قاد الغزو الروسي لأوكرانيا وردّ الفعل الغربي القوي عليه إلى إطلاق حراك سياسي وعسكري إقليمي ودولي، عكسته المواقف المعلنة والاجتماعات المتتابعة: اجتماع قمة مجموعة البريكس، وتضم روسيا والصين والهند وجنوب أفريقيا والبرازيل، الافتراضي يوم 23 الشهر الماضي (يونيو/ حزيران)، دعمت روسيا فيه انضمام إيران والأرجنتين إلى المجموعة، اجتماع قمة مجموعة دول بحر قزوين، وتضم روسيا وإيران وأذربيجان وكازاخستان وتركمانستان، القمة السادسة للمجموعة، في عشق آباد (عاصمة) تركمانستان، يوم 29 الشهر نفسه، قمة مجموعة السبع في “شلوس إلماو” وهذه قلعة وسط جبال الألب في مقاطعة بافاريا الألمانية، من 26 إلى 28 الشهر نفسه، قمة حلف شمال الأطلسي (الناتو) في مدريد، عاصمة إسبانيا، يومي 29 و30 الشهر نفسه، والترتيب لعقد قمّة أميركية عربية في جدة يومي 15 و16 يوليو/ تموز الجاري لدراسة العلاقات الثنائية والجماعية ورأب الصدع بين دول خليجية عربية والولايات المتحدة، والاتفاقات السياسية والأمنية متعدّدة الأطراف التي جرى الإعلان عنها في هذه القمم.
وكان لافتاً تحرّك دول التحالف الغربي في قمة “الناتو” وبيانه شديد اللهجة ضد روسيا، اعتبرها تهديداً مباشراً، والتي قرّر فتح جبهات عديدة ضدها في أوروبا وآسيا الوسطى وساحل أفريقيا الغربي، حيث تدير روسيا حرباً بالوكالة عبر أداتها غير النظامية: منظمة فاغنر، وفي سورية، عبر تعزيز قدرات القوات الأميركية هناك، من دون أن يهمل التعليق على سياسات الصين، حيث اعتبرها تحدّيا له وتهديدا للنظام الدولي ذي القواعد، وقد تزامن هذا مع العمل على احتواء التحرّك الإيراني، على خلفية تحالف إيران مع روسيا والصين، بالعمل على تشكيل تحالف شرق أوسطي، ناتو شرق أوسطي، يضم دولاً عربية وإسرائيل، لمواجهة إيران وسياستها العدوانية ضد الدول العربية. وقد انبرت أقلام عربية لترويج المشروع وتسويقه، بالادّعاء أنّه موجّه ضد إيران والإسلام السياسي، وأنّه سيلزم الولايات المتحدة بالردّ على اعتداءات إيران، والبدء بمرحلة ربط وسائط الدفاع في دول الخليج العربية ومصر والعراق والأردن وإسرائيل. وقد سهّل العملية عقد اتفاقات إبراهيم التطبيعية بين الكيان ودول عربية، الإمارات والبحرين والسودان والمغرب، ووجود تعاون وتنسيق أمني عالٍ بين الكيان والسعودية، وضم إسرائيل إلى القيادة المركزية الوسطى في الجيش الأميركي، إذ بات متاحاً لها الانخراط والتنسيق مع جيوش وأجهزة أمن عربية عبر الاشتراك في مناورات برّية وبحرية وتنسيق أمني وتبادل معلومات شامل.
