لكي تتجنب إسرائيل أخطاء الماضي ولكي تواجه أكبر التهديدات على حدودها، عليها أن تسعى إلى تكوين صورة استخباراتية دقيقة في لبنان. لكن إيران و«حزب الله» يخاطران بزعزعة استقرار الوضع الأمني من خلال تقويض التفوق الجوي لـ “الجيش الإسرائيلي”.
على الرغم من أن التوسع العسكري الإيراني في الشرق الأوسط عادةً ما تتم مناقشته من حيث سيطرة الميليشيات التابعة لإيران على الأراضي، وتوسيع ترساناتها من الصواريخ والقذائف، فإن طهران وشركائها يتنافسون بشكل متزايد [مع خصومهم] على سماء المنطقة أيضاً. وعلى وجه الخصوص، هناك اتجاهان مقلقان آخذان في الازدياد، هما: ضربات الطائرات بدون طيار ضد الدول التي تعتبرها إيران منافسة، وانتشار أنظمة الدفاع الجوي للشركاء الإيرانيين. ففي اليمن، على سبيل المثال، لم تشن قوات الحوثيين هجمات بالطائرات بدون طيار ضد أهداف داخل السعودية والإمارات فحسب، بل أطلقت أيضاً صواريخ أرض – جو على الطائرات المسيّرة التابعة للتحالف. ولإبعاد التهديد الأخير، نشرت “وكالة الإنجازات العسكرية” الإيرانية مخطط معلومات في 1 تموز/يوليو يوضح تنوع أنظمة الدفاع الجوي التي نشرها سلاح الفضاء التابع لـ «الحرس الثوري الإسلامي» الإيراني، وتم نشر المعلومات باللغات الإنجليزية والعربية والعبرية والفارسية والروسية. (انظر أدناه).
ومع ذلك، يكمن خطر التصعيد الجوي الأكثر خطورة في لبنان. ففي 29 حزيران/يونيو، أسقطت إسرائيل طائرة مسيّرة تابعة لـ «حزب الله» كانت متوجهة إلى منطقتها الاقتصادية. وفي 2 تموز/يوليو، اعترض “جيش الدفاع الإسرائيلي” ثلاث طائرات مسيرة تابعة لـ «حزب الله» تم إطلاقها من لبنان، ووفقاً لبعض التقارير كانت تلك الطائرات متوجهة في اتجاه منصة الغاز الطبيعي البحرية في “كاريش”. وفي وقت سابق من ذلك اليوم، أفادت بعض التقارير أن غارة جوية إسرائيلية قامت باستهداف أنظمة الدفاع الجوي الإيرانية المنتشرة في شمال غرب سوريا بالقرب من الحدود مع لبنان. وتشير هذه التطورات وغيرها إلى حقيقة مقلقة وهي: أن الظروف العملياتية في سماء إسرائيل قد تغيرت بشكل غير مواتٍ لـ “الجيش الإسرائيلي”، مما أعاق بعض جهوده الاستخباراتية بينما زاد من احتمالية نشوب صراع أوسع نطاقاً مع «حزب الله».
«حزب الله» يتحدى حرية إسرائيل في التصرّف
في مقابلة أجريت في 5 نيسان/أبريل، صرح قائد “سلاح الجوي الإسرائيلي” المنتهية ولايته، اللواء عميكام نوركين، إنه قد تم إضعاف حرية بلاده في التصرف في سماء لبنان. ولم تحدث هذه الانتكاسة بين عشية وضحاها. ففي وقت مبكر من عام 2009، حذر الأمين العام لـ «حزب الله» حسن نصر الله من أن الحصول على أنظمة دفاع جوي من شأنه أن يرجح كفة الميزان في أي صراع بالنظر إلى اعتماد إسرائيل الشديد على التفوق الجوي. كما أعلن أن من حق «حزب الله» امتلاك مثل هذه الأنظمة لحماية سيادة لبنان.
ورداً على مثل هذه الجهود، أفادت بعض التقارير أن إسرائيل قصفت منظومات دفاع جوي كان من المقرر نقلها إلى «حزب الله» على مدى الحرب الأهلية السورية في الجوار، بما فيها بطاريات روسية الصنع من طراز SA-8 و SA-17 وكذلك المنظومات الإيرانية المنتشرة في سوريا. وبعد أن أصابت غارة بطائرة بدون طيار أهدافاً لـ «حزب الله» في بيروت في آب/أغسطس 2019، تعهد نصر الله بضرب الطائرات الإسرائيلية المسيّرة وإسقاطها من سماء لبنان.
