دفعت التصريحات الرسمية والتسريبات الإعلامية الصادرة عن شخصيات حكومية تركية ووسائل إعلام مقربّة منها عن مساعٍ للتطبيع مع دمشق، المعارضة في البلاد، إلى التحرّك في هذا الاتّجاه أيضاً، ادراكاً منها ربّما، لأهمية الورقة السورية في السياسة الداخلية في ظل الأجواء الانتخابية السائدة. وتداولت حسابات على موقع تويتر يوم أمس خبر تقدّم حزب الشعب الجمهوري الذي يقود المعارضة في البلاد بطلب إلى القنصلية السورية في إسطنبول من أجل الحصول على موافقة لزيارة وفد رفيع المستوى من أعضائه دمشق لإجراء مباحثات مع المسؤولين السوريين.
محاولات خجولة بداية الأزمة السورية
لطالما انتقد حزب الشعب الجمهوري، المعارضة الأم في البلاد، سياسات الحكومة التركية في الملف السوري، سواء لجهة قطع العلاقات مع دمشق والانخراط المباشر في الحرب السورية، أو تلك المتعلّقة باتباع سياسة الباب المفتوح أمام اللاجئين السوريين إلى الداخل مقابل تصدير المسلّحين باتّجاه الأراضي السورية.
لكن هذه الانتقادات بقيت قيد التداول في السياسة الداخلية، من دون أن يمتدّ أثرها إلى الخارج. فقد غاب ثاني الأحزاب السياسية التركية عن الساحة الإقليمية والدولية سواء في القضايا العامة، أو تلك المتعلّقة بملفات الشرق الأوسط وسوريا على وجه الخصوص.
اتّسمت محاولات الحزب في الملف السوري بالخجل، مقتصرة على زيارات بعض الوفود المؤلفة من برلمانيين يمثّلون لواء اسكندورن (اقليم هاتاي) في غالبيّتهم، عند بداية الأزمة السورية، فيما بقي رئيس الحزب كمال كيليتشدار أوغلو متحفّظاً في تصريحاته حيال الملّفات الشائكة في الحرب السورية في حينه، كمصير الرئيس بشار الأسد وشكل الحكومة المقبلة، مركّزاً على مواضيع عامة كالإرهاب وحزب العمال الكردستاني ومناشدات السلام وغيرها.
ويرى البرلماني السابق في حزب الشعب الجمهوري عن إسطنبول، باريش ياركاداش، أن “الحزب، مع اندلاع الأزمة السورية، اتّخذ مساراً فاعلاً للغاية منتقداً سياسات حزب “العدالة والتنمية”، ومحذّراً في الوقت ذاته من أنها ستؤدي إلى نتائج كارثية في المنطقة”.
وأضاف: “كان الحزب أول من أثار مسألة إنشاء الحكومة مخيّمات على الحدود السورية – التركية في ولاية هاتاي، قبل اندلاع النزاع المسلّح في سوريا، مطالباً بتوضيح غايتها من هذه الخطوة”.
تذبذب الخط البياني لزيارات دمشق
كانت الزيارة الأولى لممثلي حزب الشعب الجمهوري إلى دمشق في العام الأول للأزمة السورية، تلتها زيارتان آخريان في العامين التاليين 2012 و2013، إضافة إلى لقاءين إعلاميين مع الرئيس الأسد من قبل صحيفة وقناة تلفزيونية مقرّبة من الحزب.
ركّز حزب الشعب الجمهوري في تلك الفترة على ضرورة التنسيق مع دمشق، بخاصة في القضايا المتعلّقة بالهجرة والإرهاب والاستقرار في سوريا والمنطقة.
ويؤكد ياركاداش، الصحافي العامل في العديد من وسائل الإعلام التركية، والكاتب حالياً في موقع قناة “TV100” التركية، أن “الأسد حمّل وفود الشعب الجمهوري في تلك الفترة رسائل إيجابية وصحيحة إلى لتركيا”.
وأضاف “لكن للأسف تراجع حزب الشعب الجمهوري عن موقفه الفعّال هذا، نتيجة تأثيرات السياسة الداخلية في تركيا، وبدلاً من إبقاء القنوات مع دمشق مفتوحة للوصول إلى الحلول المناسبة باللقاء والتشاور بين نوّابه والمسؤولين السوريين، تراجع في سياساته السورية التي غدت خجولة”.
مع حلول عام 2014، نجح حزب “العدالة والتنمية” في تشكيل السياسة الداخلية التركية وفقاً لرغبته، وبات المحرّك الرئيسي للرأي العام التركي، إلى حد دفع حزب الشعب الجمهوري المعتدّ بعلمانيّته، كونه الحزب الذي أسسه باني الجمهورية التركية الحديثة أتاتورك، إلى اختيار مرشّح اسلامي لمنافسة الرئيس التركي الإسلامي في الانتخابات الرئاسية. خاض الحزب انتخابات عام 2014 الرئاسية بمرشّحه أكمل الدين احسان أوغلو، الرئيس السابق لرابطة الدول الإسلامية، لكنّه فشل في اقناع الإسلاميين الأتراك والحصول على أصواتهم، كما أنّه خسر أصوات قاعدته الشعبية العلمانية واليسارية.