وقد عكس اجتماع وزراء خارجية دول عربية، مصر والإمارات والبحرين والمغرب، والكيان الصهيوني، ووزير خارجية الولايات المتحدة، أنتوني بلينكن، في مستوطنة سديه بوكير في صحراء النقب في مارس/ آذار الماضي، حقيقة التوازن بين هذه الدول جسّده لعب وزير خارجية الكيان، يئير لبيد، دور المايسترو، وتسلّم كيانه رئاسة المجموعة، سمّيت مجموعة النقب، بعد تحويل الاجتماع إلى هيئة دائمة لها قيادة تتبعها لجان لمتابعة التنسيق وتوحيد الرؤى والمواقف، هيكلها من أربعة أقسام: الوزاري لوزراء الخارجية، والرئاسة، واللجنة التوجيهية، ومجموعات العمل: “الطاقة النظيفة”، و”التربية والتعايش”، و”الأمن الغذائي والمائي”، و”الصحة”، و”الأمن الإقليمي”، و”السياحة”. عقدت اللجنة التوجيهية اجتماعاً لها يوم 27/6/2022 في المنامة، وأصدرت بياناً عن مناقشة موضوع تعيين رؤساء لكلّ من مجموعات العمل الست التي أطلقها الوزراء في النقب، وأن تجتمع مجموعات العمل بانتظام على مدار العام لدفع المبادرات التي تشجّع التكامل الإقليمي والتعاون والتنمية، وتقديم تقرير إلى اللجنة التوجيهية حول إنجاز المهمات والتقدّم المحرَز. وقال البيان: “من المتوقع أن يكون الاجتماع الوزاري لوزراء الخارجية، سنويًا، وأن تستمرّ إسرائيل في العمل كرئيس لمنتدى النقب حتى الاجتماع الوزاري المقبل”. كما رتبت الولايات المتحدة، وفق صحيفة وول ستريت جورنال، يوم 26/6/2022، لعقد لقاء سري لرؤساء أركان دول عربية وإسرائيل للبحث في طرق التنسيق ضد القدرات الإيرانية في مجال الصواريخ والطائرات المسيّرة، عقد في شرم الشيخ المصرية.
أثار الحديث عن تشكيل “ناتو شرق أوسطي” أسئلة مصيرية بالنسبة للأمن القومي العربي، في ضوء ما يمكن أن يترتّب على انخراط دول عربية في تحالف مع الكيان الصهيوني، وما مثله ويمثله من خطر مباشر على أمنها ومصالح شعوبها على خلفية هشاشتها الدفاعية والأمنية، من جهة، وقدرات الكيان الكبيرة في مجالات الدفاع والأمن السيبراني، من جهة ثانية، وما يحظى به من رعايةٍ غربيةٍ، أميركيةٍ بشكل خاص، ما يفرضه قائداً مباشراً للتحالف المزعوم، من جهة ثالثة. فمنطلق التفكير الأميركي حول الفكرة هو دمج إسرائيل في الإقليم وتحويل المحيط الجيوسياسي لكيانها إلى درع واقية له، إذ ستشكل وسائط الدفاع الجوية في الدول العربية، في حال ربطها بوسائط دفاعه، خط دفاع أول وجهاز إنذار مبكّر يتيح لقواته التعامل مع الضربات الإيرانية المحتملة قبل مئات الكيلومترات من وصولها إلى كيانه، وتسمح له بتوفير أموال طائلة في مجالات الرصد والمراقبة، بالإضافة إلى تسويق صناعاته الدفاعية في هذه الدول. وقد سعى إلى تحقيق هدفه في إقناع الدول العربية المعنية بـ “وحدة” المصير في مواجهة الخطر الإيراني وبقدراته الساحقة في مجال الاستخبارات والتقنية الإلكترونية عبر ملاحقة التمدّد الإيراني في سورية والعراق ولبنان، في إطار خطته السابقة: المعركة بين الحروب، وتنفيذ عمليات تخريب واغتيال على الأرض الإيرانية، في إطار خطّته الجديدة: الأخطبوط، التي لا تستهدف الإضرار بالمصالح الإيرانية بل تقويض النظام الإيراني بالكامل.
