قدّم الناشط الحقوقي السوري عمر الشغري، قبل أيامٍ، مرافعة أمام مجلس الأمن، أثارت نقاشات كثيرة على مواقع التواصل الاجتماعي. كعادة السوريين بالتفكير الأحادي، اصطف بعض معه فتمّ تقديسه، واصطفت جماعات ضده فشيطنته، وهناك من حاول أن يأخذ دور الحكيم، فرأى أنّ الشغري أخطأ في مجلس الأمن، ولو ألقى خطبته في مكان آخر لأصاب أيما إصابة، ولكن لماذا حدث هذا؟
في كلمته التي لا تتجاوز بضع دقائق، وبّخ الشغري أعضاء المجلس، وشتمتهم أيضاً، وتلا أربع عشرة رسالة، وهي بعدد المحافظات السورية، وجميعها تقول إن الوضع لم يعد يطاق، ولا بد من حلٍّ للمشكلة السورية؛ هذا هو فحوى كلمته. لم يقبل المشيطنون ذلك، فهذا مجلس الأمن، ويجب أن تعرض فيه مشكلات سورية، وتُقرن بالقرارات الدولية المنصفة للشعب، وأن تكون لغة الكلام دبلوماسية. وهناك من قال إن الرجل طامح سياسي، وما زال صغيراً، 27 عاماً، وكان عليه أن يعتذر وتتقدّم شخصية “ثقيلة” بأفكارها، وبما يساعد على شرح قضيتنا بشكل عقلاني، لا بشكل عاطفي، وابتزازي، وعبر رسائل منقولة من أناسٍ يعانون معاناة شخصية، وكأن هذه المعاناة تقتصر على أفراد الرسائل، وليست معاناة شعب بأكمله. تتفق كل التحليلات على أن أكثر من 90% منه تحت خطر الفقر، وأكثر من 12 مليون سوري بأمسّ الحاجة إلى مساعدات دولية ليستمروا في الحياة، وإلّا المجاعة حاصلة.
رسالة الشغري، وأسلوب كلامه، هي طريقته في إيصال قضية السوريين إلى العالم. الرجل ليس ممثلاً للمعارضة، والأخيرة أجرت لقاءات كثيرة منذ 2011، وأعضاء مجلس الأمن على اطلاعٍ دقيق على أوضاع السوريين، وبالتالي، يصبح من التكرار غير المستحبّ أن تُكرّر القوانين المنصفة للسوريين، ويصبح الكلام “العاطفي”، وهو ليس كذلك، مدخلاً جيداً لإيضاح الأحوال، وتحميل ذلك المجلس، أعلى مؤسسة دولية لتمثيل دول العالم، مسؤولية الكارثة المستمرة منذ 2011.
ليست شيطنة عمر الشغري صائبة بحال، فالرجل اجتهد، والقضية السورية مُعلقة منذ 2011، فهل ستؤخر كلمته حلّ القضية، وهل ستتحرّك الدول العظمى لنجدتنا لو تلا على أسماعهم القرارات الدولية المؤيدة لنا. هذا منطقٌ غريب؛ فقط يمكن تأييد الشيطنة ردّاً على التقديس والعكس صحيح، ولكن الرجل لا هذا ولا ذاك، ويمكن أن يصيب ويمكن أن يخطئ، وجميعنا كذلك أيضاً.
لا يمثل الشغري المعارضة السورية، ويفترض بكلمته ألا تكرّر المكرّر، ولدينا لجنتان فاشلتان في المعارضة، اللجنة الدستورية ولجنة لقاء أستانة، وهناك الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية وعشرات المؤسسات الفاشلة بدورها؛ وكلمته أضاءت الوضع الإنساني، وهذه رسالة مهمة إلى العالم؛ وتضمّنت مطالبة مجلس الأمن باستمرار فتح معبر باب الهوى، حينما سينَاقش الأمر بعد بضعة أيام في المجلس، وفتح بقية المعابر، وأيضاً رفض أي شكل لتعويم النظام، وأفكار كثيرة لمحاسبة الأخير.
