رغم أن التقييم الرائج لحصيلة المناكفة الدبلوماسية في مجلس الأمن، خلال الأسبوع الفائت، حول تمديد آلية تمرير المساعدات الدولية عبر الحدود إلى سوريا، مفادها أن روسيا حققت نجاحاً وابتزت المجتمع الدولي، ولوت ذراعه كي يخضع لإرادتها، بتمديد الآلية لستة أشهر فقط.. إلا أن تساؤلاً يغيب عن النقاش بهذا الخصوص. إن كانت روسيا ترى أن تمرير المساعدات عبر الحدود يضرّ بـ “سيادة” النظام السوري، ويلجم مساعيها في تعزيز “شرعيته”، وجعل اليد العليا في شمال غرب البلاد، لـ “دمشق”، باستخدام المساعدات كـ سلاح.. إذاً، لماذا لم تُجهض روسيا آلية تمرير المساعدات عبر الحدود، تماماً؟ فهي استخدمت حق النقض (الفيتو)، ضد قرار التمديد لعام، ومن ثم لوحت بـ “فيتو” آخر، ضد التمديد لتسعة أشهر، مصرّةً على التمديد لستة أشهر فقط، وهو ما اعتبرته منظمات إغاثية “الحلقة الأخيرة” في تمرير المساعدات عبر “باب الهوى”، وانتقال هذه العملية، لتتم عبر “خطوط التماس”، لتصبح المساعدات رهينةً بإرادة “دمشق”. فلماذا أتاحت موسكو هذه المهلة الزمنية لتحقيق هذا الهدف؟ ولماذا لم تذهب نحو تحقيق هذا الهدف –إنهاء المساعدات عبر الحدود- مباشرةً؟
دعنا نتصور ماذا كان يمكن أن يحدث لو لم يتم تمديد آلية تمرير المساعدات عبر “باب الهوى”. كان الاستقرار الهش في إدلب سينهار، وستتعرض معيشة نحو 4 ملايين نازح لخطر محدق، وفي هذه الحالة، سنكون أمام سيناريو محتمل بشدة، أن يتدفق عشرات آلاف النازحين محاولين دخول الأراضي التركية، في محاولة للوصول إلى أوروبا، مما سيجعل الاستقرار التركي في خطر، وسط تزايد الامتعاض الشعبي التركي من الوجود السوري، بالتزامن مع اقتراب موعد الانتخابات البرلمانية والرئاسية التركية.. نظرياً، قد تستفيد روسيا من هكذا سيناريو، فهي ستزيد الضغط على تركيا، وكذلك من خلفها، على أوروبا، التي تتمترس وراء الولايات المتحدة الأميركية بمواجهة روسيا في أوكرانيا. لكن، من الناحية العملية، إن تحقق ذاك السيناريو، فهذا يعني خسارة سنوات من الجهد الروسي الحثيث، لاجتذاب تركيا، وتعزيز العلاقات معها. وحصيلة هذا الجهد، ظهرت في حرب أوكرانيا، حيث وقفت تركيا موقفاً أقرب إلى الحياد، مما خفّف من الضغط على روسيا، خاصة من الناحية الاقتصادية. هذا إن تحقق السيناريو المشار إليه، ولم تتمكن السلطات التركية من إجهاضه، عبر تعزيز قدراتها العسكرية على الحدود مع إدلب، لمنع حركة نزوح واسعة إلى أراضيها. في هذه الحالة، سيحصل العكس، إذ ستصبح إدلب، بنازحيها الأربعة ملايين، الذين هم في غالبيتهم العظمى مناوئين بشدة لنظام الأسد، في وضعية تضطرهم للقبول بخيار الخضوع لإرادة النظام وروسيا. نظرياً، هي نتيجة إيجابية لموسكو وحليفها الأسد، لكن عملياً، يعني ذلك أعباء أمنية واقتصادية ضخمة ستُلقى على عاتق الحليفين. وهو ما خلصت إليه قراءة نشرتها “فورين بوليسي”، قبل نحو عام، حينما استندت إلى افتراضات مسؤولين أميركيين، مفادها أن موسكو لا تريد في الواقع إغلاق الحدود أمام المساعدات، خشية أن يؤدي ذلك إلى انهيار الاستقرار الهش في إدلب. فروسيا وحليفها الأسد، وفق المجلة الأميركية، لا يريدون التعامل مع المناوئين من سكان المحافظة البالغ عددهم نحو 4 ملايين نسمة.
