لأكثر من 70 عاماً، بدءاً من منتصف الحرب العالمية الثانية، سيطرت الولايات المتحدة على العالم كأنها عملاق ضخم. ولم يخرج اقتصادها وجيشها من الحرب سالمين فحسب، بل أصبحا أعظم مما كانه قبلها أيضاً. وفي الواقع، كانت مؤسسات الحكم فيها، على غرار “وزارة دفاع” موحدة ونظام من القيادات العسكرية الواسعة الانتشار و”مجلس الأمن القومي” والوكالات المتخصصة للتنمية الدولية وما إلى ذلك، تمتلك مواصفات المؤسسات التابعة لقائد مهيمن عالمي فعال. وحتى حينما انخرطت في صراع مميت مع الأيديولوجية الشيوعية الغريبة والمعادية، فإنها امتلكت معظم الأوراق الرابحة. وعلى غرار العملاقة، أثارت الولايات المتحدة استياء أولئك الذين لا يسرهم العيش في ظلها.
بالنسبة إلى أي شخص لم يلاحظ التحديات المتزايدة للهيمنة الأميركية، فإن الغزو الروسي لأوكرانيا، في فبراير (شباط) من هذا العام، كان يجب أن يمحو أي شكوك حيال ذلك. من الواضح أن السياسة الدولية دخلت حقبة جديدة، عادت فيها الأشكال القديمة لسلوك الدولة العدوانية، وتبين أن الهيمنة العالمية المفترضة غير قادرة على إيقافها. إذن، لم يستطع العملاق الحصول على ما يريده.
وفي المقابل، أمكن رؤية التراجع النسبي للولايات المتحدة عبر عدد من المؤشرات قبل فترة طويلة من الغزو الروسي. حاضراً، ينتج الاقتصاد الأميركي أقل من ربع الناتج المحلي الإجمالي العالمي، مقارنة مع 40 في المئة في عام 1960. وبطريقة موازية، لا يزال الإنفاق العسكري للولايات المتحدة هائلاً، إذ يشكل ما يوازي 40 في المئة من الإجمالي العالمي، لكنه لم يعد يولد نفس هامش التفوق الذي امتلكه ذات يوم. إضافة إلى ذلك، تواجه الولايات المتحدة خصوماً أكثر نباهة في تبني تقنيات وأنماط جديدة في الحرب. كذلك، تواجه أيديولوجيتها المتمثلة في العقول الحرة والأسواق الحرة، تحديات ليس من النماذج الأجنبية للفاعلية الاستبدادية والقومية العرقية فحسب، بل أيضاً من تضاؤل الثقة في المؤسسات الأميركية. في ذلك الإطار، وجدت دراسة استقصائية أجراها “مركز بيو للأبحاث” Pew Research في عام 2021 أن الغالبية العظمى من السكان في 14 دولة، جميعها حليفة للولايات المتحدة، تتبنى وجهة نظر مفادها أن الديمقراطية في الولايات المتحدة “كانت تشكل مثالاً جيداً في السابق، لكنها لم تعد كذلك في السنوات الأخيرة”. والجدير بالذكر أن التمرد الذي اجتاح فيه حشد من المخربين العنيفين المستهزئين مبنى الكابيتول الأميركي [مقر الكونغرس] في 6 يناير (كانون ثاني) 2021 بهدف قلب خسارة الرئيس دونالد ترمب الانتخابية، وجه ضربة لسمعة الولايات المتحدة أكبر من الهجمات [الإرهابية في 11/9] على نيويورك وواشنطن قبل 20 عاماً.
في المستقبل المنظور، ستظل الولايات المتحدة قوية. على الرغم من أن نهوض الصين يعني أنه قد لا يكون لديها أكبر اقتصاد في العالم إلى الأبد، فمن المؤكد أنها ستمتلك ثاني أكبر اقتصاد وربما الأكثر ديناميكية وترابطاً عالمياً، إذ تتمتع بواحد من أكبر الجيوش وأكثرها خبرة على هذا الكوكب، إلى جانب عدد كبير من الحلفاء. قبل كل شيء، أظهرت الولايات المتحدة قدرة على الصمود منذ تأسيسها. لقد كانت ممزقة من قبل، وعانت نكسات اقتصادية خطيرة، وتعافت المرة تلو الأخرى.
على الرغم من ذلك، يبقى التراجع النسبي حقيقة واقعة. سيشرح المؤرخون سبب انتهاء عصر الهيمنة الأميركية في الوقت الذي انتهى فيه، وما إذا كان اختفاؤها قد جرى تأخيره أو تخفيفه. ويتمثل السؤال في الكيفية التي ينبغي على الولايات المتحدة أن تتكيف بها مع مكانتها المتغيرة. سيتألف الرد من عناصر متنوعة، لكن الأهم بينها متعلق بطريقة السلوك والتصرف. بعد عقود من الاعتماد على الأفكار الاستراتيجية الكبيرة التي ترجمت إلى سياسة من خلال عمليات بيروقراطية معقدة وشاقة، يجب على حكومة الولايات المتحدة العودة إلى فن الحكم. وهذا يعني نهجاً يجسد فهماً دقيقاً للعالم، والقدرة على اكتشاف التحديات والاستجابة لها بسرعة، وميلاً لاستغلال الفرص عند ظهورها، وخلف كل هذا، مؤسسات فاعلة تعمل على صياغة سياسة خارجية ذكية وتنفيذها.
في الحقبة السابقة، كانت الولايات المتحدة قوية بما يكفي لتفلت من تنفيذ غير مثالي لأفكارها الكبيرة، إذ إن قوتها التي لا تضاهى منحتها هامشاً واسعاً من الخطأ، ومساحة كافية تتمكن واشنطن فيها من الحصول على معظم ما تريد، بغض النظر عن مستوى كفاءتها. اليوم، حينما أصبح أصعب بكثير على واشنطن اتخاذ القرار، فإن المشكلات التي تواجهها لا تتطلب استراتيجيات أكثر تعقيداً وتشابكاً، إذ تتطلب تلك المشكلات شيئاً أكثر واقعية، يتمثل في المهارة.
