يشكل الإسلام أحد أعمدة البناء الوجودي للأمة العربية؛ فهي تكونت تاريخيا في ظل الإسلام وبرعايته. ومنذئذ والحرب مستمرة عليهما معا: الأمة وهويتها الحضارية أي العروبة؛ والإسلام..
حرب من جهات متعددة وأطراف كثيرة.. حرب شاملة متكاملة الأبعاد وفي كل الميادين. تتراوح حسب الظروف بين الحرب العسكرية المباشرة والاحتلال المباشر او بالواسطة. نهب الموارد بأياد أجنبية أو محلية …حرب سياسية واقتصادية لم تتوقف. غزو ثقافي واضح حينا وخفي أحيانا بل غالبا.. الغزو الثقافي مستمر متصاعد منذ إطلاق بعثات الاستشراق والمستشرقين وبعثات تبشيرية ظاهرها ديني وباطنها استعماري.. غزو ثقافي شمل تزييف الوعي بالتاريخ وبالذات القومية؛ وتشويه الرموز والمثل العليا وأبطال التاريخ.. غزو ثقافي شمل أنظمة تبعية للتعليم في كل مراحله.. غزو ثقافي في غالبه يتم بأيد محلية مضللة باسم التغيير والحداثة أو مرتهنة بحكم المصلحة أو التبعية..
أما تلك الحرب فلم تكن كلها أجنبية الأدوات والتحريض؛ بل تعدت ذلك لتكون أيد محلية شريكة فيها لاعتبارات كثيرة أهمها ترابط مصلحي أضحى وجوديا بين قوى محلية والنفوذ الأجنبي بحيث بات مصيرهما واحدا مترابطا.. ومع انتقال المركزية الاستعمارية إلى النظام الأمريكي – الصهيوني بعد الحرب العالمية الثانية؛ فقد اكتسبت تلك الحرب على الأمة العربية أبعادا تقنية جديدة مستفيدة من العلوم الاجتماعية والإنسانية والدعائية التي تطورت كثيرا في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية..
تطورت العلوم الإنسانية – الاجتماعية التحليلية فانطلقت معها حرب تفكيكية استعمارية مستهدفة تفكيك مقومات الأمة ثم تفكيك بناء الإنسان ذاته وصولا إلى التمكن التام من السيطرة عليهما وإدارة مسالكهما وفق المصالح الاستعمارية..
كانت جيوش من المنظمات وهيئات المساعدة والإغاثة والصحة منتشرة في طول البلاد وعرضها تستهدف جمع أكبر عينات معلوماتية تحليلية عن بنية المجتمع ومقوماته ومدى تماسكه وما يعتريه من مشكلات نفسية واجتماعية وما يحتويه من تناقضات ونقاط ضعف؛ كذلك عن الإنسان ذاته وكيفية تفكيره وسلوكه وعوامل مناعته وضعفه معا. كان يتم تجميع تلك المعلومات تحت غطاء المساعدة والغوث والإعانات والبعثات التدريبية وسوى ذلك كثير..
ثم ترسل الى المركز ليتم جمعها وتحليلها وإيجاد المناسب من خطط السيطرة والغزو الثقافي وتوجيه العقول والاهتمام.. ثم كانت طفرة الإعلام ووسائل الاتصال الحديثة المتطورة منذ بدايات سبعينات القرن العشرين فاتخذت حرب التوجيه والاستقطاب تقنيات جديدة أكثر فعالية وخطورة. وانطلقت حرب تفكيكية للمقومات العامة والخاصة؛ للمجتمع والإنسان معا؛ في أبشع صورها وأقذر أساليبها..
لم يعد الغزو الثقافي أو استقطاب العقول يحتاج إلى البعثات الميدانية المتسللة تحت عناوين المساعدة والتدريب؛ فصار يأتي – غالبا – عن طريق وسائل الإعلام والتسويق والدعاية والفن والأفلام والمسلسلات وكل ما هو إنتاج ” ثقافي ” معرفي استهلاكي توجيهي..
