لم تعد قضية المطران الحاج قضية تعامل مع دولة “عدوة”، بل باتت قضية من يمسك بزمام الأمور في لبنان ويحدد مساحة المقبول وغير المقبول، ويضع آليات الملاحقة والعقاب، ويعرف المفاهيم والمصطلحات. هي في ظاهرها تطبيق للقانون، واستنفار وطني غيور ضد أي أشكال التعامل مع إسرائيل، لكنها في عمقها وحقيقتها تغيير لقواعد اللعبة الداخلية في لبنان، إنهاء لخارطة توزيع القوة فيه، تمدد حزب الهي لرسم معادلة جديدة، لم تعد هذه المرة ذات طبيعة أفقيه، تقوم على الاعتراف المتبادل بين مساحات نفوذ مكونات المجتمع اللبناني، بل باتت عامودية تقوم على تراتبية بين القوى ذات بنية هرمية يكون حزب الله رأسها وممسكاً بكامل مفاصلها. أنجز حزب الله ورشة القضاء على القوة السياسية السنية الممثلة بتيار المستقبل، الذي بدأ باغتيال مؤسسه رفيق الحريري وانتهى بتشتيت التيار، وإعلان رئيسه سعد الاعتزال والاقرار بالهزيمة. هو انسحاب أصاب مركز الثقل السياسي للطائفة السنية، وعرضها للتشتت والتفرق، وجعلها مسرحاً للمواقف المتباينة والمتباعدة، فضلا عن تحولها إلى فريسة سهلة للاختراق، بعد أن حل محل المركز السياسي شخصيات طامحة للوصول إلى السلطة مهما كانت أثمانه وتبعاته. هي وضعية تقلل الأمل بنشوء قريب لقوة استقطاب مركزي بديلة، وبقاء التشتت سمة طويلة الأمد للحالة السنية. أما الطرف الدرزي، فقد اكتشف الخلل الهائل في ميزان القوى الداخلي لصالح حزب الله بعد حرب 2006 ثم احتلال بيروت، فآثرت قيادته الخروج من معركة المواجهة ضد حزب الله والنظام السوري، وممارسة مجافاة شكلية، لكن يحركها تخل ضمني عن مشروع الدولة والسيادة، وإنكفاء غير معلن من أية مواجهة، والتعامل مع معطيات الأمر الواقع بكثير من الذرائعية والبراغماتية، والتركيز على حفظ مصالح الطائفة الدرزية مهما كانت طبيعة النظام أو الجهة الحاكمة. هو موقف أحدث تحولاً في سياسة القيادة الدرزية، من مواجهة مبدئية إلى تقاسم الحصص، من مشروع تغييري وثوري وتنويري مثَّلته قيادة كمال جنبلاط، إلى سياسة البقاء وتقليل الخسائر، من مشروع دولة عادلة تنصف الطائفة، إلى حفظ مصالح الطائفة مهما كانت طبيعة الدولة. أي من الطموح بدولة ذات مواصفات خاصة إلى التكيف مع أية دولة أو سلطة. أما الطرف المسيحي، فمن الواضح أن الطائفة المارونية ما تزال تمثل ثقله ونقطة ارتكازه، سواء أكان على مستوى القيادة السياسية والتنظيمات الحزبية، أم على مستوى قوة البطريركية المارونية، التي لا تقتصر قوتها على رعايتها الدينية، وإنما تتمثل برمزيتها التأسيسية للكيان اللبناني نفسه، وبكونها امتداداً رسمياً للكنيسة الكاثوليكية، أي تنعمها بغطاء دولي وعالمي شديد الفعالية والتركيز. كانت رئاسة الجمهورية نقطة ضعف الطائفة المارونية لا مصدر قوتها، أي كانت هي الخاصرة الرخوة التي مكنت حزب الله من اختراق الطائفة المارونية، وبالتالي المكون المسيحي بأسره، من خلال إثبات قدرته على أن يكون بوابة العبور الإلزامية إلى رئاسة الجمهورية، فضلا عن تقديم نفسه ضمانة لأمن “الأقليات المسيحية”. هو أمر أحدث انقساماً في الرأي داخل المجال المسيحي، الذي تتحكم فيه الرغبة بقيام الدولة السيدة ويعاني في الوقت نفسه من رهاب مسيطر جراء تصاعد الأصوليات السنية، الأمر الذي سهل تعميم فكرة تحالف الأقليات، ودفع القيادات السياسية الطامحة إلى الرئاسة على عقد صفقة ضمنية مع حزب الله، ظاهرها رئاسة مقابل شرعنه سلاح الحزب، لكن حقيقتها هي: الوصول إلى رئاسة الجمهورية مقابل التخلي الكامل عن سيادة الدولة. نجح حزب الله في إحداث اختراق سياسي ومجتمعي داخل الساحة المسيحية لفترة طويلة، بحكم التقية المتقنة التي كان يمارسها، وبحكم ارتفاع وتيرة الخوف من الخطر الأصولي السني الممثل بالقاعدة وداعش في المنطقة. حيث غلب على المزاج المسيحي قبولاً بدور سلاح هذا الحزب في سوريا ضد التنظيات الجهادية، بخاصة بعدما عمم الحزب أن سلاحه منع تمدد هذه التنظيمات داخل لبنان. لكن الصورة أخذت تتغير بعد طي صفحة داعش في سوريا والعراق، وظهور الحزب بصفته القوة الحامية لمنظومة السلطة الفاسدة في لبنان، واستعمال ألوان شتى من القمع وتشويه سمعة المحتجين والمتظاهرين. هي وضعية أحدثت تعديلاً هائلاً في المزاج المسيحي، تحول معها سلاح حزب الله بنظر هؤلاء من حليف إلى وصي، من ضمانة إلى تهديد وجودي. هو تحول عكسته نتائج الانتخابات التي أنهت مجد حليفه العوني، وأظهرت أكثرية مسيحية كاسحة رافضة لهذا السلاح بكل عناوينه التي يتزين بها. بقيت البطريركية المؤسسة الوحيدة التي لم يكن بالإمكان اختراقها أو حتى استمالتها. فالبطريركية، بخلاف المجالس الطائفية الأخرى في لبنان، مستقلة في تكوينها وهرميتها عن أي نفوذ سياسي، وما تزال تتمتع بقدرة استقطاب عالية وطاقة تعبئة شعبية لافتة بحكم رسوخ الهوية الدينية وارتفاع مستويات التدين في المجال المسيحي. هذه المؤسسة قررت، وبعد صمت أو صبر طويل، أن تخوض معركة لبنان بأسره، وتسمي الأشياء بأسمائها. طرحت مقولة حياد لبنان، لكي لا يكون نفوذاً خارجياً أو ساحة رسائل دولية، واعتبرت أن سلاح الحزب مشكلة جوهرية لا تقبل التسويات أو أنصاف الحلول لأنها تعارض أصل فكرة الدولة وتناقض صميم الكيان اللبناني لم يبق أمام حزب الله، بعد تطويع مؤسسات الدولة اللبنانية كافة، وبعد بقاء هامش سياسي مقبول داعم له داخل الساحة المسيحية، لم يبق إلا الاشتباك مع آخر حصون الكيان اللبناني وهو البطريركية المارونية. لكن هذه المرة لا من ناحية التخويف أو عرض العضلات أو انتشار القمصان السود، فهذا يرتد سلباً على الحزب، بل لجهة التضييق على مساحة عمل البطريركية ونشاطها من خلال الاستعانة باجتهادات قانونية تعسفية، وتحريك موضوع العمالة لإسرائيل ورميه في وجه البطريركية. فهمت البطريركية ما جرى للمطران موسى الحاج بأن تحريك القانون هو بداية أولى لسلسلة طويلة من التضييقات القانونية، أي مسار طويل للإخضاع. وتحريك مسألة التعامل مع إسرائيل مدخلاً لطرح تساؤلات وتشكيكات ضد وطنيتها، أي تلطيخ سمعة إرثها التاريخي وإسقاط شرعيتها وتحطيم صدقيتها الأخلاقية. هذا يفسر رد الفعل العنيف من البطريركية، لأنها لم تعد قضية قانونية، ولم تكن كذلك من الاساس، بل قضية سمعة ومكانة ودور ورمز. فالاستهداف بنظرها لا يطال سلوكاً أو فرداً أو تفصيلاً عابراً، بل تصويب قاتل يستهدف صميم المؤسسة. بحيث لا يعود المتهم هو المطران الحاج، ولا تعود المسألة قضية أموال منقولة من دولة عدوة، بل تصبح البطريركية بأسرها، وبكل ما تقوم عليه، هي