القضية التي تسمى مجازًا قضية المعتقلين في سجون “النظام السوري” كانت ومازالت من أهم الملفات في المعضلة السورية ومآسيها المستمرة منذ عقود حتى تاريخه. كان ومازال يقوم بها كجزء من سلوكه وكنتيجة لبنيته الأمنية العسكرية أولًا مع بعدها الطائفي ثانيًا. ومازال يمارسها دون وجود أية ضوابط معلومة أو أحكام مكتوبة أو معايير يمكن معرفتها.
فلماذا لم نسمهم سجناء أو معتقلين؟ لأن تعريف السجن قانونًا: هوعقوبة تقتضي حجز حرية المواطن الفرد نتيجة جريمة أو جنحة ارتكبها وتم إثباتها عن طريق السلطة القضائية المخولة من قبل المجتمع.
ولا يسمى المحتجز سجينًا ما لم يصدر ضده حكم قضائي مبرم تنفذه السلطات المخولة بذلك.
أما الاعتقال: فهو إجراء احترازي تمارسه السلطة التنفيذية المخولة من المجتمع بحجز حرية فرد أو مجموعة كإجراء احترازي لمنع وقوع جريمة أو اضطراب أو ضرر يهدد أمن المجتمع أو اقتصاده. قبل صدور قرار أو حكم من السلطة القضائية. وهو يعرف بأنه إجراء احترازي مؤقت يسبق فيه التنفيذ العرض على الجهات القضائية لتصدر حكمها.
لذلك فقد اجتهد المشرعون في دول العالم في وضع الضوابط والمعايير وتحديد الحالات التي تبيح للسلطات التنفيذية ممارسته في أضيق حدود ممكنة للحفاظ على أمن المجتمع والدولة بالأخص في حالات الأزمات والكوارث والحالات الطارئة والحروب.
أما فيما يتعلق بحقوق السجناء وواجب الدولة اتجاههم وفقًا لما تنص عليه الاتفاقيات الدولية فإن السجين يتمتع بكافة حقوق الإنسان المنصوص عليها عدا حق التنقل والترشح والانتخاب. أما باقي الحقوق بما فيها حق الاتصال والتواصل والعمل والرعاية الصحية والاجتماعية. ولا يجوز معاملته معاملة مهينة أو ممارسة التعذيب أو أي انتهاك جسدي أو نفسي.
أما في حالة الإعتقال فيحق للسلطة التنفيذية المخولة منع المعتقل أيضًا من الاتصال أو التواصل مع العالم الخارجي خلال فترة الإعتقال المؤقتة إذا كان تقديرها بأن ذلك سوف يؤثر على الأمن العام أو سير التحقيق. لكن باقي حقوق السجناء وحقوق الانسان المذكورة فإنها لا تسقط خلال فترة الإعتقال.
وكذلك علينا التنويه هنا بأن كل القوانين والتشريعات تؤكد على مسؤولية الدولة عمومًا والسلطة التنفيذية خصوصًا على ممارسة الإعتقال لأن الاجراءات السريعة فيه تحتمل الخطأ وعندها يتوجب عليها رد الاعتبار للمعتقل والتعويض العادل له.
وفي كلتا الحالتين من السجن أو الاعتقال يجب أن يعلم الفرد بسبب إعتقاله والتهمة الموجهة له والجهة التي نفذت عملية الإعتقال. وفي معظم التشريعات يجب إعلام أهله وذويه أيضًا بالتهمة الموجهة له ومكان احتجازه والجهة التي نفذت الإعتقال ولا تستثني منها إلا حالات خاصة.
أما إذا عدنا إلى الحالة السورية لبحثها من حيث البنية القانونية ومن الناحية العملية، فمن الناحية القانونية نجد أن الحقوق الأساسية للسجناء والمعتقلين منصوص عليها صراحة في كافة القوانين والدساتير السورية منذ تأسيس الدولة بما فيها دستور حافظ الأسد عام ١٩٧٢ ودستور بشار الأسد عام ٢٠١٢ فليس هناك فجوة قانونية كبيرة من حيث النصوص حول هذه المسألة تحديدًا، ولكن الممارسة العملية على أرض الواقع شيء مختلف تمامًا منذ استلام حزب البعث للسلطة في عام ١٩٦٣ وإعلان مجلس قيادة الثورة حالة الطوارئ حينها.
ومنذ ذلك الوقت بدأت بممارسات غريبة على المجتمع السوري باستخدام العنف المفرط خارج حدود القانون وأطر الدولة.
كانت بدايته مع إنشاء فصائل مسلحة تابعة لحزب البعث وليس للدولة وقيامها بممارسة الاعتداءات والتعذيب والقتل والاختطاف في سجون غير خاضعة لرقابة أو سلطة الدولة.
ولم يسلم من هذه الممارسات حتى الكثير من الرفاق البعثيين الذين كانوا يصنفون من القيادة الجديدة كعملاء أو مندسين فتم قتلهم أو اعتقالهم أو تهجيرهم.