الأفكار وحدودها
إن التوصية بالتقليل من أهمية التخطيط الاستراتيجي الرسمي المكثف وتحبيذ البراعة والقوة والرشاقة، تسبح بعكس التيار السائد حاضراً. وفي وقت سابق من هذا العام، جاء الغزو الروسي لأوكرانيا حينما وضعت استراتيجية كبرى جديدة للولايات المتحدة، تهدف إلى التركيز على التنافس مع الصين (بشكل أو بآخر) وترك أوروبا والشرق الأوسط يتوليان أمورهما بنفسيهما. والجدير بالذكر أن وابلاً من الصواريخ والقنابل الروسية لم ينسف البلدات الأوكرانية فحسب، بل نسف أيضاً تلك الاستراتيجية. حتى قبل الغزو، دافع المثقفون عن إحياء فكرة الاستراتيجية الكبرى، وهي عبارة عن مفهوم شامل لإدارة السياسة الخارجية. وقد طالب مؤلف تلو الآخر بمقال “إكس” جديد، على غرار المقال الذي كتبه الدبلوماسي جورج كينان في هذه الصفحات “فورين أفيرز” في عام 1947، والذي وضع الاستراتيجية الكبرى التي سميت الاحتواء في “الحرب الباردة” [تضمنت تلك الرسالة التاريخية تقييماً سلبياً للنظام الشيوعي باعتباره نقيض القيم الغربية كلها، الأخلاقية والدينية والمدنية، ورسمت الإطار العريض للصراع مع الأيديولوجيا الشيوعية ودولها وأحزابها. وقد اندرج ذلك في أساس التوجه الاستراتيجي للغرب في صراعه مع الاتحاد السوفياتي وكتلة الدول الاشتراكية إبان “الحرب الباردة” التي انتهت بسقوط الاتحاد السوفياتي]. اليوم، اقترح بعض المثقفين، الذين عادوا بالذكرى إلى المثالية الويلسونية، أن الولايات المتحدة يجب أن توجه سياساتها نحو إنشاء “نظام دولي قائم على القوانين” [إشارة إلى الرئيس وودرو ويلسون الذي أدخل أميركا في أواخر الحرب العالمية الأولى لمؤازرة الحلفاء ضد ألمانيا وتركيا. وبعد انتصار الحلفاء، اقترح ويلسون إنشاء نظام دولي ليدير العلاقات بين الدول كلها، يكون مركزه الغرب ونمطه في الدول السيادية وفق النموذج الذي تطور في الغرب منذ “معاهدة ويستفاليا” 1648. وتجسدت أفكار ويلسون التي تسمى أميركياً بأنها “دولية” خصوصاً في “عصبة الأمم”، وهي الشكل السابق للأمم المتحدة]. وفي المقابل، اقترح آخرون “تقليص تدخل أميركا في القضايا الخارجية”، وتقبل التراجع الذي قد يتأتى من اتباع الواقعية السياسية، وتقليص دور الولايات المتحدة على المسرح العالمي. ولا تزال هناك متغيرات استراتيجية كبرى أخرى قيد التداول، لكن القاسم المشترك بينها كلها تمثل في الرغبة باختزال تعقيدات السياسة الخارجية في عدد قليل من التوجيهات المبدئية الواضحة. ويجادل مؤيدوها بأن الأمر الأهم يتجسد في وجود الإطار الفكري الصحيح. أما الباقي، فمجرد تعقيب.
في الواقع، هذه الفكرة فيها خلل. من الضروري بالطبع أن يكون هناك بعض الأفكار عن تنظيم العالم، على غرار أن الولايات المتحدة يجب أن تسعى وراء مصالحها ومثلها العليا، أو أنها تواجه تحديات من صعود المنافسين وتطورات مثل تغير المناخ وانهيار الدولة. ويمكن لصانعي القرار تسمية ذلك النوع من الأفكار بـ”الاستراتيجية الكبرى” إذا لزم الأمر، لكن ينبغي ألا يولوها أهمية مفرطة، لأن مثل تلك المبادئ العامة تقدم مساعدة محدودة حينما يتعلق الأمر بصياغة سياسات محددة. في المقابل، تعتمد الاستراتيجية الكبرى على التبسيط، على الرغم من أن العالم معقد.
إذن، لهذا السبب وجدت الولايات المتحدة. فهي من ناحية تشكل أمراً واقعاً وقوة تعديلية [بمعنى التقييم وإعادة التوجيه] في الوقت نفسه. إنها تسعى إلى الحفاظ على العناصر الأساسية للنظام العالمي، على غرار سيادة القانون، والتدفق الحر للتجارة، والحرية الفردية. وفي المقابل، بسبب ارتباطها بتلك المثل [الأساسية في النظام الدولي]، فإنها تعارض تلك الأنظمة التي لا تملك ارتباطاً مماثلاً [مع تلك المثل] وتسعى في كثير من الأحيان إلى تغييرها. من ناحية أخرى، تتشكل السياسة الخارجية للولايات المتحدة من خلال مزيج معقد من المثل والمصالح التي تختلف باختلاف الزمان والمكان. وتماماً على غرار تحالفها مع الاتحاد السوفياتي ضد ألمانيا النازية، فإنها تدعم اليوم السعودية ضد إيران وفيتنام ضد الصين. وتجدر الإشارة إلى أن المثاليين الذين يجادلون بأن الولايات المتحدة يجب أن تتبرأ من أي علاقة مع شركاء غير جذابين، يتجاهلون التعقيد ويؤيدون التبسيط العقائدي.