ومع انطلاق العولمة الرأسمالية بزخم وقوة منذ ثمانينات القرن العشرين؛ اضحى تأثير الغزو أكثر وضوحا وأشد خطرا وبدأت حرب تفكيك المجتمع والإنسان تؤتي ثمارا واضحة ونتائج سلوكية بينة..
اعتمدت حرب التفكيك على الاستفراد بالإنسان كيانا ذاتيا فرديا مستقلا منفصلا عن أية ارتباطات اجتماعية. لتصبح عملية السيطرة على عقله وتفكيره وسلوكه ممكنة ميسرة..
وحتى يتم ذلك ينبغي تفكيك كل رابطة تشد الإنسان الفرد إلى كيانات أخرى أبعد من ذاتيته الفردانية.. فتوجت سهام الحرب إلى كيانين متكاملين:
– الأسرة والمجتمع.
وأصبح تفكيك الأسرة هدفا. وتفكيك مقومات المجتمع التي تصنع مناعته؛ هدفا أيضا..
واستخدم الفن ببراعة وإتقان لتحقيق هذين الهدفين..
وهكذا انطلقت أعمال ثقافية فنية متنوعة جدا تلاحق الإنسان العربي في كل ظروفه وبيئاته ومناسباته بل وحياته اليومية التفصيلية.. لتخدم تلك الأهداف المرسومة: تفكيك المجتمع والأسرة ثم تفكيك الإنسان الفرد ذاته…توحدت تلك الأعمال الفنية – الثقافية لترسيخ المفاهيم التالية:
١ – نشر وتعميم ثقافة الجنس والعلاقات الجنسية المباحة كمسألة طبيعية عادية تشكل حقا لكل إنسان يدخل في صلب حريته الفردية المتجانسة مع الحياة العصرية الحديثة.. وراحت تصور كل علاقات منحرفة وخيانة أخلاقية وكأنها طبيعية عادية.. بمعنى أنها تسعى لتطبيع العقول والنفوس مع مفاهيم الإباحية والانحلال الأخلاقي والخيانة الزوجية وحرية العلاقات الجنسية بدون زواج؛ وكل ما يدخل في سياق الفساد الأخلاقي والتفكك الأسري والاجتماعي. ليصبح طبيعيا مقبولا لا يثير أية مشكلة.. أكثر من هذا برزت أعمال ثقافية تبرر الشذوذ على أنه ظاهرة حداثية تدخل في صلب الحرية الشخصية..
٢ – نشر وتعميم ثقافة المنفعة المادية كمعيار للعلاقات بين الناس مما يستدعي استبعاد تأثير القيم الإنسانية والأخلاقية كضوابط للعلاقات بين البشر..
٣ – تشجيع العقلية الاستهلاكية المتفلتة من الارتباطات الأخلاقية حيث يصبح الهدف هو الكسب المادي دون الاعتبارات الأخلاقية. بأية وسيلة ممكنة. فلا حلال ولا حرام..
امام هذه الأهداف كان لا بد من إزاحة كل ما يعيق تحقيقها وتحويلها إلى سلوك عام طبيعي مقبول لا غبار عليه ولا اعتراض..ولما كان المجتمع العربي مجتمعا متدينا ؛ وكان الإنسان العربي مؤمنا ؛ ولما كان الإسلام ركنا في تكوين شخصية المجتمع والإنسان معا – الإسلام القيم والحضارة والدين – ؛ والمصدر الأساسي لتلك القيم الأخلاقية المناقضة للمفاهيم الجديدة المطلوب نشرها وتعميمها ؛ بناء على هذا كله ؛ اصبح الإسلام بذاته هدفا لحرب التفكيك الاستعمارية تمهيدا للهيمنة والسيطرة واستلاب العقول والنفوس..وقد تنوعت الحرب على الإسلام وعلى القيم الأخلاقية ( من أي مصدر كانت وهي مماثلة للقيم المسيحية العربية النصرانية ) واتخذت أشكالا متعددة جدا. وكما في كل حرب ثقافية تحريفية؛ كان أحد أوجه تلك الحرب التفكيكية يستعرض على وجه غير مباشر؛ نماذج من الناس والتفكير والتدين تحرض على اختيار القيم النقيضة المعادية. وكان يتم هذا من خلال أسماء دينية أو أحزاب دينية تتخذ من المواقف وتعبر عن آراء ومفاهيم كثيرة الانغلاق والتزمت بما يغري كثيرين بالتفلت.