وازدادت التوترات في المجال الجوي بدرجة أخرى العام الماضي. ففي 3 شباط/فبراير 2021، أطلق «حزب الله» صواريخ أرض – جو على طائرة إسرائيلية بدون طيار لكنه أخفق في ضربها. وبعد ذلك بوقت قصير، أجرى “سلاح الجو الإسرائيلي” مناورات (“وردة الجليل”) والتي بدأ السيناريو الافتتاحي فيها وفقاً لبعض التقارير بإطلاق «حزب الله» صاروخاً مضاداً للطائرات أصاب طائرة مقاتلة إسرائيلية. وبمشاركة ما يصل إلى 85 في المائة من جميع أفراد “سلاح الجو الإسرائيلي”، حاكت المناورات رداَ إسرائيلياَ مكثفاً من خلال ضربها 3000 هدف في لبنان في غضون 24 ساعة، وشملت مهام التفوق الجوي ضد أهداف الدفاع الجوي لـ «حزب الله» في بيروت وجنوب لبنان. وحيث ترك “الجيش الإسرائيلي” القليل للخيال، أعلن أن ذلك هو ما يجب أن يتوقعه العدو رداً على أي هجوم يشنه ضد طائرة مقاتلة.
لكن يبدو أن ذلك لم يردع نصر الله. فخلال مقابلة أجراها في شباط/فبراير 2022، ذكر أنه في العامين اللذين سبقا ذلك التاريخ، قام «حزب الله» بتشغيل أنظمة دفاع جوي قللت بشكل كبير من نشاط إسرائيل في سماء لبنان وأعاقت استطلاعها ضد “المقاومة”. كما تفاخر بأن «حزب الله» بدأ في تصنيع طائرات بدون طيار خاصة به. ووفقاً لنصر الله، أسفر ذلك التقييد المفترض على العمليات الإسرائيلية عن نتيجتين رئيسيتين: لم يعد بإمكان “الجيش الإسرائيلي” القيام بأي خطوة لوقف إنتاج «حزب الله» للصواريخ الدقيقة، وأنّه يتوجّب على إسرائيل الآن القيام بتسخير عوامل بشرية داخل لبنان للتعويض عن فقدان استطلاع الطائرات المسيّرة. وفي حين اعتادت إسرائيل تحليق طائراتها المسيّرة فوق “وادي البقاع” وجنوب لبنان بشكل يومي، كما ادّعى، إلّا أنه لم تحلّق أي طائرة بدون طيار فوق “سهل البقاع” منذ أشهر، بينما شهد الجنوب انخفاضاً في العمليات وتغيراً في مسارات الطيران.
وفي مقابلته في نيسان/أبريل، أقرّ الجنرال نوركين بأن بعض عناصر جمع المعلومات الاستخبارية قد تأثرت بالفعل. كما أشار إلى أن إسرائيل عززت عناصر أخرى باستخدام طرق بديلة، مضيفاً أن “هذا جزء من خطة عملنا لعام 2022”. يبقى أن نرى ما إذا كان يَقصد تطوير بدائل استخباراتية أو استعادة التفوق الجوي.
ما الذي تعنيه الأرقام؟
على الرغم من عدم قيام «حزب الله» أو إسرائيل بتقديم بيانات توثق هذه الاتجاهات، إلّا أن تقارير “الأمم المتحدة” تلقي مزيداً من الضوء على هذه المسألة. فمنذ نهاية حرب 2006، قدم الأمين العام للأمم المتحدة تقارير خاصة عن لبنان إلى مجلس الأمن الدولي خلال آذار/مارس وتموز/يوليو وتشرين الثاني/نوفمبر من كل عام على وجه التقريب. وفي البداية، وصفت تلك الوثائق العمليات الجوية الإسرائيلية بعبارات عامة فقط. ومع ذلك، فمنذ تقرير تشرين الثاني/نوفمبر 2017، تضمنت الوثائق وصفاً كمياً لانتهاكات المجال الجوي وساعات الطيران. وفي الواقع توضح التقارير مجتمعة انخفاضاً كبيراً في النشاط الجوي الإسرائيلي فوق لبنان.