واستطراداً، يدان بهذه التهمة أيضاً دعاة تقليص التدخل في الخارج، الذين يرفضون أي اعتبار للقيم في السياسة الخارجية. ومن الواضح أن الدول التي تعامل شعوبها بوحشية، وتقتل المعارضين، وتخرب الحكومات الشرعية، وتنغمس في أوهام الارتياب بشأن الأعداء الخارجيين، تكون أكثر خطورة من الدول الأخرى. في القرن التاسع عشر، وجدت الولايات المتحدة والمملكة المتحدة نفسيهما على طرفي نقيض في نزاعات إقليمية مختلفة، لكن كل جانب لم يعتبر الآخر خطيراً، على غرار ما تفعله الديكتاتوريات الشمولية في القرن العشرين.
واستكمالاً، تنظر الاستراتيجية الكبرى إلى السياسة بمعزل عن الشخصيات والحوادث غير المتوقعة. وفي الواقع، لم تقدم عقيدة الاحتواء مثلاً، إرشادات خاصة حول كيفية إدارة الأزمات في برلين [بعد الحرب العالمية الثانية، والأزمة التي أدت إلى تقسيمها] وكوبا [أزمة الصواريخ السوفياتية التي أوصلت البلدين إلى حافة الحرب، وانتهت بسحب تلك الصواريخ] أو الحروب في كوريا وفيتنام. وعلى الرغم من ذلك، تكشف دراسة التاريخ عن الأهمية الضخمة للشخصيات والحوادث التي لا يمكن توقعها. في ذلك السياق، يجب أن تتعامل سياسة الولايات المتحدة تجاه الصين مع شخصية الرئيس الصيني شي جينبينغ الذي يعتمد أساليب وأهدافاً تتخطى تلك التي اعتمدها أسلافه المباشرون. وعلى نحو مشابه، تسببت جائحة عالمية غير متوقعة في أن تبدو الولايات المتحدة إما ضعيفة بشكل مثير للشفقة (لأنها فشلت في وقف انتشار المرض وتلقيح ما يكفي من سكانها)، إما قوية بشكل ملحوظ (إذ أتاح لها نهجها الأكثر مرونة أن تفتح اقتصادها بشكل أسرع مما فعلته الصين). وفي الواقع، يمكن للقادة الأجانب أن يفاجئوا الجميع. واقتباساً للقول المأثور حول الملاكمة الذي اشتهر به البطل السابق في الوزن الثقيل مايك تايسون، أن كل شخص يكون لديه خطة حتى يتعرض للكمة على فمه، يمكننا القول إن الجميع لديهم استراتيجية كبرى إلى أن تغزو روسيا أوكرانيا.
مشكلة الاستراتيجية
الأفكار مهمة، ولكن ليس بالقدر الذي يعتقده المثقفون والسياسيون، إذ يتمثل الأمر الأكثر أهمية في فن الحكم الذي يتعلق بالاستشعار والتعديل والاستثمار والفعل بدلاً من التخطيط والتنظير. إنها مهارة لاعب الجودو الذي قد يكون لديه خطط، لكن أهم ما يميزه يكمن في خفة الحركة. إنه ما سماه الفيلسوف أشعيا برلين “الفهم بدلاً من المعرفة”، أي القدرة على “معرفة ماذا يتناسب مع ماذا، وما الذي يمكن فعله في ظروف معينة وما لا يمكن فعله، وأي وسائل ستنجح في أي مواقف وإلى أي مدى”.
واستطراداً، يعد التركيز على فن الحكم بدلاً من الاستراتيجية الكبرى أمراً ملحاً بشكل خاص نظراً لسرعة تحديات اليوم وعدم القدرة على التنبؤ بها. ومن المقدر أن تواجه الولايات المتحدة ثلاثة معارضين، الصين وإيران وروسيا، في المستقبل القريب. يشكل كل من تلك الدول الثلاث قوة تعديلية ترغب في الحصول على ممتلكات جديدة أو استعادة ممتلكات قديمة في جوارها المباشر. وكذلك يخشى كل منها حصول تدهور ديموغرافي طويل الأمد وركود اقتصادي. واستطراداً، لقد طور كل منها أسلوباً للحرب (حرب هجينة أو حرب “المنطقة الرمادية”) يتضمن أدوات متطورة، بما في ذلك الوكلاء، والحرب الإلكترونية، والتقنيات المنخفضة التكلفة، والقمع الانتقائي، وحتى القتل، إضافة إلى ذلك، يحكم كل منها زعيم مسن قد يرغب في رؤية إنجازات كبيرة في غضون سنوات قليلة مقبلة، قبل رحيله عن الساحة. كذلك يبدي كل منها استعداداً للتعاون مع القوتين الأخريين، على أساس الصفقات البحتة. وكل منها مهدد، ليس ظاهرياً بل وجودياً، بفكرة السياسة الحرة، وسيادة القانون، واحترام الحريات الفردية. في الحقيقة، يعد كل ذلك وصفة لاتخاذ قرارات مفاجئة، وربما غبية، وخطيرة بالتأكيد، لا يمكن لأي استراتيجي كبير أن يتنبأ بها. وفي ذلك الإطار، لا تنظروا أبعد من الغزو المتهور الذي أطلقه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ضد أوكرانيا.
وثمة ما يزيد في التعقيد متمثلاً في احتمال انتقال أزمة ما في منطقة معينة إلى منطقة أخرى. مثلاً، يمكن للفوضى على حدود الناتو أن تجرد آسيا من الموارد الأميركية، وبالفعل، لقد انتقل انتباه الولايات المتحدة مرة أخرى إلى بؤرة التوتر القديمة لصراعات “الحرب الباردة”. وثمة قوى أشد وأكثر تأثيراً، كتغير المناخ، وانحلال الديمقراطية، والإرهاب الإسلامي، من شأنها أن توفر مزيداً من فرص حدوث أزمات لا يمكن التنبؤ بها. إذن، يجب أن يكون هدف الولايات المتحدة هو التعامل مع هذا الواقع الفوضوي بدلاً من توفير بنية هندسية للسياسة العالمية.
