بعد اللقاء الذي تم بين مجموعة من المثقفين العلويين مع الجانب الروسي في جنيف بتاريخ 15/حزيران/يونيو 2020، جرت حوارات عديدة عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وقد كنت متابعاً لمعظمها فاطلعت على أغلب الآراء المتباينة من كل الأطراف السورية المهتمة بمستقبل سورية والتعايش السلمي بين المكونات.
كانت هناك محاولة لإظهار الطائفة العلوية على أنها ظلمت من قبل العائلة الأسدية، وكيف أنها استطاعت أن تورّط الطائفة في حربها على الشعب السوري من أجل الحفاظ على الكرسي، وأن الطائفة عانت من الفقر على زمن هذه العائلة أكثر، وقد دفعت ثمناً باهظاً حينما وقعت رهينة هذا النظام.
لم يكن لي اعتراض على آراء المتحاورين يومها، حتى المغالين منهم الذين اتهموا الطائفة كلّها بجريمة تدمير البلد. فالجميع وصل إلى قناعات بات من الصعب تغييرها بندوة أو حوار بعد عشر سنوات من الصراع المتوحش الذي لم يسبق للبشرية أن اختبرته بهذا الشكل الفظيع، اعتراضي الوحيد كان على جملة جاءت على لسان الدكتور (محمد الأحمد) وهو من الطائفة العلوية حين دافع عن الطائفة بقوله: “وقعت الطائفة رهينة هذه العائلة”.
وسؤالي الذي قفز إلى ذهني لحظتها : ” من كان رهينة لمن ؟” مافعله حافظ الأب بعد الاستيلاء على الحكم 1970 للطائفة لم تكن قد استوعبته بعد، وهو لايتعلّق بالوضع المادي أبداً، وأنا هنا أوافق الدكتور محمد الأحمد على توصيفه لحالة الفقر التي ظلّ معظم العلويين يعيشونها في زمن حكم عائلة الأسد. لقد منحهم ما هو أهم وأعمق ـ كما يسبغ الزعيم على أفراد جماعته ـ ألا وهو الأمان والحماية المطلقة على كل الصعد، وأنهم فوق المحاسبة مهما ارتكبوا.
هل جرّبت طائفة أو شريحة من المجتمع ذلك الشعور من قبل ؟. لم تكن المعادلة تعني “شريعة الغاب” أبداً، وإنما هي عملية منضبطة وذات طابع تسلسلي متناغم بدقة، أشبه بساعة عملاقة لا ترى منها سوى العقارب، فيما كان كلّ فرد من الطائفة يعمل كمسنن دقيق ضمن آلاف المسننات، وكل واحد منهم كان يشعر بأنّه المسنّن الذي يتوقف مصير هذه الآلة العملاقة على حسن أدائه.
لقد استطاع حافظ الأسد أن يبني تلك المنظومة ويضمن ولاءها المطلق، وبالتأكيد لم يكن ولاءاً للوطن، بل لصندوق الساعة المقفل، الذي لايمكن لأحد من خارج الطائفة الولوج إلى داخله أو الاطلاع عليه، في حين أن جميع من هم خارج الصندوق منضبطون بحركة العقارب وحياتهم تحكمها تلك ” التكّات” الرتيبة المطلوب السير على وقعها ومجاراتها، ومن يحيد عنها يعامل كخائن أو عميل لتكّات ساعة أخرى غير متوافقة مع تكّات ” ساعتنا الوطنية”.
وطنان في وطن ، أحدهما ” سرّي للغاية” يمنع الاقتراب منه أو الولوج فيه، والآخر يتقاسمه الجميع قسمة ضيزى، فكان يعلم العلوي أنّه يملك ما هو أهم من كنوز سليمان، فبيده الخاتم، وهذا يكفي كي يمنحه شعوراً بأنّه يملك كل شيء. بيوتهم متواضعة، وأحلامهم بسيطة، ولكنهم يسيرون في الشوارع كالطواويس، وكأنّ أي واحد منهم مهما انخفض شأنه كان يرى في نفسه شيئاً من حافظ.
في ظلّ قانون الطوارئ الذي سلّطه حزب البعث على رقاب السوريين منذ 1963 واستمر حتى قيام الثورة 2011 ، كان الشعب السوري كلّه يقبع تحت ذلك القانون، وحدهم العلويون كانوا فوقه ولم يطالهم ـ باستثناء قلة قليلة ـ لأنّهم وببساطة شديدة كانوا هم القانون الذي يمارس على ما سواهم، وبات لكلّ فرد من خارج الصندوق له ملفّه الخاص وتهمته الجاهزة ليصفعوه بها في أي لحظة يحلّ فيها غضبهم عليه، وقد بلغ بهم التسلّط حدّاً لم يعد مهماً أن تكون هناك تهمة ليزجوا بها من يزعجهم في غياهب السجن كائناً من كان، حتى لو كان من أشد المخلصين لهم.
مات حافظ الأسد في حزيران/يونيو 2000 وأصبح لقبه ” القائد الخالد” ، فيما احتفظت زوجته (أنيسة مخلوف) بلقب ” السيدة الأولى ” على الرغم من وجود زوجة بشار الذي ورث الحكم لمجرّد أنّها من خارج الصندوق، وجرى التعميم على جميع الوسائل الإعلامية والبعثات الدبلوماسية يومها بعدم ذكر ” السيدة الأولى ” إلا على ( أنيسة مخلوف)، والاكتفاء بلقب ” السيدة أسماء” على زوجة بشار، بخلاف كل الأعراف الدولية.
انتقلت الطائفة من لقب ” القائد الخالد ” إلى لقب ” القائد المؤسس” مع انطلاق الثورة، وذلك كردة فعل غريزية عندما شعروا بأن هناك من يريد فتح صندوق الساعة عنوة وتحطيم تلك المسننات، فلم يجدوا بدّاً من فضح نظرتهم إلى حافظ الأسد كمؤسس لكيانهم، في الوقت الذي كان كلّ الشعب السوري ينظر إليه كمؤسّس للكارثة السورية.
المصدر: إشراق