ويعزو ياركاداش انحسار فاعلية حزب الشعب الجمهوري في الملف السوري في تلك الفترة إلى السياسات التي اتّبعها حزب “العدالة والتنمية” حينما “نجح في حصر المسألة السورية في نظر الرأي العام التركي بملف الإرهاب وحزب العمال الكردستاني، فكانت النتيجة اخضاع الشعب الجمهوري لسياساته السورية تحت طائلة اتّهامه بدعم الارهاب والعمل ضد المصالح القومية لتركيا في حال خروجه عن المسار الحكومي”.
الضغوط التي ذكرها النائب التركي، أجبرت حزب الشعب الجمهوري، المنتقد لسياسات الحكومة تجاه دمشق، على تأييد العمليات العسكرية التركية في الأراضي السورية. أعلن الحزب تأييده لاحتلال تركيا لمناطق جرابلس والباب ضمن ما سمّتها أنقرة بعملية “درع الفرات” وعفرين لاحقاً بعملية “غصن الزينون” وصولاً إلى احتلال مناطق واسعة في محافظتي الرقة والحسكة من خلال عملية “نبع السلام”. كما صوّت الحزب بالإيجاب للتفويض البرلماني للحكومة بالقيام بعمليات عسكرية في سوريا والعراق في عام 2019 ولمدة عامين حتى الـ 2021.
أما العنصر الثاني للضغط الحكومي على حزب الشعب الجمهوري في المسألة السورية، فتمثّل في تكرار الرئيس التركي رجب طيب أردوغان استهداف خصمه رئيس الحزب كمال كيليتشدار أوغلو المتحدر من عائلة علوية من درسيم، والإيحاء بتعاطفه مع الرئيس السوري بشار الأسد نتيجة “للروابط الطائفية”، وهو ما أدّى إلى تقويض قدرة كيليتشدار أوغلو على تبنّي مواقف أكثر وضوحاً في مسألة التنسيق مع الأسد وحكومته.
2019 عام التغيير في سياسات الحزب
أدّى تراجع سياسات المعارضة التركية تجاه قضايا المنطقة الغارقة في الأزمات التي خلفها “الربيع العربي” إلى إخلاء ساحة السياسة الخارجية بشكل كامل وتسليمها للائتلاف الحاكم، الذي تحوّل إلى ممثل للدولة التركية وشعبها في الخارج وحيداً، في خروج عن عرف تنسيق مواقف الأحزاب التركية في القضايا الخارجية.
وعلى الرغم من طرح حزب الشعب الجمهوري مشروع “منظمة الشرق الأوسط للسلام والتعاون” (OBIT)، القائم على سياسة تعتمد على السلام والتعاون في منطقة الشرق الأوسط بمشاركة كل من إيران والعراق وسوريا ومصر، إلا أنّ هذا المشروع بقي حبراً على ورق.
ووفق ياركاداش فإن عدم تحقيق هذا المشروع سببه “فشل حزب الشعب الجمهوري في الترويج له، حيث كان من المفترض أن يقوم الحزب بالتواصل مع زعماء الدول المشاركة، وعلى رأسهم الرئيس الأسد وإقناعهم في إمكان تحقيق أهدافه من خلال ممارسات واقعية وعملية، وهو ما لم يحدث للأسباب التي ذُكرت أعلاه”.
منح الفوز الذي حققته المعارضة التركية في الانتخابات المحلّية الأخيرة عام 2019، حزب الشعب الجمهوري دفعاً قويّاً على طريق العودة إلى لعب دور في السياسة الخارجية للبلاد، كثاني أكبر الأحزاب التركية، وأقدمها في تاريخ الجمهورية. وكانت أولى الخطوات في هذا المجال عقد الحزب لمنتدى حواري حول سوريا في مدينة إسطنبول في العام ذاته، حيث تم دعوة العديد من الشخصيات الحزبية والأكاديمية والإعلامية السورية للمرة الأولة منذ اندلاع الأزمة، لكن دمشق تحفّظت عن المشاركة الحزبية والرسمية ليقتصر الحضور السوري الخجول على شخصيات إعلامية وأهلية مستقلّة.
أما التحوّل الأكبر في هذا السياق، فكان تصويت الحزب بـ”لا” على الورقة التي قدّمها الرئيس التركي للبرلمان لتجديد التفويض الممنوح لحكومته من أجل العمليات العسكرية والوجود العسكري في كل من سوريا والعراق لمدة عامين جديدين حتى تشرين الثاني (نوفمبر) 2023.
تزامن ذلك مع عودة الأصوات المطالبة بالتواصل مع حكومة دمشق، لتتحوّل مسألة تطبيع العلاقات التركية – السورية إلى وعد انتخابي في حال وصول حزب الشعب الجمهوري إلى السلطة بعد عقدين من الاقصاء.