وعلى الرغم من ذلك، في كثير من الأحيان، نفذت واشنطن سياستها الخارجية بطريقة تعوزها الكفاءة، ما جعل أي تطلعات لاستراتيجية كبرى بلا معنى. وأفضل مثال على ذلك جاء الانسحاب الكارثي للولايات المتحدة من أفغانستان في صيف عام 2021. وبالاستناد إلى أسس استراتيجية كبرى، كان يمكن تبرير القضية بطريقتين، إما القول بضرورة خفض الخسائر الأميركية وتجنب مصادر الإلهاء في أفغانستان للتركيز على المصالح الأكثر أهمية في شرق آسيا أو، بدلاً من ذلك، تقديم تبرير يستند إلى الحفاظ على مشاركة منخفضة التكلفة في البلاد من أجل الحفاظ على المصداقية وتقويض الحركات الإسلامية الراديكالية في جنوب آسيا. على غرار معظم القرارات في السياسة الخارجية، كانت هناك حجج جيدة من كلا الجانبين، لكن ما نتج عن ذلك كان فشلاً ذريعاً في فن الحكم، وهذا هو المهم حقاً.
واستكمالاً، ترك الانسحاب الفوضوي وراءه عشرات الآلاف، إن لم يكن مئات الآلاف، من الأفغان الذين عملوا مع القوات الأميركية. وقد أدى ذلك إلى صور مذلة لمجموعات إسلامية غير منظمة وهي تلحق الهزيمة بالقوة العظمى الوحيدة في العالم، إضافة إلى إضعاف شعبية رئيس يسعى لاستعادة هيبة أميركا. لم يكن من الضروري أن يحدث الأمر على ذلك النحو، إذ كان من الممكن تحديد موعد الانسحاب في نهاية موسم القتال، وكان بإمكان وزارة الخارجية إعداد تأشيرات خاصة مسبقاً للأفغان الذين عملوا مع الولايات المتحدة، وكان من الممكن ترك قوة مؤقتة أكبر هناك للسيطرة على أضخم قاعدة جوية في البلاد، وكان من الممكن تحذير حلفاء الولايات المتحدة مسبقاً حتى لا يضطروا إلى التحرك بسرعة لتأمين مواطنيهم.
وفي الواقع، لم تكن كارثة الانسحاب من أفغانستان سوى جرح واحد من بين عدد من الجروح الذاتية في السنوات الأخيرة. في عام 2003، غزت إدارة جورج دبليو بوش العراق من دون أي خطة جادة للاحتلال الذي أعقب ذلك. في عام 2012، أعلن الرئيس باراك أوباما أن استخدام سوريا للأسلحة الكيماوية سيشكل خطاً أحمر، ثم لم يواصل حتى النهاية حينما تجاوز ديكتاتور البلاد، بشار الأسد، هذا الخط الأحمر ذاته. وفي ما يتعلق بإدارة ترمب، لم يقتصر الأمر على تجاهل الولايات المتحدة أهمية القيم في السياسة الخارجية. ففي الحقيقة، فرح الرئيس عملياً بعلاقته مع بوتين ومهد الطريق (وفقاً لمستشار الأمن القومي السابق جون بولتون) لما كان يمكن أن يكون خروجاً كارثياً من حلف الناتو. حتى إن افتتاح الشراكة الأمنية الثلاثية “أوكوس” AUKUS مع أستراليا والمملكة المتحدة، وهي لحظة مثلت نجاحاً طويل الأمد في السياسة الخارجية للولايات المتحدة، أفسده تعامل إدارة بايدن بطريقة تعوزها الكفاءة مع حليف رئيس، هو فرنسا، التي تعرضت للإذلال بعد الإلغاء غير المتوقع لبرنامج غواصات أسترالي فرنسي كبير.
لا يعني أي من هذا أن صانعي السياسة في الولايات المتحدة يجب ألا يحتفظوا ببعض الأفكار الجوهرية، على غرار أن الولايات المتحدة يجب أن تكون مستعدة للعب دور نشط في الخارج، وأن لديها مصلحة في التدفق الحر للسلع والأفكار، وأن تفضل الديمقراطية على الديكتاتورية. وقد استنتج صانعو السياسة الأميركيون في القرن العشرين بشكل صحيح أن الميول العدوانية للديكتاتوريات التعديلية ستؤثر في النهاية على الولايات المتحدة، والأنظمة التي تكون قمعية في الداخل هي أكثر عرضة لاستخدام القوة في الخارج تحقيقاً لغايات خبيثة. لم تنقطع هذه العلاقة حتى الآن. وعلى الرغم من ذلك، فإن الفهم الأساسي للحاجة إلى الانخراط الفاعل في العالم على أساس القيم والمصالح، لا يوفر إلا التوجيه الأكثر محدودية في مجال تنفيذ السياسة، هذا صحيح بشكل خاص فيما الولايات المتحدة ليست في وضع يمكنها من إنشاء نظام عالمي جديد (على غرار ما كانت عليه في أربعينيات القرن الماضي) أو إدارة النظام القائم بطريقة حميدة (على غرار ما فعلته بعد الحرب الباردة). بعد الحرب العالمية الثانية، ظهرت هناك حاجة بالفعل إلى أفكار جديدة كبيرة للنظام العالمي الذي لا يمكن أن تخلقه إلا الولايات المتحدة، باقتصادها الذي لا مثيل له والذي لم يمسه أحد. حاضراً، مع الأنظمة الاستبدادية العدوانية، والديمقراطيات المنزلقة، والظواهر العالمية غير المتوقعة، لا تستطيع الولايات المتحدة ببساطة أن تأتي بمخططات مماثلة لتلك التي كانت موجودة في فترة ما بعد الحرب مباشرة. بدلاً من ذلك، عليها أن تعود إلى فن الحكم.
استعادة فن الحكم
يجب أن يكون أحد عناصر الالتزام المتجدد بفن الحكم هو الميل الواضح في الدوائر السياسية والفكرية نحو المذهب التجريبي بدلاً من الميل إلى التعميم. وتجدر الإشارة إلى أن الحكم الدقيق على البيئة ليس بالمهمة اليسيرة. ومثلاً، على مدى العقدين الماضيين، فشل صانعو السياسة في الولايات المتحدة في معرفة السرعة التي ستنهض بها الصين والتهديد الذي يمكن أن تشكله لمكانة الولايات المتحدة العالمية، على الرغم من أن الصينيين كانوا بالكاد يخفون طموحاتهم. لقد غضت واشنطن النظر عن التطور العسكري لبكين ولم تفعل كثيراً لمواجهة تكتيكاتها البحرية العدوانية في بحر الصين الجنوبي. كذلك، فشلت إدارتا أوباما وترمب على حد سواء، في تأمين موافقة الكونغرس على “شراكة عبر المحيط الهادي” Trans-Pacific Partnership، الكتلة التجارية المقترحة التي من شأنها أن تساعد في تحقيق التوازن في الصين. من خلال تجاهل تهديد الصين، أتاح صانعو السياسة للمعتقدات الموجودة بصورة قبلية مسبقة، وهي النوع الذي يميز التفكير الاستراتيجي الفائق الكبر، أن تقف في طريق التقييم السياسي الجيد. لقد التزموا نظرية التطور والتنمية التي رأت أن التكامل الاقتصادي العالمي يؤدي إلى التحرير السياسي، وهي فرضية اتضح أنها خطأ تماماً في حالة الصين.
واستطراداً، فإن فهم البيئة يعني البحث باستمرار عن الروابط. لقد ارتكب عدد من المحللين الأميركيين خطأ التعامل مع نهوض روسيا الانتقامية، مثلاً، بوصفه مسألة منفردة وليس حلقات متصلة. كذلك جرى التعامل مع توغلات موسكو العسكرية في جورجيا عام 2008 وأوكرانيا عام 2014 على أنها مشكلات منفصلة، وليس تعبيراً عن مسار جديد وخطير في السياسة الروسية، مسار لا يمكن مواجهته بـ”إعادة الضبط” التي اعتمدتها إدارة أوباما في العلاقات الأميركية الروسية، أو علاقة ترمب الشخصية ببوتين. وبالنتيجة، لأكثر من عقد، فشلت الولايات المتحدة في تطوير ونشر القوة العسكرية التي احتاجت إليها من أجل ردع العدوان الروسي.
وعلى نحو مماثل، جرى التعامل مع قرارات الولايات المتحدة بشأن أفغانستان وسوريا وغيرها من بؤر التوتر على أنها قرارات محلية وقابلة للفصل، مع القليل من الوعي الظاهر بأنه سيكون لها تداعيات عالمية. ولم يكن من قبيل المصادفة أن ضم روسيا لشبه جزيرة القرم جاء بعد أقل من عام من فشل إدارة أوباما في فرض خطها الأحمر المفترض على استخدام سوريا للأسلحة الكيماوية. وكذلك لم يكن من قبيل المصادفة أن روسيا غزت أوكرانيا في أعقاب هروب الولايات المتحدة المذل من أفغانستان.
وبطريقة موازية، يستلزم فن الحكم السرعة. إن التصرف بسرعة ليست مسألة عقيدة، بل هو مسألة عقلية وثقافة واستعداد. في مذكراته التي نشرت بعد وفاته حول سقوط فرنسا في عام 1940، أدلى المؤرخ وشهيد المقاومة مارك بلوخ بملاحظة دامغة، جاء فيها، إنه “من بداية الحرب إلى نهايتها، دائماً ما وضع المترونوم [بندول الإيقاع] في مقر القيادة على إيقاع بطيء جداً”. لا تكمن المشكلة في استراتيجية فرنسا الكبرى، لكن في جهاز صنع القرار الكسول. وهنا يكمن تحد آخر للولايات المتحدة في عالم اليوم، يتجسد في رغبتها باتباع القول المأثور الذي طرحه رئيس الوزراء البريطاني ونستون تشرشل، “يمكن الوثوق دائماً بالأميركيين لفعل الشيء الصحيح، بمجرد استنفاد جميع الاحتمالات الأخرى”، ولكن في عالم يدور بشكل أسرع وأسرع، قد لا تتمتع الولايات المتحدة برفاهية استنفاد جميع الاحتمالات الأخرى قبل فعل الشيء الصحيح.
هندسة الكفاءة
يجب أن يبدأ تحسين فن الحكم الأميركي بالتدقيق في عمل المؤسسات التي تصوغ السياسات وتنفذها. من بين جميع الأجزاء المكونة لمؤسسة الأمن القومي الأميركية، شارك طرف واحد فحسب في تدقيق ذاتي قاس، سلاح مشاة البحرية الأميركية، الذي أعاد توجيه نفسه، بعد عقدين من حرب مكافحة التمرد، نحو الحرب الاستكشافية في المحيطين الهندي والهادي. ليس من الواضح على الإطلاق إذا كانت الفروع الأخرى للقوات المسلحة قد فعلت أي شيء قريب من ذلك. وينطبق السؤال نفسه على الاستخبارات التابعة للحكومة، والمساعدات الدولية، ووكالات الدبلوماسية العامة. لم تعكس الإخفاقات في أفغانستان والعراق خيارات سياسية معينة فحسب، بل أيضاً أمراضاً مؤسساتية حالت دون تطوير قوات محلية متخصصة، وأغرقت هذين البلدين بالمساعدات الاقتصادية التي كانت غالباً ذات نتائج عكسية توازي نتائجها المفيدة. ومثلاً، إن المشاريع التنموية الباهظة الثمن سهلت الفساد، وسحبت الأفغان الناطقين بالإنجليزية من التدريس والعمل الحكومي، لكنها لم تفعل شيئاً يذكر لبناء جيش وشرطة موثوقين. وعلى الرغم من ذلك، هناك القليل من الأدلة على أن مؤسسات الأمن القومي في الولايات المتحدة مهتمة بالانخراط في تقييم فكري داخلي أو إصلاح قاس.
ربما لن يقترح التدقيق المؤسسي الشامل إجراء إصلاح، أو حتى إلغاء بعض المنظمات فحسب، بل أيضاً إحياء المنظمات القديمة أو إنشاء منظمات جديدة. نظراً لأن النمط السائد في الحروب اليوم يتمثل في الصراع الهجين، فإن الولايات المتحدة بحاجة إلى أن تكون أفضل بكثير في لعب دور الهجوم. ولتحقيق تلك الغاية، قد تعيد إحياء “وكالة المعلومات الأميركية”، التي نشرت بروباغندا مؤيدة لأميركا خلال “الحرب الباردة”، قبل تفكيكها في أواخر تسعينيات القرن الماضي. وربما تلجأ أميركا إلى حشد الميليشيات الإلكترونية المدنية التي يمكن أن تقوض الحكومات المعادية من خلال استخدام أقوى سلاح على الإطلاق، أي الحقيقة. ومن الأمثلة على ذلك، الحشد المرتجل للهاكرز المناهضين لروسيا من قبل الحكومة الأوكرانية بعد الغزو الروسي. يجب على الولايات المتحدة أيضاً أن تجعل من الدفاع عن الحريات المدنية مسألة مبدأ، ويكون في الوقت نفسه أداة لإضعاف منافسيها. ومثلاً، يجب إغراق الروس برسائل تكشف الأكاذيب التي يزودهم نظامهم بها، والحقيقة في ما يتعلق بالخسائر البشرية والاقتصادية التي عانوا منها في الحرب في أوكرانيا وبسبب تلك الحرب، والعواقب الوخيمة لأن تصبح روسيا دولة تابعة للصين ومستبعدة من الغرب.
في بعض الحالات، لا تكمن المشكلة في المؤسسات بل في العقلية، أي عدم قدرة القادة على التعامل مع أزمات متعددة في وقت واحد. لا يوجد سبب يمنع الولايات المتحدة من التعامل مع أكثر من تهديد واحد في الوقت نفسه. في النهاية، لقد قاتلت بنجاح في مسرحين مختلفين للغاية خلال الحرب العالمية الثانية. في المقابل، يتطلب فعل ذلك وجود انضباط من النوع الذي أظهره جيل من القادة في تقسيم وقتهم وطاقتهم بهدوء بين مشكلات متعددة، بدلاً من إرهاق أنفسهم واستنزاف موظفيهم في قضية واحدة منفصلة في كل مرة، في جو من الأزمات المستمرة. في ذلك الإطار، تجدر الإشارة إلى أن صورة فريق أوباما بأكمله محتشداً في غرفة العمليات لمتابعة الغارة التي قتلت أسامة بن لادن في عام 2011، وهي عملية لم يكن بإمكانهم فعل أي شيء للتأثير عليها بمجرد بدئها، تتناقض بشكل حاد مع سلوك القادة الأميركيين في الليلة التي سبقت “يوم النصر” [الإنزال العسكري على ساحل النورماندي في الحرب العالمية الثانية]. في تلك الليلة، شاهد الرئيس فرانكلين روزفلت أفلاماً سينمائية، وقرأ الجنرال دوايت أيزنهاور رواية غربية. وفقاً لملف في صحيفة “نيويورك تايمز”، أثناء الانسحاب من أفغانستان، كان مستشار الأمن القومي جيك سوليفان ينام ساعتين لا غير في الليلة الواحدة، وهي علامة مقلقة تدل على الافتقار إلى الانضباط في غمار عملية اتخاذ القرار.
واستطراداً، فإن بعض التحسينات المطلوبة هي في الواقع عادية. قد يعتقد أكثر من شخص أن صنع السياسة الخارجية السليمة يعتمد على أساسات السلوك البيروقراطي كوجود مذكرات واضحة وموجزة، واجتماعات دقيقة ومتقنة، واستنتاجات موزعة بشكل سليم، وإرشادات موجزة لا لبس فيها من القيادات العليا. إن سير العمل الجيد لا يضمن سياسة جيدة، لكنه يزيد إمكانية حدوث ذلك. مع وضع تلك الأمور في عين الاعتبار، يجب على حكومة الولايات المتحدة أن تولي اهتماماً متجدداً للتدريب وإدارة الحياة الوظيفية، في ما يتعلق بموظفي الأمن المحترفين. هناك كثير من الشباب الذين يرغبون في تأدية الخدمة في الحكومة، لكن المدارس المهنية للشؤون الدولية غالباً ما تفشل في إعدادهم لأداء واجباتهم الفعلية.
واستكمالاً، مضى وقت طويل على تولي واشنطن مهمة الاستثمار بكثافة في التعليم والتطوير المهني. إن تقديم دورات قصيرة مصممة تصميماً جيداً في الجامعات، وحتى إنشاء أكاديمية تديرها الدولة للمتخصصين في السياسة الخارجية من جميع أقسام الحكومة، سيكلف جزءاً صغيراً من ميزانية الأمن القومي للولايات المتحدة، لكنه قد يؤدي إلى نتائج متباينة. في الحقيقة، يجب أن يركز المنهج على آليات صنع السياسات الفاعلة، بدلاً من مزيج العلوم الاجتماعية والشؤون الجارية ونظرية تنظيم كليات إدارة الأعمال التي تميز جزءاً كبيراً من التعليم العالي في هذا المجال في الولايات المتحدة.
بطريقة موازية، تتطلب استعادة الكفاءة الإجرائية أيضاً إصلاح نظام إدارة الموظفين المعطل. لطالما كانت عملية تعيين أشخاص في المناصب العليا في وزارة الخارجية والبنتاغون بغيضة، والمشكلة تزداد سوءاً. بعد مرور عام على رئاسة جو بايدن، وفق صحيفة “واشنطن بوست”، أنجزت الإدارة فحص وترشيح ما لا يزيد على الثلث من أصل 800 منصب أو نحو ذلك كانت الصحيفة تتعقبها، وحصلت على موافقة مجلس الشيوخ عليها [ثلث المناصب]. ومن بين المناصب المهمة التي تركت شاغرة، السفراء إلى كوريا الجنوبية وأوكرانيا، ومساعد وزير الخارجية لشؤون الشرق الأدنى، ومساعد وزير الدفاع لشؤون الأمن الدولي. يحتاج البيت الأبيض والكونغرس، اللذان يتقاسمان المسؤولية عن هذه التأخيرات، إلى تسريع إجراءات التعيينات السياسية، كذلك يجب تخفيف رتب موظفيهما أيضاً. على الرغم من أن الأشخاص السياسيين الذين جرى تعيينهم يحملون وجهات نظر جديدة ويظهرون التزاماً بأجندة الرئيس، فإن الولايات المتحدة يمكن أن يكون لديها نصف عددهم، مع استمرارها في ملء المراكز العليا في الحكومة بنسبة أعلى بكثير من المسؤولين غير الدائمين، مقارنة مع نظيراتها. في الواقع، ومهما وجد الحزبان الأمر صعباً، إلا أن حدوث ضغط من الديمقراطيين والجمهوريين باتجاه تقليل عدد المعينين السياسيين وتسريع إجراءاتهم، سيحقق أرباحاً أكثر من أي وثيقة جديدة للأمن القومي.
استكمالاً، يتضمن فن الحكم أيضاً خيارات جوهرية، على غرار الجهد الدؤوب في تقسيم الأعداء. خلال مؤتمر واشنطن البحري 1921-1922، أجرت الولايات المتحدة مناورة متعلقة بالمفاوضات من أجل تمزيق التحالف الإنجليزي الياباني، الذي ربما كان أكثر العلاقات الخارجية تهديداً في ذلك الوقت. في الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، استغلت الانقسام الصيني السوفياتي بغية إضعاف العالم الشيوعي. واليوم، تحتاج واشنطن إلى دق إسفين بين الصين وروسيا، وهي مهمة ستكون صعبة، بالنظر إلى الاهتمامات المناهضة للولايات المتحدة والمعادية للديمقراطية التي تشغل قادة البلدين، بيد أنها لن تكون مستحيلة على المدى الطويل. على الرغم من قلق بكين وموسكو بشدة من الجهود المبذولة لفصلهما عن بعضهما البعض، فإنهما لديهما أهداف مختلفة في السياسة الخارجية، إذ تسعى روسيا إلى تحطيم النظام الدولي، فيما تسعى الصين إلى إخضاعه. بالتأكيد، يمكن للولايات المتحدة أن تجد طرقاً كي تلعب على المخاوف الروسية تجاه الديناميكية الصينية، من ناحية، وعلى الازدراء الصيني للإخفاق الروسي [في غزو أوكرانيا] من ناحية أخرى. لا تكمن المسألة الأساسية في إيقاع الشقاق بين الصين وروسيا في المدى القريب، وهو أمر غير ممكن، بل تعظيم نقاط الاحتكاك والنزاع في علاقتهما.
واستكمالاً، تعتبر الانتهازية الذكية ذات قيمة خاصة في عصر التحالفات غير الرسمية والعلاقات السرية. لطالما مالت واشنطن إلى التقليل من أهمية مثل تلك العلاقات، والتفكير في أن المشكلة في أفغانستان مثلاً تتعلق بحركة “طالبان” مع أنها كانت تتعلق أيضاً بباكستان، أو التفكير في أن مشكلة العراق هي تنظيم “القاعدة” بدلاً من التفكير في أن إيران أيضاً تعتبر مشكلة هناك. يبدأ الحل بتحديد هذه الروابط بشكل علني، ومن دون تردد. مرة أخرى، هناك فرص لتقسيم معارضي الولايات المتحدة. ومثلاً، يجب على واشنطن تعزيز المنافسة المحتدمة بين روسيا وتركيا على النفوذ في آسيا الوسطى من خلال الميل نحو أذربيجان (عميل تركيا) في الصراع على منطقة “ناغورنو قره باغ” المتنازع عليها.
أخيراً، يجب أن يتضمن فن الحكم الأميركي مكوناً محلياً. لعقود من الزمان، اعتادت نخب السياسة الخارجية الأميركية على اتخاذ القرارات من دون التفكير كثيراً في الرأي العام. ومثلاً، لقد فتحت التجارة مع الصين من دون القلق بشأن انهيار الوظائف الصناعية الأميركية التي نتجت عن ذلك. ويتحدث أعضاء تلك النخب اليوم عن أهداف مجردة، مثل “الردع الموسع”، التي تعتبرها المؤسسة السياسية في واشنطن منطقية لكنها لن تحظى مطلقاً بدعم الشعب الأميركي. في الواقع، ليس لدى الأميركيين سبب معين للثقة في الخبراء الذين يديرون السياسة الخارجية، ولا يملكون فكرة واضحة عما ورطهم قادتهم فيه ولماذا. يتعين على السياسيين أن يربطوا صراحة التطورات في مناطق الأزمات بمصالح الولايات المتحدة، ويوضحوا مثلاً كيف تعبر تايوان المستقلة عن القيم الأميركية (تقرير المصير والحرية) وتخدم المصالح الأميركية (إبقاء أحد الاقتصادات الأكثر إنتاجية في العالم خارج قبضة الصين).