أما الوجه الآخر لتلك الحرب؛ الوجه الأكثر انتشارا والأوسع فعالية؛ فكان ولا يزال متجسدا في ذلك الكم الهائل من الأعمال الفنية الحديثة الاحترافية المتقنة والتي تشمل كل مجالات الفن. وأولها وأخطرها المسلسلات الاجتماعية والرومانسية وبرامج الواقعية والأفلام ثم الغناء وكل أشكال الفن الهابط؛ ركيك المستوى؛ هزيل المضمون عديم الذوق، فضلا عن تطبيعه لكل ما هو ساقط أخلاقيا ومرفوض اجتماعيا.. مسلسلات وأعمال مختارة ومعدة بعناية شديدة لتؤدي هذا الدور التطبيعي الخبيث. بداية كانت المسلسلات المكسيكية التي تمتد لعشرات الحلقات المحبوكة بعناية على مدار سنوات عديدة ثم تلتها موجة المسلسلات التركية ولا تزال. إلى أن ظهرت مسلسلات محلية تصب في الأهداف التفكيكية ذاتها.. فكان الإقبال عليها ولا يزال لخلو الجو العام من القضايا الجوهرية التي تشغل تفكير الناس وتشد اهتمامهم.. إلى جانب الخوف الناجم من القهر وقمع التسلط المحلي وهكذا في دوامة مترابطة الحلقات تحاصر الإنسان وتلاحقه أينما كان…
ومثلما وقفت الصهيونية وراء تشجيع صناعة الجنس وتجارته في الغرب ولا سيما في الولايات المتحدة للتمكن من استلاب عقول الشباب والسيطرة على توجهاتهم واهتماماتهم؛ فلا شيء يمنع أن تكون هي أيضا وراء مثل تلك الأعمال الفنية التي تؤدي الأدوار ذاتها. كلها أو بعضها.. مترافقة مع حرب النظام الرأسمالي العالمي الأمريكي – الصهيوني على الوجود العربي من أساسه. وهي التي برعت في استخدام أسلوب الابتزاز الجنسي عبر عمليات قذرة حقيرة معدة ومدروسة للإيقاع بنخب أو فعاليات ثم استخدامها في السياسة والأمن والمواقف ….
إن كثيرا من الإعلام العالمي الفاعل صهيوني السياسة والتوجه. وإن كان بعضه عربيا يتحدث لغة العرب.. ومعظم شركات الإنتاج الفني العالمية الكبيرة مملوكة لأدوات صهيونية …
وهكذا تستمر حرب على الإسلام وقيمه الأخلاقية كأحد أهم مقومات الشخصية الاجتماعية والإنسانية العربية. بما تشكله من أهم جوانب المناعة المطلوب تفكيكها وإبعادها حتى تسهل عملية السيطرة والتحكم والاستلاب العقلي والنفسي..
حرب على الإسلام لم تتوقف منذ عهود بعيدة جدا وإن كان يتم تحديثها كلما جد جديد من العلم والتقنيات والمعارف..حرب أحد أطرافها محليون من أبناء المجتمع ذاته ؛ جهلاً أو غباء او تبعية وارتهانا..وقد خلق ظهور الميليشيات التي ترفع شعارات دينية إسلامية متطرفة في العقود الأخيرة ؛ مناخا مؤاتيا لحملات انتقادية شديدة تتوخى الإصلاح لكنها وقعت في فخ الخلط بين الإسلام الدين والقيم الأخلاقية ؛ وبين تلك الميليشيات المشبوهة التي تجمع المعلومات والوقائع أنها أسست خصيصا للمساهمة في تدعيم تلك الحرب على الإسلام من ذات القوى العالمية التي تخطط الحرب وتديرها…والخلط أحيانا أخرى بين الإسلام الدين والقيم الأخلاقية وبين أحزاب سياسية ترفع شعارات الإسلام وتنسب نفسها له لتغطية مصالحها السياسية والحزبية والفئوية بالإسلام وهو عمل دنيوي غير مقبول بل مسيء للإسلام ذاته..
