لا تزال محافظة درعا، جنوب سوريا، تخضع لمعادلات إقليمية معقدة، تجعل قراءة المشهد فيها أكثر صعوبة. ومع الأوضاع الأمنية الساخنة التي تحيط ببعض المناطق بين الحين والآخر، ضمن مساعي الدولة السورية لفرض قواعدها في المنطقة، وتأجج عمليات الاغتيال والاختطاف، يبدو أن السياق الأمني للأزمة التي تعيشها المنطقة يرتبط ارتباطاً وثيقاً بمعركة النفوذ التي تخوضها طهران لتغيير الموقع الوظيفي للمنطقة، ضمن معادلات الصراع الدائرة على أكثر من جبهة.
ورغم النداءات التي وجهها الأردن منذ أشهر عدة، وتحذيرات مسؤوليه من خطورة الأوضاع في درعا على أمن المملكة، واجتهاده في حثّ بعض الدول على إيجاد صيغة للحل، مع اضطراره إلى اتّباع سياسة لا تقوم على إغضاب طهران علناً، فإن التطورات في مدينة درعا ومحيطها لا تظهر أي مؤشرات إلى حدوث تغييرات في المسار الذي تسير به المحافظة، في ظل التركيز الإيراني على إدخالها في دائرة الاهتمام القصوى، نظراً إلى ما تواجهه مواقعها وقواعدها في مناطق شرق سوريا وغربها من تحديات خارجية متصاعدة.
السّياق الأمني: خلق ثغرات أمام تمدّد النّفوذ الإيراني
انتقل التوتر الأمني في محافظة درعا بين أكثر من منطقة في الآونة الأخيرة، وتركز خاصة، الشهر الماضي، حول مدينتي جاسم وطفس، حيث شهدت درعا أثناء ذلك تصاعد عمليات الاغتيال التي تبدو من حيث الظاهر مجرد حلقات متتالية ضمن مسلسل الفوضى الذي عمّ المنطقة منذ توقيع اتفاق التسوية عام 2018، غير أن التدقيق في بعض هذه الاغتيالات من شأنه الكشف عن مخطط مدروس لفتح ثغرات أمام الرغبة الإيرانية في توسيع نفوذها في المحافظة المحاذية للحدود مع الأراضي المحتلة من إسرائيل.
وبحسب مراقبين للمشهد في الجنوب السوري، فإن أبرز عمليات الاغتيال التي حدثت في درعا، أخيراً، طالت شخصيات مناهضة للمشروع الإيراني أو قادرة على منع تغلغله بسهولة ضمن المحافظة. وفيما تبدو بعض الاغتيالات كأنها تحدث وفق قواعد تحكمها الصدفة أو تعارض المصالح الوقتية، لا يخفي بعض المراقبين شكوكهم في وجود نهج استراتيجي يطغى على معظم عمليات الاغتيال التي تحصل، مشيرين إلى أن هذا النهج بات يبرز أكثر بالتزامن مع تسارع جهود إيران لتوسيع نفوذها في المحافظة.
ووفق هؤلاء فإن عمليتي الاغتيال اللتين طالتا أخيراً الشيخ فادي العاسمي، والقيادي خلدون الزعبي، تثبت صحة الفرضية التي تقول بأن إيران ترغب بتصفية من تعتقد أنه سيقف في وجه تمددها، بخاصة أنها تدخل مرحلة جديدة من خلال زيادة عدد قواتها والسعي إلى إنشاء قاعدة عسكرية كبيرة شبيهة بتلك الموجودة في منطقة عين علي قرب محافظة دير الزور.
ولا يستبعد “تجمع أحرار حوران” أن ينتقل اللعب في درعا من مرحلة السرية إلى مرحلة “اللعب على المكشوف”، متوقعاً في هذا السياق أن تستمر عمليات الاغتيال وأن يتحول بعضها من عمليات ينفذها مجهولون إلى عمليات ينفذها معلومون، بما يخدم الاستراتيجية الإيرانية الجديدة في المنطقة.
تفكيك بؤر المعارضة للانتقال إلى السّيطرة العلنيّة
ولا تقتصر استراتيجية طهران على بند التخلص من القيادات أو الشخصيات المناهضة لمشروعها التوسعي، بل تعمل أيضاً على تفكيك بؤر المعارضة ومحاولة ضرب إسفين بين مكوّناتها، بهدف تمهيد الأرضية أمام مرحلة السيطرة العلنية في بعض مناطق حوران.
وقد جاء حلّ اللجنة المركزية في درعا البلد قبل أسابيع، كإنجاز نوعي للجهود التي تبذلها طهران ضمن مسار تفكيك المعارضة وإفقادها مرجعية مركزية يمكن أن تتحدث باسمها.
وفيما كانت اللجنة المركزية تلعب أدواراً هامة في إدارة الأزمات والأوضاع الأمنية المتوترة، وتجلس إلى طاولة المفاوضات مع الضباط الروس والسوريين للتباحث في حل بعض المشكلات بأقل خسائر ممكنة، أصبحت درعا البلد بعد حل اللجنة متفرقة، ولكل عشيرة أو عائلة منها حرية التصرف في تعاملها مع التطورات القادمة أو المشكلات التي تخصها.
