التحول الأخير قد يكون مؤشراً على فشل هائل للمجمع الصناعي العسكري. حيث تبدو التقارير الاستخباراتية الأميركية التي رفعت عنها السرية ولم تنفها موسكو أو بيونغ يانغ حتى الآن، التي تفيد بأن روسيا لجأت إلى كوريا الشمالية لتأمين احتياجاتها العسكرية من قذائف مدفعية وصواريخ قصيرة المدى، ذات مغزى مهم بعد نحو 200 يوم من بدء الحرب في أوكرانيا، خصوصاً بعد أن حصل الكرملين على طائرات مسيرة من إيران، أثارت أيضاً التساؤلات.
فلماذا تلجأ روسيا إلى كوريا الشمالية وإيران، بينما لم تفعل الأمر نفسه مع حليفتها الأهم الصين، وإلى أي مدى يعد ذلك نجاحاً لاستراتيجية العقوبات الغربية ضد روسيا؟
عرقلة ناجحة
بالنسبة إلى الولايات المتحدة الأميركية، فإن شراء موسكو ملايين القذائف والصواريخ من كوريا الشمالية هو علامة على أن العقوبات التي فرضها الغرب عرقلت بنجاح خطوط إمداد الجيش الروسي، بعد أن قيدت سلاسل التوريد لموسكو، ما أجبرها على اللجوء إلى دول منبوذة مثل كوريا الشمالية وإيران، للحصول على الإمدادات العسكرية، التي تحتاج إليها في حربها المستمرة في أوكرانيا. وهو ما تأكد قبل أيام حينما تلقت روسيا شحنات أولية من طائرات مسيرة إيرانية الصنع، قال مسؤولون أميركيون، إن بعضها يعاني مشكلات ميكانيكية، وهو ما يعد علامة على أن العقوبات والقيود المفروضة على الصادرات التي تفرضها الولايات المتحدة وأوروبا تضر بقدرة موسكو على الحصول على إمدادات لجيشها.
وبينما لم تتكشف تفاصيل الشحنات العسكرية التي تحدثت عنها المعلومات الاستخباراتية الأميركية ونشرتها أولاً صحيفة “نيويورك تايمز” بعد رفع السرية عنها، إلا أن المسؤولين الأميركيين يتوقعون أن تحاول روسيا شراء معدات كورية شمالية إضافية في المستقبل. وهو ما يرى خبراء عسكريون مثل ماسون كلارك، من معهد دراسة الحرب الأميركي، أنه يثير بكل تأكيد قلق الكرملين.
وعلى الرغم من أن العقوبات الاقتصادية الغربية الواسعة ضد روسيا لم تنجح حتى الآن، في أن تعطل روسيا بعد أن ملأت أسعار الطاقة خزينتها ومكنتها من تخفيف تداعيات انقطاع بنوكها عن التمويل الدولي، مثلما فشلت العقوبات المفروضة على النخبة المرتبطة بالحكم في تقويض سلطة الرئيس فلاديمير بوتين، إلا أنه عندما يتعلق الأمر بقدرة روسيا على إعادة بناء جيشها فإن العقوبات كانت فعالة، لأنها حرمت موسكو من القدرة على شراء الأسلحة، أو الإلكترونيات اللازمة لتصنيع تلك الأسلحة.
لماذا غابت الصين؟
علاوة على ذلك، كانت موسكو تأمل أن تكون الصين مستعدة للتغلب على ضوابط التصدير ومواصلة إمداد الجيش الروسي باحتياجاته الإلكترونية والعسكرية، لكن مسؤولين أميركيين أوضحوا أن بكين التي كانت على استعداد لشراء النفط الروسي بسعر مخفض، احترمت حتى الآن ضوابط التصدير التي تستهدف الجيش الروسي ولم تحاول بيع أي معدات أو مكونات عسكرية إلى الكرملين، بعد أن حذرت وزيرة التجارة الأميركية جينا ريموندو، الصين مراراً من أنه إذا انتهكت الشركات الصينية العقوبات على روسيا، وبخاصة شركة تصنيع أشباه الموصلات الدولية، وهي أكبر شركة لتصنيع شرائح الكمبيوتر في الصين، فإن الولايات المتحدة ستقطع علاقتها مع هذه الشركات، وتمنع وصولها إلى التكنولوجيا الأميركية.
