة رحمة على نموذج سياسي وعد بالاستقلالية والدفاع عن المستضعفين؛ فالتوجّه شرقاً يعني التخلص من عدوانية خصم عبر علاقة تبعية لخصم هذا الخصم، ممارسة سياسية على الضد من الشعار الأول الذي رفعته الثورة الإسلامية في إيران، لا شرقية ولا غربية، والتمسّك بالتوصل إلى اتفاق مع الولايات المتحدة بشأن برنامجها النووي والإعلان عن قرب التوصل إلى ذلك، لتهدئة الداخل وتنفيس الاحتقان الاجتماعي، مع أنّ احتمال فشل التوصل إلى اتفاق هو الغالب. لقد أجهز النظام الإيراني، باختياراته العرقية والمذهبية، على نموذجه السياسي الواعد، وحوّله إلى كابوس للإيرانيين والشعوب المسلمة.
المصدر: العربي الجديد