وعادةً ما توفر أشهر الصيف أفضل ظروف الرؤية لمثل هذا الاستطلاع الجوي، لذلك يميل النشاط الجوي إلى الذروة خلال هذا الموسم (انظر الجدول). وكان صيف عام 2020 نشطاً بشكل خاص – مع وضع الحدود في حالة تأهب قصوى بعد تهديد «حزب الله» بالانتقام لعضو قُتل في غارة لـ “الجيش الإسرائيلي” في سوريا في تموز/يوليو، وانتهى الأمر بإجمالي ساعات طيران إسرائيلية قدرها 7750 ساعة خلال الصيف فوق لبنان، وهو ما يقرب من ثلاثة أضعاف المتوسط الموسمي للسنوات الثلاث التي سبقت ذلك العام.
ومع ذلك، بدأت هذه الأرقام في الانخفاض في عام 2021، بما مجموعه 413 ساعة طيران في ذلك الربيع – 32٪ فقط من المتوسط الموسمي للفترة 2017-2020 (1273 ساعة). وحدث انخفاض أكثر إثارة في ساعات الطيران في ذلك الصيف، بحث وصل إلى 378 ساعة طيران – 13٪ فقط من المتوسط الموسمي في الفترة 2017-2019 (2846) و 5٪ فقط من المستوى العالي لصيف عام 2020 المذكور أعلاه. وخلاصة القول، تشير تقارير “الأمم المتحدة” إلى أن إسرائيل قلّصت نشاطها الجوي فوق لبنان بنسبة 70-90٪ في عام 2021 مقارنة بالسنوات التي سبقت ذلك، مع أكبر خفض تم الإبلاغ عنه في الموسم الأكثر ازدحاماً للاستطلاع الجوي.
وبالطبع فإن “الأمم المتحدة” لها ما يبررها في توثيقها الدقيق لتحليقات الطائرات الإسرائيلية، لأن هذه العمليات تنتهك سيادة لبنان. (على الرغم من الواقع بأنه يتم القيام بهذه الرحلات الجوية لاستكشاف العمليات العسكرية لـ «حزب الله»، والتي لا تنتهك السيادة اللبنانية فحسب، بل العديد من قرارات مجلس الأمن الدولي أيضاً. إلّا أن هذا الموضوع يستحق تحليلاته الخاصة). لكن للأسف، لم تكن “الأمم المتحدة” متسقة في كيفية وصفها للاتجاهات التي توثقها – على سبيل المثال، شددت على “الزيادة الكبيرة” في الانتهاكات الإسرائيلية بين حزيران/يونيو وتشرين الأول/أكتوبر 2020، لكنها أخفقت في التعليق على الإطلاق على الانخفاض الحاد في عام 2021.
والأهم من ذلك، أضاف الوضع المتغير للمجال الجوي فتيلاً آخر إلى برميل البارود الاستراتيجي على طول حدود إسرائيل مع لبنان وسوريا. ففي عام 2018، قصفت إسرائيل دورية تابعة لـ «حزب الله» في الجزء الذي تسيطر عليه سوريا من مرتفعات الجولان، وانتقم الحزب على ذلك من [أراضي] لبنان، مما أسفر عن مقتل جنديين إسرائيليين. وفي عام 2019، شن “الجيش الإسرائيلي” هجوماً على فريق نشره «فيلق القدس» التابع لـ «الحرس الثوري» الإيراني أثناء محاولته إطلاق طائرات مسيرة من سوريا، وتبين أن بعض عناصره من اللبنانيين. ومع استمرار إيران ووكيلها في زيادة تهديداتهما ضد إسرائيل، فإن سقوط قتلى إضافيين من «حزب الله» في سوريا ليس سوى مسألة وقت. ومن جانبه، تعهد «حزب الله» بمواصلة الرد على هذه الخسائر في الأرواح من لبنان، كما رأينا عندما حاول شن عدة هجمات وتبادَلَ إطلاق النار مع القوات الإسرائيلية عبر “الخط الأزرق” الذي رسمته “الأمم المتحدة” في صيف عام 2020.