ومع تحرك معظم الدول بحذر في مواجهة الضغط الأميركي، لم تجد روسيا بديلاً من إبرام صفقاتها مع كوريا الشمالية وإيران المستبعدتين بشكل كبير عن التجارة الدولية بفضل العقوبات الأميركية والدولية، ما يعني أن أياً من البلدين لن يخسر كثيراً من خلال إبرام صفقات مع روسيا، على الرغم من أن أي صفقة لشراء أسلحة من كوريا الشمالية ستكون انتهاكاً من قبل روسيا لقرارات الأمم المتحدة التي تهدف إلى الحد من انتشار أسلحة بيونغ يانغ.
محنة عسكرية
وبحسب رئيس مجموعة أوراسيا البحثية في واشنطن كليف كوبشان، فإن شراء موسكو الذخيرة يكشف عن محنة عسكرية لروسيا وعلاقة ملاءمة متزايدة مع كوريا الشمالية التي تحاول تنويع علاقاتها وتخفيف اعتمادها على الصين، للحصول على أسلحة منخفضة التقنية تعود إلى الحقبة السوفياتية التي تعد كوريا الشمالية من بين الأماكن القليلة حول العالم التي لا تزال لديها إمدادات وفيرة منها، فيما يشير مسؤول أميركي لصحيفة “واشنطن بوست” إلى أن تحرك وزارة الدفاع الروسية يشير إلى أن الجيش الروسي لا يزال يعاني نقصاً حاداً في الإمدادات في أوكرانيا، ويرجع ذلك جزئياً إلى ضوابط التصدير والعقوبات.
وفي حرب المدفعية التي طال أمدها بين روسيا وأوكرانيا، فإن إيجاد طرق لتقويض الترسانة الروسية الأكبر من الصواريخ والقذائف أمر بالغ الأهمية بالنسبة إلى جيش أوكرانيا الأصغر، الذي صعد هجومه على مستودعات الذخيرة الروسية أخيراً، عبر استخدام نظام صاروخ المدفعية الأميركي عالي الحركة (هيمارس)، إضافة إلى تقارير الاستخبارات الأميركية، لتحديد مواقع الخطوط الأمامية الروسية وتدمير مخابئ الذخيرة.
وفي حين ليس من الواضح تأثير هذا الهجوم على مخزون الذخيرة الإجمالي لروسيا، إلا أن القيادة العسكرية الروسية اضطرت إلى تحريك نقاط تخزين الذخيرة، ما قلل من فاعلية قوات المدفعية، بحسب تحليل خبراء عسكريين أميركيين، كما كانت هناك دلائل على أن فاعلية بعض قذائف المدفعية الروسية قد تدهورت بسبب مشكلات في التخزين أو سوء صيانة مخزونات الذخيرة لديها، إذ انفجر كثير من قذائف المدفعية في الهواء، قبل أن تصل إلى الأرض، ما قلل من الأضرار التي لحقت بالخنادق الأوكرانية.
علاقة ذهبية
وفي حين لم تؤكد موسكو وبيونغ يانغ أنباء صفقات الصواريخ والمدفعية بينهما حتى الآن، فإن الخبراء الغربيين لا يستغربون هذه العلاقة التي ذكرت وكالة الأنباء الروسية الحكومية “تاس” في وقت سابق أنها “تدخل عصراً ذهبياً”، كما وصف بيان صدر هذا العام عن وزارة الخارجية الكورية الشمالية، العلاقة مع موسكو بأنها وصلت إلى “آفاق استراتيجية جديدة”، مشيراً إلى أن كوريا الشمالية تتضامن مع الإجراءات العادلة للقيادة الروسية الهادفة إلى القضاء على التهديدات السياسية والعسكرية والابتزاز بالعداء.
وذكرت وسائل الإعلام الرسمية في كوريا الشمالية أن وزير خارجيتها أرسل رسائل إلى دونيتسك ولوغانسك، المنطقتين الشرقيتين اللتين أعلنتا انفصالهما عن أوكرانيا قبيل الحرب، للتعبير عن الرغبة في تطوير العلاقات مع الدولتين الجديدتين في إطار فكرة الاستقلال والسلام والصداقة، إضافة إلى ما ذكرته تقارير إعلامية غير مؤكدة تفيد بأن كوريا الشمالية قد ترسل عمالاً إلى المنطقتين الانفصاليتين.
ويشير المتخصص في الشؤون المتعلقة بكوريا الشمالية رامون باتشيكو باردو، إلى انتشار إشاعات عن مبيعات أسلحة كورية شمالية لروسيا منذ بعض الوقت، مع تكهنات بأن بيونغ يانغ قد تتلقى النفط والغاز الروسي في المقابل.