كان ذلك مدعاة لإطلاق حملات انتقادية تركز على الشؤون الدينية متهمة الظاهرة الدينية بكل أشكال السوء محملة إياها مسؤولية التدهور والتخلف والانحطاط..
حتى أن بعض تلك الأقلام الناقدة راحت تغوص في التراث منقبة عما يمكن ان يضمه من نقاط ضعف أو أحداث أو أفكار لا تناسب العالم المعاصر؛ ثم أشبعتها نقدا وتحليلا وتهجما عشوائيا في بعض الأحيان..
إن مثل هذا النقد لسلبيات التراث الماضي أو وقائع الحاضر في الظاهرة الدينية؛ مهم ومطلوب شرط أن يراعي مواصفات محددة حتى لا يكون جزءا من تلك الحرب على الإسلام المترافقة مع حرب اقتلاع وتدمير للوجود العربي برمته.. عن وعي او بدونه..
١ – التمييز بين السياسة والدين في كل ما يتعلق بالظاهرة الدينية قديمها وحديثها..
٢ – رؤية الواقع من جوانبه المختلفة. والنظر إليه نظرة موضوعية ترى الأمور من كل جوانبها وتنظر للأخطار من كل مصادرها..
٣ – التمييز بين مرحلتين في سياق المسألة الدينية ومضمونها. ما بين بدايات سبعينات القرن العشرين إلى اليوم؛ والمرحلة الممتدة منذ ذلك التاريخ وما قبله. حيث يعرف الكل ما طرأ على الطروحات الدينية من تدخلات وإضافات سياسية خبيثة مشبوهة مسيئة عمدا..
إن وحدانية الحديث عن سلبيات في الطرح الديني الراهن على أنه الخطر الوحيد المهدد؛ إنما هي نظرة عوراء متجنية ظالمة أو قاصرة مجتزأة..
إن إغفال الأخطار الوجودية على المصير العربي المتأتية من الهجوم الساحق للمشروع الأمريكي – الصهيوني على أمتنا حاليا لا يدل على رؤية موضوعية سليمة مهما تكن المبررات.. كما أن إغفال ذلك الجانب من ذاك الهجوم المتعلق بحرب شرسة على الإسلام وقيمه الأخلاقية المناعية؛ لا يعبر عن رؤية نقدية متوازنة ترى الصورة كاملة وتضع المخاطر في نصابها الصحيح.. وفي ذات المستوى يقع إغفال ذلك العدوان الداخلي الذي يمثله تسلط إقليمية سايكس – بيكو الدائم على العقل العربي والإرادة العربية..
إن انتقاد سلبيات المسألة الدينية وتشريحها وتصحيحها أمر ضروري ولازم ومهم في سياق إحياء حركة التجديد والنهوض العربية؛ لكنه ينبغي أن يكون جزءا من رؤية شاملة ترى الصورة كاملة وتشخص الأخطار كلها معها وترسم على ضوء ذلك برنامج عمل موضوعي يناسب الواقع الشعبي الراهن وما يعتريه ويواجهه من تحديات لا محدودة في ظل إمكانيات للمواجهة ضعيفة بل هزيلة..
إن كثيرا من التصحيح والتصويب في الجهاز الديني والمؤسسة الدينية والطرح الديني الراهن؛ قد أصبح ضروريا وملحا. ولعله لن يتم قبل تصحيح الخلل في النظام السياسي المتحكم حتى بالجهاز الديني ذاته.. إن غياب مرجعية عربية ذات أفق نهضوي أو رؤية تحديثية بناءة؛ تزيد الأمور تعقيدا وتجعل من الضروري أن تكون طروحات النقد والتجديد في إطار المشهد العام المتكامل صوتا وصورة ورؤية.. حتى لا تتسبب في انزلاقات فرعية أو معارك جانبية تفتح أبواب الانقسامات وردود الأفعال السلبية لسبب أو آخر..
أما أن يتركز حديث النقد فقط على الجانب الديني دون رؤية الأخطار المحلية والدولية على الوجود برمته والتصدي لها؛ فلا يبدو موضوعيًا بما فيه الكفاية والقبول.