وظهرت مشكلة أخرى في آب/أغسطس 2021، عندما أطلقت الجماعات الفلسطينية المسلحة داخل لبنان صواريخ على إسرائيل. ووفقاً للتقديرات الإسرائيلية، لن يكون قد تم القيام بتلك العمليات دون موافقة «حزب الله»، إن لم يكن بتوجيهه، وأكد المتحدث باسم “الجيش الإسرائيلي” أن لبنان مسؤولة عن أي هجمات تنطلق من أراضيها. وردّت إسرائيل على القصف بشنها غارة جوية نادرة في لبنان (الأولى منذ عام 2014) وإطلاقها أكثر من مائة قذيفة مدفعية. ثم رد «حزب الله» بإطلاق عشرين صاروخاً على إسرائيل. وأطلقت فصائل فلسطينية صاروخاً آخر من لبنان في نيسان/أبريل الماضي.
بالإضافة إلى ذلك، غالباً ما شوهدت الطائرات بدون طيار التابعة لـ «حزب الله» وهي تحلق على طول حدود لبنان مع إسرائيل هذا العام – وتم إسقاط إحدى هذه الطائرات في منتصف شباط/فبراير، بينما أدى تحليق طائرة مُسيّرة أخرى إلى إطلاق صفارات الإنذار وعمليات إطلاق فاشلة من قبل نظام “القبة الحديدية” الدفاعي الإسرائيلي. باختصار، تحصل في الواقع بعض الحوادث على الحدود التي وصفها العديد من المسؤولين بأنها “هادئة”، وبينما كان الوضع حتى الآن يُدار بطريقة تكفي لتجنب التصعيد، يمكن أن تؤدي الظروف المتغيرة في المجال الجوي إلى زعزعة هذا التوازن الهش.
ومن هذا المنظور، فإن التهديدات التي يتعرض لها التفوق الجوي الإسرائيلي تنطوي على إمكانية كبيرة لزعزعة الاستقرار. فبين انسحاب إسرائيل من لبنان في عام 2000 والحرب ضد «حزب الله» في عام 2006، بذلت إسرائيل القليل من الجهد في أعقاب تعزيز «حزب الله» لقدراته العسكرية، مستيقظة بمرارة على عواقب هذا الفشل في المعركة. ومنذ تلك الحرب، أقرّت إسرائيل بأن «حزب الله» يُشكل التهديد العسكري الأكبر على حدودها وبذلت جهوداً استثنائية للبقاء على اطلاع جيد بقدرات الحزب، كما تُظهر تحليقات “سلاح الجو الإسرائيلي”. وخلال مناورات “عربات النار” التي استمرت شهر والتي أجريت في أيار/مايو، نفذ “الجيش الإسرائيلي” ضربة دقيقة ومناورة واسعة ضد هذه القدرات، مؤكداً أن رده على تصعيد «حزب الله» سيكون شنه حملة جوية وبرية واسعة النطاق تستند إلى معلومات استخبارية.
وللحفاظ على هذه القدرة جاهزة للاستخدام، تحتاج إسرائيل إلى مواصلة جهودها لجمع المعلومات وتحديث صورتها الاستخباراتية بشكل جيد في المستقبل. وأحد هذه الخيارات هو تطوير مجموعة بدائل عن الاستطلاع الجوي، ولكن من المحتمل أن إسرائيل لا تزال تواجه معضلة وهي: إما قبول التدهور التدريجي لصورتها الاستخباراتية مع مرور الوقت، أو تعريض مهام الاستطلاع الجوي الخاصة بها للدفاعات الجوية لـ «حزب الله». وفي سوريا، أظهرت إسرائيل استعدادها لتدمير أنظمة الدفاع التي تهدد طائراتها، لكن في لبنان تصرفت بشكل مختلف حتى الآن. ولطالما كان “الجيش الإسرائيلي” و«حزب الله» يشهدان تجاذباً بين الردع والتصعيد، وتمكنا بحكمة من تجنب خيار التصعيد. لكن مع قيام «حزب الله» برفع المعايير لمواجهة أداة حيوية للأمن القومي الإسرائيلي، فقد زادت المخاطر بشكل أكبر.
العميد (احتياط) أساف أوريون هو “زميل ريؤفين الدولي” في المعهد والرئيس السابق لـ “القسم الاستراتيجي في مديرية التخطيط” التابعة لـ “هيئة الأركان العامة لجيش الدفاع الإسرائيلي”.
المصدر: معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى