طهران تواجه أزمة الصراع بين أقطاب الإطار التنسيقي الشيعي على رئاسة الحكومة. قد لا يكون جديداً الحديث عن حجم التدخل الإيراني في التفاصيل الداخلية العراقية وما تقوم به أجهزتها الأمنية، السياسية والعسكرية والاقتصادية، وحتى في تركيب التحالفات والائتلافات وتشكيل الحكومات واختيار الوزراء وصولاً إلى أقل التفاصيل. وأن اتساع هذا الدور تحول إلى ساحة صراع بين هذه الأجهزة، بخاصة بين جهازي قوة القدس التابع لحرس الثورة ووزارة الاستخبارات الخاضعة لسلطة الحكومة الإيرانية وتنفذ سياساتها وتوجهاتها.
والصراع على الساحة العراقية بين الأجهزة الإيرانية لم يقف عند هذه الحدود بل انتقل إلى داخل الجهاز الواحد، وبات الضباط المسؤولون عن الساحة العراقية من الحرس والاستخبارات يتنافسون لتمرير رؤيتهم وفهمهم لما يجب أن تكون عليه المواقف والتحالفات بين القوى العراقية، بحيث وصلت الأمور أن أجبرت قيادة النظام للتدخل مباشرة لضبط هذه الصراعات التي تخفت في مرحلة وتعود للبروز في مرحلة أخرى.
ولا تتردد القيادات الإيرانية، العسكرية والسياسية والأمنية، من الحديث العلني عن أهمية الساحة العراقية، وأنها تشكل الامتداد الطبيعي للأمن القومي الإيراني والفضاء الذي يؤثر في معادلات النظام الإقليمية، لذلك لم تتأخر في المبادرة، علناً وسراً، للتعامل مع النتائج التي انتهت إليها الانتخابات البرلمانية المبكرة التي أجريت في 10 أكتوبر (تشرين الأول) 2021، والبحث عن الآليات التي تساعد على تفكيك تداعياتها السلبية على المعادلة الإيرانية في الساحة العراقية.
القلق الإيراني المعلن من المشروع السياسي للتحالف الثلاثي الذي عقد بعد الانتخابات البرلمانية بين التيار الصدري بقيادة مقتدى الصدر بعد حصوله على النسبة الأكبر من مقاعد المكون الشيعي والحزب الديمقراطي الكردستاني بقيادة مسعود بارزاني وتحالف السيادة بقيادة محمد الحلبوسي وخميس الخنجر، أجبر القيادة الإيرانية، ونتيجة لضعف وتشتت القوى والفصائل الموالية لها وعدم قدرتهم على كسب ثقة الشارع العراقي واستمرار صراعاتهم الداخلية، على التدخل المباشر لكسر الاندفاعة الصدرية تحت عنوان حكومة الغالبية.
قرار الاستقالة من البرلمان الذي اتخذه مقتدى الصدر وأبعد الكتلة الصدرية عن التأثير المباشر في المعادلة السياسية والحكومية جاء بعد محاولات عدة قام بها الصدر، للتوصل إلى تفاهم مع الإطار التنسيقي الذي يضم القوى الشيعية المقربة من إيران لبناء تحالف معها يساعد على تمرير الاستحقاقات الدستورية، إلا أن الدور السلبي الذي مارسه زعيم ائتلاف دولة القانون رئيس الوزراء الأسبق نوري المالكي، أفشل كل هذه المساعي لجهة تمسكه بموقفه الرافض لتولي التيار الصدري رئاسة الحكومة والقرار الأول داخل المكون الشيعي.
التسريبات الصوتية لحديث المالكي عن استعداده للذهاب إلى مواجهة دموية في الشارع لإخراج الصدر من المعادلة السياسية كشف حقيقة المعركة الدائرة داخل القوى الشيعية، وأبعادها الشخصية بينه وبين الصدر. وأنه على استعداد للذهاب بعيداً من أجل استغلال الفرصة التي أتاحتها استقالة نواب الكتلة الصدرية لعودته إلى موقع القرار على رأس السلطة التنفيذية. والخطوات التي يمكن أن يلجأ إليها لتثبيت سلطته وسطوته.