المتهمة وموضع المحاكمة. هي صورة آثرت البطريركية مواجهتها لا بالدفاع عن نفسها، بل الهجوم المضاد والتهمة المضادة لكل الذين تورطوا في خلق مشهدية العمالة المزيفة أو المصطنعة. كانت العمالة مع إسرائيل في زمن احتلالها للجنوب اللبناني قضية أخلاقية ووطنية، ولا يوجد شيء يسوغها. لكن في الوقت نفسه لم يكن بالإمكان إلغاء الأبعاد الإنسانية للمسألة. ففي زمن الاحتلال الإسرائيلي للجنوب اللبناني، تسامح الحزب والدولة معاً بتواصل القاطنين في منطقة الاحتلال مع أهاليهم وأقاربهم في المناطق المحررة، وتساهل بنقل أموال ومساعدات من القاطنين من منطقة الاحتلال إلى أهلهم وذويهم في المناطق المحررة وبالعكس، وسمح بحرية الحركة من وإلى هذه المناطق، على الرغم من المخاطر الأمنية والاستخباراتية التي قد يترتب على ذلك. لكن ذلك ساهم بامتصاص التبعات والآثار الاقتصادية والإنسانية. كذلك الأمر، حين انسحبت إسرائيل، بقي الكثير من العملاء الشيعة مع أُسرهم في الجنوب اللبناني، وكانت عقوبتهم طفيفة بالقياس إلى جرائمهم. وقد عمد حزب الله نفسه إلى استيعابهم وإعادة تأهيلهم وتطويع الكثير منهم ومن أبنائهم داخل صفوفه. قضية العمالة تحولت بعد الإنسحاب الإسرائيلي إلى مشكلة إجتماعية واقتصادية، بعدما كانت زمن الاحتلال مشكلة أخلاقية ووطنية هذا يعني أن قضية العمالة تحولت بعد الإنسحاب الإسرائيلي إلى مشكلة إجتماعية واقتصادية، بعدما كانت زمن الاحتلال مشكلة أخلاقية ووطنية. وكان المطلوب، من دون التسامح في ذنب العمالة، أن تعالج تبعات المشكلة وآثارها، التي لا تحصل بالمزايدة ورفع السقف بل بالتفهم والاستيعاب والحل المنصف والرحيم. هذا الأمر لم يحصل في الدولة اللبنانية، وقصرت في حل مشكلة الذين هربوا إلى إسرائيل مع بقاء عائلاتهم وأُسرهم داخل لبنان، وظل مزاج المزايدة الغوغائي هو السائد، وهو مزاج لا يعنيه حل المشكلة بل التلاعب على تناقضاتها وإساءة توظيفها لغايات حزبية أو سياسية أو أيديولوجية، أي إدراجها مادة توظيف بشعة وابتزاز وقح في الصراعات الداخلية اللبنانية. بالتالي بقيت مشكلة هؤلاء معلقة سياسياً وقانونياً، الأمر الذي فاقم من تأزمها الاجتماعي والاقتصادي، أي العمق الإنساني، بخاصة أُسَرُ هؤلاء وعائلاتهم. وهو الجانب الذي عمدت البطريركية إلى التخفيف من تبعاته وآثاره المدمرة من دون أن تعطي لما تفعله أي دلالة سياسية أو تعد وانتهاك قانونيين، ولم تتبن تسويغاً لعمالة الذين هربوا إلى الداخل الإسرائيلي، بل فعلت ما قصرت الدولة اللبنانية عن فعله، في ضرورة السعي إلى استعادة أبنائها وتسهيل تواصلهم مع عائلاتهم ولم شملهم مع أسرهم، حتى لو كانوا مذنبين. حين يساء استعمال موضوع العمالة أو العداوة لإسرائيل لصالح نزعة سيطرة داخلية، وحين تصبح العمالة شعاراً غوغائياً لرفع السقوف ونثر التهم جزافاً، لا نعود أمام قضية وطنية، أو أمام قضية مقاومة، بل أمام سلطة زاحفة ومقتحمة لكل الحصون والقلاع، لا تكتفي بامتلاك ناصية القرار السياسي، بل تنزع إلى امتلاك الحقيقة، أي سلطة صياغة المفاهيم، وتعريف المصطلحات، وتحديد معيار الخطأ والصواب، ورسم الخطوط الفاصلة بين الخير والشر، وصلاحية تصنيف مَنْ على حق ومن على باطل، من العميل ومن الغيور.
المصدر: جنوبية