العالم اكتشف تركة أوباما الصعبة على بايدن وكان أول من عرف هذا بوتين وما غزوه لأوكرانيا سوى تجربة لقياس ردود الفعل ورؤية كيف يمكن تشكيل نظام عالمي جديد يستفيد من “ثغرة أوباما.”
كان الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب المثير للجدل، محقاً حين قال إن منافسه جو بايدن لن يكون لديه ما يقدّمه، والأمر ليس أن صراع الجمهوريين والديمقراطيين في واشنطن قد وصل إلى درجة محتدمة لم يعد فيها هناك أيّ تقاطع في الأهداف والرؤى، حتى ما يتعلق منها بمصالح الولايات المتحدة العليا، بقدر ما كان تأثير وصول أول رئيس ملوّن إلى البيت الأبيض أكبر ممّا توقعه الجميع.
باراك أوباما لم يكن رئيساً عادياً مثله مثل من مرّوا على المكتب البيضاوي، كان خليطاً معقداً من نتائج العولمة، حين تصبح في سدة الحكم، لذلك كان قدومه مختلفاً كلياً عن جسده الرشيق الناعم، وبلاغته العالية التي تخصص فيها في جزء من دراساته العليا.
ما زال العالم يدفع ثمن ذلك. لن يكون سهلاً على أميركا البيضاء هضم رئيس أسود، نصف مسلم، ديمقراطي، لقد كان خارج السياق المعتاد طيلة الوقت، سواء في الداخل، حيث صورة الولايات المتحدة أمام مواطنيها، أو الخارج حيث صورة أميركا أمام العالم. ويكفي أوباما فقط أن عهده كان السبب المباشر في صعود ترامب نفسه ونجاحه بخطابه الشعبوي الذي تحول مع الزمن إلى ترامبية بفضل الأوبامية المدمّرة.
لم يدع ترامب فرصة لغيره من الباحثين والمؤرخين السياسيين، للنظر جيداً في تركة أوباما التي نعيش طوراً جديداً منها اليوم مع بايدن، فقد كان ضجيجه أعلى من كل الأصوات. غير أن البحث في عثرات أوباما يظل أهون من تتبع آثار ما نجح فيه، وهو الأكثر خطورة. وبمقابل كل فشل علني له، كان انتقامه من ذلك يأتي بخطوات تنفيذية نتائجها مريرة.
صحيح أنه فشل في إغلاق معتقل غوانتانامو، كما وعد، إلا أنه سلّم العراق وسوريا واليمن ولبنان إلى إيران لتحوّل تلك البلدان العربية إلى معتقلات غوانتانامو مفتوحة ببث مباشر وعلى مدار الساعة، ويجد بايدن اليوم نفسه عاجزاً أمامها فلا هو قادر على الموافقة على نهج رئيسه (أوباما) في المضي باتفاق نووي جديد، ولا هو قادر على التراجع.
فشل أوباما في وضع حد للقوانين التي تتيح تملك السلاح وانتشاره في الولايات المتحدة، وهو الذي شهد عهده أكبر حوادث إطلاق للنار في تاريخ الولايات المتحدة يوم 14 ديسمبر 2012، حين هوجمت مدرسة ابتدائية في نيوتاون بولاية كونيتيكت فقتل منفذ الاعتداء 27 شخصا بينهم 20 طفلا، ثم انتحر. يومها قال أوباما “إنه أسوأ يوم في رئاستي”، ثم جاء هجوما أورلاندو ودالاس، فكان انتشار السلاح في العالم هو رد أوباما، واستبدال الدولة بالميليشيات في أنحاء عديدة منه.
الرئيس الملون، الذي بكى السود والمهاجرون في أميركا لحظة تلاوته القسم الرئاسي، مستذكرين عصر العبودية والتمييز العنصري، كان مخيباً لآمالهم جميعاً، فقد خشي أن يحسب عليهم فيخسر في موازين القوة والنفوذ والانتخابات، لذلك بات ميالاً إلى أن يكون عنصرياً أكثر من العنصريين، لكن بالطبع ليس في الخطابة واللفظ، وإنما في التخاذل عن دعمهم إلى أبعد حد. واليوم بايدن يجد نفسه رئيس مرحلة، على الأقل هو بين مهاجرين ملوّنين، رئيس أسبق كان هو نائبه، وكامالا هاريس التي تشغل موقع نائبه حالياً.
ما وعد أوباما بفعله في أفغانستان أكمله بأسوأ سيناريو خليفته ونائبه (الحالي) بايدن لاحقاً. فماذا كانت النتيجة؟ عودة طالبان حكومة شرعية يكاد العالم كله يعترف بها يوماً بعد يوم.
سبق ذلك صمت أوباما الرهيب على صعود داعش التنظيم الإرهابي الذي تسلم القواعد العسكرية في العراق بعتادها الأميركي حتى تحوّل إلى دولة صكت العملة وعينت الوزراء وباعت النفط. وتشكيل تحالف للقضاء عليها ما كان ليغطي عورة أوباما بالسماح لها بالنمو والتغلغل بتلك الكيفية المفضوحة، خاصة حين تزامن ذلك مع انسحابه من العراق.
العالم اكتشف تلك التركة الصعبة على بايدن، وكان أول من عرف هذا الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وغزوه لأوكرانيا ليس سوى تجربة ضخمة لقياس ردود الفعل، ولرؤية كيف يمكن تشكيل نظام عالمي جديد يستفيد من “ثغرة أوباما” في التاريخ الأميركي، التي ما تزال ارتداداتها تعمل في عهد بايدن، من بعده عرف العرب أنه لا فائدة من التفاهم مع ساكن البيت الأبيض الحالي، فلن يكون عهده أفضل من عهد مُلهِمه، ولذلك وضعوا شروطاً للتنسيق مع الولايات المتحدة حول النفط وكمياته وأسعاره.
أما سوريا فيتحمل أوباما المسؤولية كاملة عن تشويه دور الولايات المتحدة فيها، وتحويله من دور مركزي عالمي أساسي، إلى مجرد وسيط يسهّل للروس والإيرانيين تنفيذ برامجهم، ولم يكن موقف أوباما “سلبياً” فقط كما يوصف، مما جرى في ذلك البلد، بل كان شديد الإيجابية حيال معاقبة نظام يقصف شعبه بالسلاح الكيمياوي بمطالبته بتدمير سلاح الجريمة فقط. ووضع العشرات من الخطوط الحمر التي فتكت بصورة الولايات المتحدة، ما دفع العاهل السعودي الراحل الملك عبدالله بن عبدالعزيز إلى اتهامه بالكذب مباشرة، خلال مكالمة هاتفية قال فيها “لم أتوقع أن أعيش هذا العمر لأرى رئيساً للولايات المتحدة يكذب عليّ”.
واليوم بايدن لا يرى سوى عقيدة أوباما التي لا يريد ولا يستطيع إن أراد الفكاك منها. إن زلة اللسان التي رآها العالم كله والتي لا يمكن أن يرتكبها شخص بذكاء أوباما، حين خاطبه في احتفال في البيت الأبيض أمام الصحافيين ربيع هذا العام، قائلاً “نائب الرئيس بايدن”. صحيح أنه سارع إلى القول إنها كانت “لحظة كوميدية مكتوبة”. غير أنه صدق في هذه المرة، على غير عادته، فعهد بايدن يبدو كلحظة كوميدية مكتوبة بقلم أوباما نفسه.
المصدر: العرب