ورأى “تجمع أحرار حوران” أنه “بضرب كل من درعا البلد وطفس، استطاعت إيران ضرب أحد أبرز مراكز القوة في حوران،بغدما وقفت المنطقتين في وجه المشروع التوسعي”.
وتستخدم طهران بعض الشخصيات المقربة منها من أجل تحقيق أهدافها التوسعية، ويبرز في هذا السياق اسم كل من راني جابر وسامر عمران كشخصيتين مقربتين من قيادة الحرس الثوري الإيراني في حوران، وتقومان بأدوار كثيرة على صعيد ضرب بؤر المعارضة وفتح ثغرات أمام احتمال توسيع التمدد الإيراني.
قاعدة “مالك الأشتر” نحو تنظيم الحضور العسكري الإيراني
وكشفت صحيفة “القبس” الكويتية عن نية طهران إنشاء قاعدة عسكرية في الجنوب السوري، بدلاً من النقاط الصغيرة الموجودة في المنطقة.
وبحسب الصحيفة، فقد أرسل الحرس الثوري الإيراني ثلاث وحدات جديدة من لواء “فاطميون” الأفغاني وصلت من إيران إلى درعا أخيراً، للاستقرار والانتشار على الجانب السوري من الحدود، بإشراف خبراء إيرانيين، بعد تدريبات عسكرية خضع لها عناصر تلك المجموعات جنوب شرقي طهران، تضمنت التدريب على استخدام الصواريخ القصيرة المدى والطائرات المسيّرة.
وأضافت الصحيفة أن القاعدة العسكرية الجديدة أطلق عليها اسم “مالك الأشتر”، بعد تسلم قيادة عسكرية جديدة تتبع للحرس الثوري قيادة العمليات في المنطقة.
وكان “تجمع أحرار حوران” قد نشر تقارير عدة مطلع حزيران (يونيو) الفائت عن تعزيزات عسكرية وصلت إلى المنطقة من الميليشيات الإيرانية والأفغانية الموجودة في منطقة السيدة زينب في ريف دمشق، واستقرت بالقرب من الحدود السورية الأردنية.
وتزامنت تلك التعزيزات مع تصريحات أردنية من مستويات رفيعة، اتهمت إيران وميليشياتها بالوقوف وراء عمليات تهريب المخدرات من سوريا إلى الأردن، ومحاولة تلك الميليشيات زعزعة أمن الأردن ودول الجوار.
ونقلت الصحيفة عن المصادر الإيرانية، أن طهران تخطط للاستثمار في المنطقة الجنوبية من سوريا، وإنشاء قاعدة “مالك الأشتر” في درعا هو في جزء حماية الشركات الإيرانية من هجمات قد تشنها فصائل المعارضة السورية، إضافة إلى إنشاء نقطة مركزية ثابتة في الجنوب لإحكام السيطرة على مثلث درعا ـ القنيطرة ـ دمشق.
وبحسب معلومات “تجمع أحرار حوران”، فإن قاعدة مثلث الموت التي تتبع لميليشيا “فاطميون” موجودة منذ عام 2014، إذ أسسها القائد السابق لفيلق القدس الإيراني قاسم سليماني، ولكن ما تسعى إليه إيران الآن هو قاعدة مجاورة للحدود الأردنية، ومن المرجح أن تكون قاعدة الدفاع الجوي قرب درعا البلد هي المستهدفة، نظراً إلى سيطرة الميليشيات عليها قبل أشهر، وطرد كل المنتسبين المحليين إلى الأجهزة الأمنية منها.
وبحسب خبراء، فإنه بمجرد إتمام إنشاء القواعد الإيرانية في محافظة درعا، فإن إيران ستنتقل لتنفيذ عملياتها ضد المعارضين والمناطق المعارضة بالاعتماد على مقاتليها الأجانب والمحليين اعتماداً رئيسياً، مدللين إلى ذلك بقيام “قوات العرين” التابعة للحرس الثوري الإيراني بالمشاركة في الحصار الأخير على مدينة طفس.
وفي هذا السياق، بدأت عناصر “فاطميون” بالتمركز منذ أيام في ضاحية مدينة درعا، في مركز القيادة التابع لكل من “قوات الغيث” التابعة للفرقة الرابعة و”قوات أسود العراق” الطائفية، تمهيداً للانتقال إلى القاعدة الجديدة التي يُعتقد أنها ستكون قاعدة الدفاع الجوي قرب درعا البلد، وهذا ما يفسر وجودهم في ضاحية درعا.
ومن الواضح – بحسب “تجمع أحرار حوران” – أن الأوضاع في درعا بدأت تتخذ اتجاهاً آخر مبنياً على خطورة كبيرة تستهدف المحافظة في بنيتها وتركيبتها الاجتماعية والدينية من جهة، كما تستهدف الدول المجاورة على الحدود الجنوبية لسوريا، فيما تسعى إيران إلى جعل درعا رأس الحربة في وجه الأردن والخليج العربي والسعودية.
المصدر: النهار العربي