ربما تجسد رسالة الخميني التي وجهها للإيرانيين في 8 آب 1988، والتي أعلن فيها موافقته على قرار مجلس الأمن الدولي 598 والصادر في تموز 1987، والقاضي بوقف إطلاق النار في حرب الثماني سنوات، ربما تجسد الفلسفة السياسية والدينية الباطنية التي يحملها هذا الشخص، عندما خاطب الإيرانيين بقوله “احبسوا حقدكم الثوري في صدوركم”، ولا شك أن هذا ناتج عن حالة الانكسار المدمرة التي عانى منها نتيجة تجّرعه كأس السم، عندما وافق راغما على وقف العمليات الحربية مع العراق، بعد أن وصلت إيران إلى حافة الانهيار، فاستجاب لنداءات الاستغاثة التي وجهها إليه مساعدوه ومستشاروه بإنقاذ ما يمكن إنقاذه قبل الطوفان.
شخصية الخميني تنطوي على كثير من التناقضات والصراعات الداخلية التي يعيشها، أو كرسها المحيطون به، فعلى الرغم من أنه يطرح نفسه زعيماً إسلامياً لكل المسلمين وليس للشيعة، إلا أنه في واقع الحال نجح إلى حدود بعيدة في شق وحدة الشيعة الجعفرية الاثني عشرية، بعد أن ظلوا يسيرون على خط واحد منذ وضع لهم الكليني وغيره من طبقة المؤسسين الأوائل للمذهب، اخترع خطاً جديداً أسماه “ولاية الفقيه” الذي جوبه بمقاومة ضارية حتى داخل إيران من مراجع كبار مثل كاظم شريعتمداري، وكلبيكاني وآخرين كثر، كما أن مرجعية النجف في العراق، وقفت بقوة ضد المذهب الجديد فقهيا، وإن كانت قد اعتبرته منهاجا قد يصلح كنقطة ارتكاز لانطلاقة جديدة للمذهب الجعفري في العام الإسلامي.
ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل طرح أفكاراً تشكك بالرسالة الإسلامية التي جاء بها الرسول الكريم محمد صلى الله عليه وسلم، فكان يطرح بصوت عالٍ، بأن الرسل والأنبياء جميعاً بمن فيهم نبينا الكريم صلى الله عليه وسلم، لم يكملوا رسالات الله، وطرح نفسه كمنقذ للإنسانية من الإخفاقات التي عجز الأنبياء والمرسلين عن إتمامها، ولهذا قدم نفسه كنائب للإمام الغائب الثاني عشر، وكان على يقين أنه لن يغادر الحياة ما لم يتسلم الراية من الإمام المهدي المنتظر، أو يسلمه تجربة حكم متكاملة، هذا كله انعكس على تفكيره في كيفية إدارة ملف الحرب، ولهذا ركب رأسه ورفض بقوة كل ما طرح عليه من مشاريع لوقف إطلاق النار.
لم تكن موافقته على الجنوح إلى منطق السلام، تغيراً في قناعاته السياسية والفكرية، أو عن قناعة بأن إيران لا يمكنها أن تبقى التعبير الوحيد لما يسمى بالثورة الدائمة، في منطقة الشرق الأوسط، ومنطقة الخزان النفطي الاستراتيجي للعالم، بل لأن إيران استفدت كل رصيدها من المدخرات المالية والاقتصادية وبالتالي فقدت قيادتها قدرتها على إقناع الشارع بتقديم المزيد من التضحيات، لأن الشارع الإيراني لم يعد يمتلك شيئا ليقدمه لمجهود حربي عابث وميؤوس منه، مع قوة عراقية عسكرية متصاعدة، واقتصادية داخلية بدأت تتنوع في فعالياتها في مجالات الصناعة والزراعة والتعدين، وتجد لها متنفساً من محيطها العربي الذي توصل إلى قناعة يقينية، إلى أن العراق يجب ألا يخسر الحرب، لأن هذا الاحتمال إن حصل في أي ظرف من الظروف، فإن شعار تصدير الثورة، لن يتوقف إلا بعد أن يهيمن على كل العواصم العربية.
في أحد اللقاءات السياسية اعترف هاشمي رفسنجاني بأنه أعرب مراراً وتكراراً أمام الخميني في اجتماعات موسعة أو في لقاءات ثنائية، عن قناعته بعدم القدرة على كسب الحرب، وأن إيران وصلت إلى مرحلة الأكل من جسدها الهزيل، ومن رصيدها الذي وصل إلى تحت الصفر، “ورفسنجاني هو أشجع الجبناء من حاشية الخميني المقربة” وكان يشغل مناصب عدة فإضافة إلى رئاسته لمجلس الشورى، كان الخميني قد اختاره ممثلاً له في مجلس الدفاع الأعلى، ليكون عينه وأذنه على نشاط المجلس وخاصة في كيفية إدارة ملف الحرب، قال رفسنجاني “نقلنا للخميني وخاصة بعد عمليات كربلاء 5، وهي أكبر حملة تشنها إيران طيلة الحرب، بعد أن حشدت لها كل الموارد الاقتصادية والبشرية والعسكرية، وراهنت على أنها سترسم صورة الحرب في صفحاتها النهائية بنصر حاسم، يتوج باحتلال مدينة البصرة ومن هناك لتنطلق جحافل الجيش والحرس الثوري والبسيج، مدعومة بجماهير شيعية واسعة افترض الخميني أنها موالية له دون تحفظ، نحو بغداد لإسقاط نظام الرئيس صدام حسين وحزب البعث العربي الاشتراكي، وقال رفسنجاني إنه أبلغ الخميني بأن إيران وصلت حداً لا تستطيع فيه إقناع أحد من أبناء الشعب بجدوى استمرار الحرب.