وبعد استلام حافظ الأسد السلطة طور تلك الفصائل إلى أجهزة أمنية متشعبة تجاوز عددها أصابع اليدين في بنية غامضة متشعبة متداخلة الاختصاصات والمهام ومنفلتة من أية ضوابط قانونية أو تنظيمية. وحتى الآن لا يعرف نص مكتوب ينظم عملها أو تبعيتها وبنيتها التنظيمية وإن كان أشيع في الفترة الأخيرة من حكمه عن وجود نص سري ينظم عمل الأجهزة الأمنية وعلاقتها ببعضها ولكن لم تتسرب أية نسخة منه تمكننا من فهمه رغم كل الانشقاقات التي حصلت خلال الثورة مما يرجح نظرية عدم وجوده أصلاً.
لقد نجح حافظ الأسد في بناء نظام سلطة قوي ومعقد وعصي على السقوط ولكنه ليس نظام دولة مسؤولة عن أمن و تنمية وتتطوير المجتمع. وهذا ما ورثه بشار وأبقى عليه دون تغيير، قبل وبعد الثورة السورية العظيمة.
وعودًا على بدء تعتبر عمليات القتل خارج القانون والتعذيب واختطاف الناس هي أكبر كاشف لمضمون و بنية هذا النظام الأسوأ في تاريخ البشرية. فليس هناك نظام دولة يحتوي سلطة مخولة بالحفاظ على أمن المجتمع لتمارس الاعتقال بهدف حماية المجتمع وأمنه واقتصاده.
ولكن الموجود على الأرض نظام حكم ديكتاتوري مستعد في سبيل الحفاظ على أمنه تدمير المجتمع و تكسير أضلاعه.
بعد الثورة وإعادة تشكيل فصائل طائفية ومرتزقة تعمل خارج أية أعراف أو ضوابط أو قوانين انحدر نظام حافظ/ بشار إلى مستوى عصابة مسيطرة على الحكم بقوة الأمر الواقع وتمارس سلوك العصابات الإجرامية والمافيات التي تسيطير على مناطق محددة لا أكثر بأرضها وبشرها ليكونوا رهينة لديها يعملون ليل نهار ليدفعوا الخوات المفروضة عليهم ويقدمون لها الخدمات لا العكس. فلا يوجد دولة في العالم أو نظام حكم يقوم باختطاف الناس من بيوتهم الآمنة ليخفيهم لعشرات السنين دون الافصاح عن مصيرهم أو الجهة التي اختطفتهم أو التهم الموجهة ضدهم أو دون السماح لذوويهم أو محاميهم بالتواصل معهم أو معرفة شيء عنهم.
حتى حين الوفاة لبعض الحالات التي تم إبلاغ الأهل بها، لم يتم تسليمهم الجثمان أو أي تقرير طبي رسمي يفيد بظروف وسبب الوفاة.
والأبشع والأنكى أنه يغض الطرف، إن لم يكن يشجع وينمي مجموعات من السماسرة الذين يبتزون ذوي المختطفين لمعرفة مصير أحبائهم وغالبًا ما تبوء جهودهم بالفشل بعد دفع الخوات الكبيرة التي تذهب بمعظمها لضباط الأمن وأزلام النظام.
وهذا ليس سلوك دولة ولا نظام حكم مهما كانت صفته، إن هذا سلوك عصابة إجرامية استولت على السلطة في غفلة من الزمن.
وإن هذا ليس سجن أو اعتقال من حيث المفهوم القانوني المعرف بل هي أعمال اختطاف إجرامية لا تهدف لحفظ أمن الدولة أو المجتمع بل عمليات تستهدف زعزعت المجتمع وبث الرعب في كافة أركانه للحفاظ على أمن الفئة المستولية على الحكم.
إن معظم الشهادات المتواترة على عمليات الخطف التي تمت في السنوات الماضية سواء في المناطق الهادئة أو المشتعلة تؤكد أن طريقة تنفيذ الخطف الإجرامي قد تمت بطريقة فيها مبالغة استعراضية للقوة المسلحة وإصدار الضجيج والصخب. للفت نظر المحيطين وبث الرعب فيهم و في من حولهم.
هذا ليس سلوك دولة أو نظام حكم بل سلوك عصابة إجرامية اختطفت المجتمع السوري بأسره ثم اختطفت كوكبة من أبنائه بهدف بث الرعب وممارسة الإذلال والابتزاز.
إن هذا الملف يؤكد أن هذه السلطة لا يمكن إصلاحها أو تقويم سلوكها لأن بنيتها بنية مغلقة إجرامية مضاف لها نكهة من الحقد الطائفي الذي يفسر الإفراط غير المحدود في ممارسات القتل والخطف والتعذيب والإهانة أبعد بكثير مما يقتضيه أمن سلطة الحكم فقط. فهذه عصابة لابد من تفكيكها وإعادة بناء سورية على أسس جديدة تمامًا.
المصدر: اشراق