لا تقف مخاطر انخراط دول عربية في ناتو شرق أوسطي عند تسليم قيادتها للكيان الصهيوني، بل تتعدّاه إلى هرولة دول عربية بعينها لتعزيز علاقاتها وتعاونها مع الكيان في كل المجالات الحيوية والتسليم بنظرته إلى الملفات والقضايا السياسية والعسكرية والأمنية كجزء من سعيها إلى لعب دور بارز في سياسات الإقليم وتوازناته السياسية والجيوسياسية، وتسجيل نقاط لصالحها في سباق الهيمنة والسيطرة الدائر سرّاً وعلناً بين الدول العربية ذاتها، فقد سبق وطرحت أفكاراً لتحالف عربي، بتشكيل ناتو عربي، الذي دفع الرئيس الأميركي السابق، باراك أوباما، إلى تشكيله، بدعوة قادة دول مجلس التعاون الخليجي، في اجتماعه معهم في منتجع كامب ديفيد عام 2015، للعمل على إيجاد جبهة واحدة متّحدة لمواجهة التحدّيات المشتركة، سواء كانت إيران أو التنظيمات الإرهابية. وقد جدد الرئيس الأميركي السابق، دونالد ترامب، عام 2017، الدعوة إلى إقامة تحالف الشرق الأوسط الاستراتيجي “ميسا” أو “الناتو العربي”، كما اصطلح على تسميته إعلاميا، ويضم دول الخليج الست بالإضافة إلى مصر والأردن. لكن الدعوتين ذهبتا أدراج الريح على خلفية الخلاف المصري السعودي على تركيبة القوة العربية ومركز قيادتها ودور كل دولة عربية فيها. كانت فكرة مصر أن تكون مقر القوة وأن يكون الجيش المصري نواتها وقيادتها، في حين يأتي التمويل من دول الخليج، وهو ما لم تقبله المملكة التي لا ترى نفسها مجرّد صراف للتمويل، بل قائدا وموجّها. والدول العربية تخضع في مواقفها وتقديراتها لاعتبارات التنافس العربي العربي أولا والانعكاس الذي سيترتب على التشكيلات السياسية والعسكرية على مواقعها وأدوارها ثانيا. وهذا أبقى معاهدة الدفاع العربي المشترك حبرا على ورق، لذا هي غير متفقة على معايير التحرّكين، السياسي والعسكري، وعلى الأولويات بما في ذلك تحديد العدو، فدول الخليج العربية تبحث عمّن يردع إيران ويقوّض قدراتها السياسية والعسكرية، من دون أن تكون طرفاً مباشراً في المعركة، ومن دون أن تكون أرضها هدفاً للصواريخ والمسيّرات الإيرانية، تريد الحسنين، الأمن والازدهار، من دون دفع كلفة بشرية وسياسية.
لا تريد مصر تحمّل أكلاف التصدّي لها لصالح دول لا تقيم لها وزناً أو تكنّ لها احتراما لذا تعلن أنها لا ترى في إيران عدواً. كانت أول المنسحبين من مشروع تحالف الشرق الأوسط الاستراتيجي “ميسا”. مع ملاحظة أنّ الانخراط في تحالف دفاعي مع الكيان الصهيوني يستفزّ المشاعر العربية، في ضوء ممارسات الكيان ضد الفلسطينيين والمقدّسات الإسلامية في القدس الشريف، ما يستدعي تمريره تحريك الملف الفلسطيني وتحقيق تقدّم على طريق استعادة بعض الحقوق الفلسطينية لتغطية موقف الدول العربية المهرولة نحو إسرائيل، وهو ما لا ترغب الإدارة الأميركية في القيام به خشية الفشل، ومراعاة لظروف الكيان في ضوء المأزق السياسي وانعكاس خطوة من هذا القبيل على الانتخابات البرلمانية المزمع إجراؤها في شهر نوفمبر/ تشرين الثاني المقبل ونتائجها والتشكيلة التي ستدير الحكومة المقبلة، واحتمال عودة نتنياهو رئيسا للوزراء، وما يعنيه ذلك بالنسبة للأردن والإدارة الأميركية الديمقراطية، فالخلافات بين الأنظمة العربية بشأن أدوارها في التحالف العتيد وأهدافه وقيادته ستحول دون ترجمة فكرة تشكيل “ناتو شرق أوسطي” على أرض الواقع.
سيكون انخراط دول عربية في تحالف عسكري مع الكيان الصهيوني انقياداً إلى الجحيم بسلاسل من ذهب، وسيراً نحو الكارثة بعيون مفتوحة.
المصدر: العربي الجديد