تضمّنت كلمته الإنسانية شحنة انفعالية عالية، ولكن ماذا يفعل شاب، يرى بلاده وقد أصبحت على الأرض وأغلبية أفراد عائلته قتلوا، ولا يرى أفقاً لبرّ الأمان قريباً؛ ربما يمكن التعبير بطريقة أخرى، وربما لو جلس شابٌّ في عمر الشغري لتكلم بطريقة مختلفة، أقول ربما، ولكن لن يتغير في الأمر شيء. لم يذهب عمر للتفاوض مع وفد للنظام، أو مع أعضاء مجلس الأمن وللوصول على اتفاقٍ سياسيٍّ ما؛ ذهب الرجل إلى هناك عبر آليات معينة، وما قاله يتحدّث به السوريون بالسر والعلن؛ فصرخاتهم شديدة هذه الأيام، ويشمل الأمر الموالين، وصرخاتهم لا تتضمن شتم النظام أو التظاهر، فهذه دونها ما فعله النظام في سورية منذ 2011، ولهذا يصمتون.
تضمّنت كلمة الشغري قطعاً كاملاً مع النظام، وهذا يتفق مع رؤية الثورة حينما وصلت إلى تغيير النظام، وكانت قبل ذلك تطالب بإصلاحه. تغيّر الواقع كثيراً، وصار من العقلانية بمكان البحث عن تسوياتٍ سياسيةٍ جديدة، ولكن هل هذا ممكن من أصله؟ هذه الفكرة يكرّرها فاعلون كثيرون في الوسطين الثقافي والسياسي، وهي تتلاقى مع فشل الثورة ومصالح المتدخلين، وتعقد الوضع السوري الذي تسيطر عليه دول إقليمية وعالمية، وتقسمه إلى أربع مناطق. مشكلة السوريين في غياب التوافق الخارجي، وهذا بالضبط ما يبرّر كلمة الشغري، ويجعل منها ضرورة إلى أن تتغيّر المعطيات العالمية والإقليمية، ويعود الحل السياسي إلى طاولة التفاوض.
لم أجد ما أشيطن به الرجل، ولا ما أنتقده عليه أيضاً. لقد أعاد تذكير العالم بمأساة كل السوريين بكل بساطة ووضوح، وتكلم عن كل المدن السورية الأربع عشرة. هل كان يعي أنّه يتجاوز بذلك مفهوم الموالاة والمعارضة ليتكلم عن السوريين، ربما نعم وربما لا. والقضية السورية التي ظهرت في كلمته يجب أن يستعيدها كل الفاعلين السوريين، أفراداً ومنظمات ومؤسسات وقوى سياسية وثقافية. هذا فارق كبير بين خطاب يخص المعارضة وآخر يخص النظام. الشغري هنا يؤكد ضرورة إنتاج خطاب جديد، يطوي خطابات النظام والمعارضة.
فشل النظام في الدفاع عن مواليه، وهم في أسوأ الأحوال، وفشلت المعارضة في الدفاع عن الثائرين، والمطرودين من جنّة النظام إمّا في المنافي أو الخيام أو في مناطق سورية تحت الفصائل وقوات سورية الديمقراطية (قسد) وهيئة تحرير الشام، وجميعهم، بمن فيهم الموالون، يعانون الأمرّين. هذا الفشل، والذي ناقشناه طويلاً في مقالاتنا عن سورية يستدعي خطاباً كالذي قاله الشغري، ويستدعي خطابات وبرامج ورؤى جديدة تسمح للسوريين بالتقارب فيما بينهم، وطي صفحة الانقسامات الكثيرة.
يحتاج عمر الشغري، وسواه من الشباب السوري الناشط، خبرات واستشارات كثيرة، ولكن بالتأكيد لا يحتاجون أبداً لدعمٍ من قيادات المعارضات الفاشلة؛ فهل يسعى هذا الشاب وآخرون من أجل حركة وطنية جديدة، تستجيب لما آلت إليه الأوضاع السورية. الأمر في غاية التعقيد، وربما لن يتحقق، فالتعقيد يعني أن هناك شروطاً موضوعية مانعة لهذه الحركة، وأية إرادات لا يمكنها تغيير هذه الشروط، وبالتالي، صرخة الشغري في مجلس الأمن، وتوبيخه دول هذا المجلس، الأساسية منها بصورة خاصة، كانت ضرورية؛ حينما تتأخر السياسة عن الفعل تتقدم الأخلاق بقوة.
المصدر: العربي الجديد