في المقابل، لا يتردد الصدر في إعلان موقفه السلبي والصلب من عودة المالكي إلى موقع القرار، وأنه على استعداد للجوء إلى الشارع لإسقاط أي حكومة برئاسته، انطلاقاً من مخاوفه بإمكانية استعادة أو العودة إلى التجربة التاريخية بين الطرفين عام 2007 وما بعدها في معركة صولة الفرسان وغيرها من المعارك التي استهدفت التيار الصدري وجيش المهدي الذي قاده مقتدى في تلك المرحلة.
المالكي كان مباشراً وصريحاً في التسريبات الصوتية المنسوبة له بضرورة الاعتماد على العامل الإيراني في معركته المفترضة مع التيار الصدري، بحيث ينقل التورط الإيراني بالساحة العراقية من المستوى السياسي والأمني إلى مستوى الدخول في مواجهات عسكرية وحرب داخل البيت الشيعي. خصوصاً ما يتعلق بضرورة رفع مستوى التنسيق مع أجهزة حرس الثورة الإيرانية، وضرورة تأمين الغطاء الديني والسياسي لإراقة الدماء، في حال ذهبت الأمور إلى مواجهة مفتوحة في الشارع مع التيار الصدري، والتي لن يتردد في خوضها واللجوء إليها.
ويبدو أن الفاعل الإيراني في العراق، الذي لم ينتج سوى سلبيات، وبعد أن حيد إلى حد كبير الدور والتأثير الصدري في الاستحقاقات الدستورية من دون الصدام المباشر معه، وسمحت له بإعادة ترتيب أوراقه على ساحتي المكونين الكردي والسني، واجه أزمة داخل المكون الشيعي والإطار التنسيقي الذي من المفترض أن يكون الوريث للدور الصدري، وهي تصاعد الصراع بين أقطاب الإطار على رئاسة الحكومة والاستئثار بالحصة الأكبر على حساب المشروع السياسي، وشكل المالكي في هذا السياق العائق الأكبر في دفع العملية السياسية بعد مرور أكثر من شهر على انسحاب الصدر وتخليه عن حقه الدستوري إلى نهاياتها المطلوبة، ما أجبره على التدخل لإزاحة المالكي أو إبعاده عن الواجهة، مع الحفاظ على دوره كشريك في العملية السياسية، وبما يساعد على إرضاء الصدر وقطع الطريق لاستخدامه الشارع لمواجهة الحكومة الجديدة المنتظرة.
ولا شك أن الجانب الإيراني يسعى لتمرير الاستحقاقات الدستورية العراقية، بما يخدم التفاهم الذي جرى بينه وبين الفاعل الأميركي خلال اللقاءات التي عقدت بينهما بعيداً من الأنظار وبدور تنسيقي بريطاني، وأن تسريبات المالكي صبت في إطار خدمة هذه الرؤية وهذه التفاهمات، بحيث حسمت الموقف ومهدت الطريق لإمكانية إخراج المالكي من المعادلة، بما يهدئ مخاوف الصدر، ويفتح الطريق أمام مكونات الإطار الأخرى لاختيار رئيس وزراء جديد، بخاصة في ظل مؤشرات إيجابية كردية على إمكانية التفاهم بين الحزبين الكرديين، الاتحاد الوطني والديمقراطي، على مرشح رئاسة الجمهورية.
وعلى الرغم من التوجهات السياسية الإيرانية على الساحة الدولية، وسعيها لعقد تحالفات أو تشكيل محور دولي إقليمي بالشراكة مع روسيا لمواجهة السياسات الأميركية، إلا أن هذه القيادة تبدي حرصاً كبيراً على عدم التصادم مع الإدارة الأميركية على الساحة العراقية، إضافة إلى اعتبار استقرار العراق وتفعيل العملية السياسية والدستورية يشكل مدخلاً لبناء وتعزيز الثقة مع الجوار العربي وإمكانية التفاهم مع دول المنطقة على التعاون مستقبلاً.
المصدر: اندبندنت عربية