إيران وروسيا تدعمان العدالة والتنمية
كررت أنقرة خلال الأسابيع الأخيرة التصريحات والمواقف التي تشير إلى حدوث تحوّل جذري في سياستها تجاه دمشق. فبعد سنوات من تأسيس هذه السياسة على شعار “الصلاة في الجامع الأموي” خرج الرئيس التركي ليعلن عدم وجود نيّة لديه “لهزيمة الأسد ولا وجود لمطامع تركية في الأراضي السورية”، مطلقاً إشارة التراجع عن مواقفه السابقة.
ويرى ياركاداش أن “روسيا وإيران تحاولان سحب ائتلاف العدالة والتنمية إلى خط يناسب تطلّعاتهما ورؤيتهما لحل الأزمة السورية”. وأضاف أن “العدالة والتنمية الذي كان أحد أسباب الأزمة السورية، ونتيجة للفراغ السياسي، بات يسوّق لنفسه كجزء من الحل في سوريا، على الرغم من أن أحد أهم أسباب الأزمة السورية هو انتهاج “العدالة والتنمية” من خلال أحمد داوود أوغلو وأردوغان وعبد الله غول لسياسات باراك أوباما وهيلاري كيلنتون لتقسيم الشرق الأوسط واعادة رسم حدوده، بعيداً من المصالح المحلية والقومية لتركيا”.
ويقدّر ياركاداش خسائر تركيا “جراء سياسات حزب العدالة والتنمية في سوريا بنحو 250 مليار دولار، إضافة إلى عشرات الجنود الأتراك الذين استشهدوا على الأراضي السورية، وتحويل الشرق الأوسط في كتلة من الفوضى”.
نشرت منصّة “هابر ريبورت” الإخبارية التركية صباح الاثنين الماضي خبراً مفاده “تقدّم حزب الشعب الجمهوري بطلب إلى القنصلية السورية في إسطنبول من أجل الموافقة على زيارة وفد رفيع المستوى من الحزب إلى دمشق”. وفي حين رفض مكتب الاتصالات والعلاقات الخارجية للحزب الرد على استفسارات “النهار العربي” حول مدى صحّة الخبر مكتفياً بالرد علينا أن “الوضع ليس واضحاً بعد”، علم “النهار العربي” من مصادر برلمانية وإعلامية داخل حزب الشعب الجمهوري أن “المحادثات لا تزال قائمة داخل الحزب من أجل تشكيل الوفد، وأن تقديم الطلب سيتّم بعد تحديد أسماء أعضاء الوفد، وبعد البحث في احتمالات موقف دمشق من الطلب”.
وكانت دمشق قد نفت سابقاً تسريبات إعلامية لصحيفة “تركيا” المقرّبة من الحكومة التركية، والتي تحدّثت عن احتمال حدوث اتصال هاتفي بين الرئيسين التركي والسوري، فيما كشفت وكالة تسنيم الإيرانية المقرّبة من “الحرس الثوري” في نسختها التركية عن “سعي روسي من أجل إنجاح لقاء بين الأسد ونظيره التركي على هامش أعمال مؤتمر شنغهاي في سمرقند” المزمع عقده في منتصف أيلول (سبتمبر) المقبل.
وقبل أيام، أعلن رئيس حزب “الوطن” التركي المقرّب من العدالة والتنمية، دوغو برينتشك، نيّته زيارة دمشق بناء على دعوة تلقّاها من الرئيس السوري بشار الأسد، قائلاً إن زيارته ستشمل أيضاً اجراء لقاءات مع شخصيات حكومية وأهلية سورية، لكن مصادر مطّلعة نفت لـ”النهار العربي” وجود دعوة من الرئاسة السورية لحزب الوطن لزيارة دمشق مبيّنة أن الحزب قد تقدّم بطلب الحصول على موافقة لزيارة سوريا، فيما امتنع رئيس الحزب، الذي زار دمشق سابقاً، عن الرد على تساؤلات “النهار العربي” حول الموضوع.
ويؤكد ياركاداش على “ضرورة لقاء الشعب الجمهوري مع الأسد وتنسيقه مع الحكومة السورية، من أجل الوصول إلى حل يضمن وحدة سوريا وسلامتها وأمن وسلامة تركيا من خلال القضاء على الإرهاب، وإعادة السوريين إلى بيوتهم، وبخاصة هؤلاء الذين يعيشون في ظروف معيشية قاسية للغاية” في تركيا.
وينهي ياركاداش حديثه لـ”النهار العربي” بالقول إن “السياسة لا تعترف بالفراغ. عندما تترك فراغاً فإن غيرك سيقوم بتعبئتها، لذلك على الشعب الجمهوري، وإن كان متأخراً، المضي في ما أكدنا عليه طوال سنوات الأزمة السورية”.
المصدر: النهار العربي