إلى جانب ما سبق، هناك سيناريو مرجح حدوثه، إن أقفلت روسيا صنبور المساعدات عبر “باب الهوى”، تماماً. إذ قد ترفض الدول الغربية هذا الابتزاز، وتنهي تمويلها للمساعدات القادمة إلى سوريا، بمجملها، مما يعني خسارة نظام الأسد لمصدر مهم من مصادر الدعم المالي والإغاثي التي يستغلها. لذلك، روسيا تسعى إلى إنهاء “تدريجي” لآلية المساعدات عبر الحدود. فروسيا تراهن على الدعم الأممي، كما وتراهن على مبدأ “التعافي المبكر”، الذي أقرت به أطراف غربية، كي يساعد في دعم اقتصاد النظام المنهار. وهو ما لحظه نص القرار الأخير، إذ أشار إلى إمكانية إجراء حوار تفاعلي غير رسمي لمجلس الأمن، كل شهرين، مع الجهات المانحة والأطراف الإقليمية المعنية والمنظمات الإنسانية بشأن “مشاريع لإعادة التأهيل السريعة” على وجه الخصوص، وهي مشاريع سيستفيد منها اقتصاد المناطق الخاضعة لسيطرة النظام. وهو ما اعتبره مراقبون تنازلاً غربياً لروسيا. أي أن الطرفين –الروسي والغربي- وصلا إلى حلٍ وسطٍ، بغية عدم التصعيد في سوريا. ومن المتوقع في الفترة القادمة، أن تحث موسكو حليفها الأسد على الالتزام بتمريرٍ سلس للمساعدات إلى إدلب، عبر “خطوط التماس”، لإثبات “حسن النيّة” بهذا الصدد، كما سبق وحدث عدة مرات، في الأشهر القليلة الفائتة.
كما وتخشى موسكو، أن يؤدي إصرارها على إنهاء المساعدات عبر الحدود، مباشرةً، إلى رد فعل أميركي سلبي، يتمثل بالضغط على “قسد” لوقف تزويد النظام بالنفط من شرق الفرات، وتصعيد عقوبات “قيصر”، التي تمت تهدئة وتيرتها في عهد إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن. ناهيك عن قدرة أميركا على عرقلة تمرير النفط الإيراني إلى سوريا، بحراً. وهو ما سيزيد من الضغط الاقتصادي على نظام الأسد بصورة كبيرة، تفاقم من حالة العجز المالي الذي يعيشه الآن.
باختصار، ليس من مصلحة روسيا التصعيد في سوريا، لكنها نجحت في الدفع خطوة أخرى نحو إنهاء آلية المساعدات عبر الحدود. وستختبر بعد ستة أشهر، مدى استعداد الغرب لقبول إنهاء هذه الآلية تماماً. وبخلاف ما يُقال عن “ابتزاز” روسيا للمجتمع الدولي، يبدو أن إصرار الغرب، وخاصة الولايات المتحدة الأميركية، عبر إجراءات حقيقية على الأرض، تدعم استمرار تمرير المساعدات عبر الحدود دون قرار دولي، أو التلويح بإجراءات مضادة قاسية –اقتصادياً- ضد النظام، هو المعيار الذي سيحدد مصير المناكفة الدبلوماسية المقبلة بعد ستة أشهر.
المصدر: موقع تلفزيون سوريا