ولكن العراق الذي أطلق على العملية المذكورة اسم “معركة الحصاد الأكبر”، وسُميت محلياً باسم معركة نهر جاسم، كان مستعداً لها استعداداً كاملاً، فقد هيأ أقوى فرقه وتشكيلاته المجهزة جيداً وبأحدث الأسلحة الفتاكة، والمدربة على أحدث فنون القتال، لإلحاق الهزيمة الكبرى بأحلام إيران بتحقيق النصر، فكانت المعركة حصاداً أكبر بكل معنى الكلمة، تطايرت فيه رؤوس الإيرانيين بعشرات الآلاف، إذ تكبدت إيران أكبر حصيلة بشرية، وبآلتها الحربية في تلك المعركة، وبالفعل وكما وصفتها وسائل الإعلام الدولية ومراكز الدراسات الاستراتيجية الغربية، بأنها أكبر معركة برية منذ الحرب العالمية الثانية، لقد تصدى العراقيون فيها بكل ما يحملون من إرادة وعزم، فتمكنوا من كسر العمود الفقري للقوات المسلحة الإيرانية بكل مسمياتها، وبذلك أيقظوا الخميني من رقدته الطويلة التي كان يحلم بأنها ستمنحه مفتاح العالم إذا ما نجح في احتلال العراق.
وحاول الخميني بكل طاقته أن يجبر القيادات العسكرية الإيرانية لتنفيذ عمليات محدودة وذات طابع استعراضي في بعض الجبهات، بهدف امتصاص النقمة الداخلية ورفع المعنويات المحلية، التي أصيبت بنكسة عسيرة على رأب صدعها، ولعل بقية عام 1987 مرت من دون مفاجآت كبيرة على أي من طرفي القتال، وبعد هذه المعركة تحركت الأسرة الدولية ممثلة بمجلس الأمن الدولي، لوضع مشروع قرار متوازن يمكن أن يحظى بموافقة العراق وإيران، فصدر القرار 598 في العشرين من تموز 1987، فوافق عليه العراق من دون تأخير، ولكن عناد الخميني الذي ظن أنه حقق له كل ما يطمح إليه في الداخل الإيراني سيحقق له في حرب عدوانية على بلد مجاور نفس الأهداف وبنفس اليسر والسهولة، قاده إلى تحدي الأسرة الدولية، وفرض على مجلس الشورى والحكومة ومجلس الدفاع الأعلى، مواقف كانت تلك الأجهزة على يقين أنها مراهنة بين الموت البطيء على الفراش والموت بالرصاصة.
وبعد مرور أكثر من سنة على عمليات الحصاد الأكبر، التي أوصلت المؤسسة العسكرية الإيرانية إلى حافة الانهيار، وأوصلت معنويات المقاتل العراقي وثقته بقيادته وكفاءتها في إدارة ملف الحرب، بدأ التخطيط لعمليات عسكرية واسعة النطاق، هدفها الميداني، طرد القوات الإيرانية من كل شبر تمكنت من احتلاله في السنوات الأخيرة وتطهيره من دنسها، فكانت إطلالة شهر رمضان المبارك سنة 1408 الموافق ليوم 17 نيسان 1988، انطلقت أكبر عملية عسكرية محكمة تخللتها سلسلة حاذقة من مخادعة العدو الإيراني، فكانت معركة رمضان مبارك لتحرير مدينة الفاو، التي كانت بحق فاتحة الانتصارات العراقية التي حطمت الغطرسة الإيرانية وسحقت ظهر العدو، وبعد أن تم تحرير الفاو، وقال هاشمي رفسنجاني في خطبة صلاة الجمعة وبنبرة منكسرة “حسنا لقد فقدنا الفاو”.
وبعد الفاو انطلقت عمليات توكلنا على الله لتحرير الأراضي والقصبات الأخرى من سيطرة القوات الإيرانية التي كانت مواضعها تتداعى كهياكل كارتونية أمام قبضات الجنود العراقيين المتقدمين نحو أهدافهم ولا يلتفتون إلى الوراء، فتم تحقيق الانتصار تلو الآخر حتى لم يبق متر واحد تدنسه قدم جندي أجنبي، حينذاك نشرت صحيفة “كيهان العربي”، المعبرة عن مواقف الخميني، مقالاً افتتاحياً عبر عن الدهشة لما يحصل في جبهات القتال فقالت بالحرف الواحد “ماذا يحصل؟ هل وصل الجيش العراقي إلى هذا الحد من القوة بحيث لا نستطيع مواجهته؟ أم أننا بتنا بهذا الضعف والوهن بحيث استطاع العراقيون إزاحتنا عن مواضعنا؟”
إن يوم الثامن من آب 1988 هو ثمرة جهد طويل وشاق من العمل الدؤوب لبناء العراق داخلياً وعسكرياً واقتصادياً بدأ منذ اليوم الأول لوصول حزب البعث العربي الاشتراكي للحكم في السابع عشر من تموز 1968، وليس نتاج عمليات عسكرية سريعة وخاطفة عام 1988 فقط.
وشعب بهذا الطراز المبدع وما يمتلكه من استعداد للتضحية، لهو جدير بالحياة الحرة الكريمة، ولا بد أن تكون انتصارات قادسية صدام المجيدة، حافزا عظيما للتوكل على الله وعقد العزم على خوض معركة تحرير الوطن من ذات العدو الذي جرعناه كأس السم بعد منازلة خالدة استمرت ثمانية أعوام من السؤدد، وطرز فيها العراقيون الأفق العربي والإنساني ببطولتهم وشجاعتهم التي استعادت بطولات خالد وسعد والمثنى وأبي عبيدة.
المصدر: العراق العربي