وتعتبر أزمة 2022 في أوكرانيا مثلاً ساطعاً على الحاجة إلى استبدال يضع فن الحكم بديلاً من صوغ استراتيجية كبرى. في الواقع، إن إدارة بايدن، كسابقتها، حكمت بشكل صحيح على الصين باعتبارها المنافس الرئيس للولايات المتحدة. لقد جاء قرار بوتين بغزو أوكرانيا كهزة غير متوقعة. وما كان مطلوباً هو رد فعل سريع وبارع، وتمثلت مصلحة إدارة بايدن في ألا تكون ذكية فحسب، بل ماكرة أيضاً في إصدارها للمعلومات الاستخباراتية في الوقت المناسب خلال الأسابيع التي سبقت الغزو، بهدف تقويض محاولات روسيا إرساء الأسس لأفعالها وتقسيم أوروبا.
وبالطبع لم تنته الأزمة عند هذا الحد. تلوح في الأفق فترة خطيرة ستختبر فيها موسكو عزم الغرب، فقد تطالب مثلاً، بالحق في حماية المتحدثين بالروسية في دول البلطيق أو الإصرار على تفكيك حلف الناتو في أوروبا الشرقية. والأسوأ من ذلك، أنها قد تختبر التزام الحلف بالدفاع الجماعي عن طريق إلقاء صاروخ أو صاروخين عند نقاط تحميل الأسلحة المتجهة إلى أوكرانيا. لمواجهة مثل تلك التهديدات، لن تحتاج الولايات المتحدة إلى استراتيجية كبيرة، بل إلى الثبات في مواجهة روسيا، والبراعة في دعم أوكرانيا وحلفاء الناتو في الخطوط الأمامية فيما تتولى وقف الاقتصاد الروسي، مع الدهاء في توجيه إعادة التسلح في أوروبا.
دفاعاً عن البراغماتية
إن الولايات المتحدة فريدة من نوعها بفضل عدد من الأشياء، على غرار هويتها الوطنية المستندة إلى القيم، وحجمها الهائل، وموقعها الجغرافي المناسب، وقوتها الساحقة، وتاريخ عمره ربع ألفية كدولة ديمقراطية عندها أخطاء لكنها ناجحة. وعلى الرغم من ذلك، تدخل اليوم فترة من التحديات لن تكون خلالها الاستراتيجية الكبرى، التي تميل إلى كثير من التبسيط، مفيدة للغاية. يجب على الدولة أن تشق طريقها عبر عالم صعب، وتدير الأزمات، وأن تفعل الخير بشكل تدريجي حيث تستطيع، وتواجه الشر حيثما يجب.
لن يردد مستقبل السياسة الخارجية للولايات المتحدة صدى النداء القوي في خطاب التنصيب الذي ألقاه الرئيس جون كينيدي عام 1961، بأن “نتحمل أي عبء، ونتصدى لأي مشقة”. بدلاً من ذلك، يجب على الولايات المتحدة أن تتبع التوجيهات المستندة على المبادئ والبراغماتية في الوقت نفسه التي قدمها الرئيس ثيودور روزفلت في خطاب تنصيبه عام 1905، “لقد أعطينا كثيراً، وسيتوقع منا كثير بحق. علينا واجبات تجاه الآخرين وواجبات تجاه أنفسنا، ولا يمكننا التهرب من أي منهما. لقد أصبحنا أمة عظيمة، أجبرتها حقيقة عظمتها على إقامة علاقات مع أمم الأرض الأخرى، ويجب أن نتصرف وفق ما يليق بنا كشعب يتحمل مثل تلك المسؤوليات”.
لقد اعتبر روزفلت، الذي أجرى دراسة متأنية للسياسة الخارجية طوال حياته المهنية وحرص على شرحها للأميركيين خارج المدن الكوزموبوليتية الكبرى في شمال شرقي الولايات أميركا، سياسياً ممارساً ماهراً. وبصفته مساعداً لوزير البحرية ولاحقاً رئيساً للجمهورية، ساعد في إنعاش الجيش والبحرية، وجعلهما مناسبين لاحتياجات قوة عالمية صاعدة. في عام 1905، انتهز الفرصة للتوسط في سلام بين اليابان وروسيا بطريقة تعود بالنفع على الولايات المتحدة. لقد توقع القضايا المطروحة على المحك في الحرب العالمية الأولى قبل وقت طويل من معظم الأميركيين، ودافع عن تدخل أميركي مبكر كان من شأنه أن يقصر أمد الصراع، إضافة إلى ذلك، وازن روزفلت بين المثل والمصالح. وتبدى أنه كان فضولياً بلا هوادة حول العالم الذي يعمل فيه، ويقرأ بلغات أجنبية ويسافر على نطاق واسع. وكذلك فقد عمل في عصر كانت فيه الولايات المتحدة قوية لكنها تكن مهيمنة إلا بالكاد. إنه عصر شهد قوى متعددة فاعلة. لم تكن براغماتيته المبنية على المبادئ، استراتيجية عظمى، لكنها نجحت.
إليوت أ. كوهين هو أستاذ في زمالة “روبرت أوسغوود” في كلية الدراسات الدولية المتقدمة، “جامعة جونز هوبكنز”، حيث شغل منصب العميد بين عامي 2019 و2021. وتولى منصب رئيس “أرلي أ. بورك للاستراتيجيات” في “مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية”. وعمل مستشاراً لوزارة الخارجية الأميركية من 2007 إلى 2009.
فورين آفيرز مايو/ يونيو 2022
المصدر: اندبندنت عربية