مشكلات أكبر
مع ذلك، من غير الواضح مدى علاقة الشراء من كوريا الشمالية بضوابط التصدير الخاصة بالعقوبات الغربية، خصوصاً أن تقارير الاستخبارات الأميركية تتحدث عن قذائف مدفعية وصواريخ تعود إلى الحقبة السوفياتية، إذ يقول المتخصص في الشؤون العسكرية في معهد “أميركان إنتربرايز” فريدريك دبليو كاجان، إنه لا يوجد شيء عالي التقنية في قذيفة مدفعية من عيار 152 ملم أو صاروخ من طراز “كاتيوشا” تنتجه كوريا الشمالية، لذلك فإن التحول إلى كوريا الشمالية يعد علامة على أن روسيا غير قادرة على ما يبدو على إنتاج أبسط المعدات اللازمة لشن الحرب، ما يعني أن القيادة الروسية لم تكن راغبة أو غير قادرة على تعبئة الاقتصاد الروسي للحرب حتى على أبسط المستويات، وهو ما يشير إليه مسؤول أميركي آخر بأن الاتفاق الجديد مع كوريا الشمالية يظهر اليأس في موسكو.
ويبدو أن رفع السرية عن هذه التقارير الاستخباراتية حول الصفقة يتوافق مع الأهداف الأميركية التي ترى أن تقييد سلسلة التوريد العسكرية الروسية يعد جزءاً أساسياً من الاستراتيجية الأميركية لإضعاف موسكو، بهدف عرقلة جهودها الحربية في أوكرانيا.
استنفاد الأسلحة الدقيقة
وبحسب صحيفة “نيويورك تايمز”، فقد كان واضحاً منذ أشهر، سواء من العمليات الروسية في أوكرانيا أو ما كشفت عنه الحكومة الأميركية، أن موسكو تكافح مع أسلحتها عالية التقنية، إذ شهدت الأسلحة الموجهة بدقة، مثل صواريخ “كروز”، معدلات عالية من الفشل في المراحل الأولى من الحرب في عمليات الإطلاق أو في إصابة أهدافها. كذلك جرى استنفاد المخزونات الروسية من هذه الأسلحة الدقيقة، ما أجبر الجنرالات الروس على الاعتماد بشكل أقل على الصواريخ، وبدلاً من ذلك ركزوا في استراتيجيتهم على شن هجوم مدفعي ضد بلدات المنطقة الشرقية لأوكرانيا.
علامة خطر
ويعد الكشف عن أن روسيا تسعى إلى الحصول على مزيد من ذخيرة المدفعية علامة على أن مشكلات الإمداد في موسكو، قد تكون أعمق من مجرد نقص في المكونات المتطورة للدبابات الحديثة أو الصواريخ الدقيقة، وأنها قد تواجه نقصاً أكبر في المستقبل، بينما تكافح قاعدتها الصناعية لتلبية المطالب العسكرية للحرب.
ويعتبر الخبير العسكري في معهد “أميركان إنتربرايز” فريدريك كاجان، أنه من المحتمل جداً أن يكون هذا مؤشراً على فشل هائل للمجمع الصناعي العسكري الروسي، الأمر الذي قد تكون له تداعيات خطيرة للغاية على القوات المسلحة الروسية.
ويتزامن تقرير الاستخبارات الأميركية مع تقرير صدر من وزارة الدفاع البريطانية في تحديث استخباراتي يومي عن الحرب، جاء فيه أنه في مواجهة الخسائر القتالية من المرجح أن تكافح روسيا للحفاظ على مخزون الطائرات المسيرة من دون طيار، والتي تفاقمت بسبب نقص المكونات الناتج من العقوبات الدولية، وقد يؤدي العدد المحدود لدى روسيا من المسيرات الاستطلاعية إلى إضعاف وعي القادة التكتيكي بالموقف ويزيد من عرقلة العمليات الروسية.
وهذا هو السبب في سرعة قيام طائرات الشحن الروسية بجمع نوعين على الأقل من المسيرات القتالية الإيرانية الصنع، الأمر الذي فسره مسؤولون أميركيون على أنه يسلط الضوء على معاناة روسيا في إمداد جيشها، وأن مزيداً من هذه الطائرات سيجد طريقه إلى روسيا في محاولة لإنقاذ وضعها العسكري في أوكرانيا.
المصدر: اندبندنت عربية