إسطنبول: مع تعاظم تجارة الصين الخارجية، وتبنيها مبادرة الحزام والطريق، أصبح تأمين سفن الشحن العابرة لمختلف البحار والمحيطات الدولية “حتمية”، خاصة مع ازدياد المخاطر التي تهدد بقطع خطوط تجارة بكين مع العالم، وبالأخص إمدادات الطاقة.
ففي 2021، فاق حجم التجارة الصينية الخارجية 6.05 ترليون دولار، وهو الأكبر على الإطلاق، متجاوزاً حتى الولايات المتحدة، التي حلت ثانية بأكثر من 5.92 ترليون دولار في نفس العام، بحسب بيانات وزارة الخارجية الأمريكية.
لكن الولايات المتحدة تتفوق على الصين في أن أساطيلها البحرية تشرف على تأمين خطوط الملاحة البحرية في مختلف البحار والمحيطات والمضائق، بما فيها تلك التي تعبر منها سفن الشحن الصينية، وخاصة ناقلات النفط والغاز، حيث أصبحت البلاد أيضا أكبر مستورد للطاقة في العالم.
وتتبنى واشنطن سياسة التطويق الاستراتيجي للصين عبر عدة تحالفات دولية في المحيطين الهادي والهندي، على غرار تحالف “أوكوس” بين الولايات المتحدة وأستراليا وبريطانيا (2021)، ومؤخرا تحالف “كواد”، بين الولايات المتحدة واليابان والهند وأستراليا (2022).
وتحاول هذه التحالفات تطويق بكين في بحري الصين الشرقي والجنوبي، ليس فقط عبر الأساطيل البحرية بل أيضا من خلال القواعد العسكرية في كوريا الجنوبية وتايوان واليابان.
كما تواجه التجارة البحرية الصينية مشاكل القرصنة في مضيق ملقة، الرابط بين بحر الصين الجنوبي والمحيط الهندي، والقرصنة الصومالية في خليج عدن والمحيط الهندي، ناهيك عن القرصنة في خليج غينيا غرب القارة الإفريقية.
** اللآلئ الصينية
يطلق مصطلح اللآلئ الصينية على الموانئ والقواعد العسكرية البحرية التي تشيدها أو تسيرها بكين كلياً أو جزئياً على طول خطوط تجارتها الدولية.
ورغم أن “عقد اللآلئ الصينية”، لم تتبنه بكين في أدبياتها، وإنما استُخدِم لأول مرة في تقرير داخلي لوزارة الدفاع الأمريكية، أعده “بوز ألن هاملتون”، في عهد وزير الدفاع دونالد رامسفيلد (2001-2006) بعنوان “مستقبل الطاقة في آسيا”، ونشرت صحيفة واشنطن بوست أجزاء منه في 2005.
وجاء في التقرير أن “الصين تتبنى استراتيجية (سلسلة اللآلئ)، من القواعد والعلاقات الدبلوماسية، الممتدة من الشرق الأوسط إلى جنوب الصين”.
وأوضح التقرير الأمريكي أن “الصين تعمل على بناء قوات عسكرية، وإقامة قواعد، على طول الممرات البحرية من الشرق الأوسط لإبراز قوتها في الخارج، وحماية شحناتها النفطية”.
وبعد أقل من عقدين من إصدار هذا التقرير، تمكنت الصين فعلا من تشييد جزر صناعية في بحر الصين الجنوبي، للسيطرة على أجزاء واسعة من المياه الإقليمية لهذا البحر، ما رفع من حدة التصعيد مع الدول المتشاطئة في هذه المنطقة، وعلى رأسها فيتنام والفلبين وماليزيا وإندونيسيا.
كما شرعت الصين في بناء قاعدة عسكرية في ميناء “غوادر” جنوب غربي باكستان، للالتفاف على مضيق ملقة، الواقع بين ماليزيا وإندونيسيا وسنغافورة، والذي تراقبه السفن الحربية الأمريكية، وتنتشر به القرصنة البحرية، وأيضا من أجل مراقبة حركة السفن في مضيق هرمز على الخليج العربي.
كما تتولى الصين تشييد ميناءين في ميانمار بإقليم راخين الذي تقطنه أقلية الروهينغيا المسلمة والمضطهدة، والمطلين على خليج البنغال، بشكل يمكنها من تجاوز مضيق ملقة أيضا، ونقل النفط القادم من الشرق الأوسط عبر خطوط أنابيب من الميناءين نحو البر الصيني.
وفي جزيرة سريلانكا، الواقعة جنوب الهند، تمكنت الصين في 2017 من الاستحواذ على 70 بالمئة من أسهم ميناء “هامبانتوتا” الاستراتيجي، الواقع على طريق الحرير، مقابل 1.12 مليار دولار، لمدة 99 عاما.
** اللآلئ العربية
استراتيجية الصين التي تسعى لوضع شبكة من محطات التزود بالوقود وإعادة الإمداد من بحر الصين الجنوبي إلى قناة السويس، تمددت لتصل إلى موريتانيا على المحيط الأطلسي، مرورا بالجزائر والمغرب.
فمن بين 95 ميناء تملكه (جزئيا) أو تديره شركات صينية في جميع أنحاء العالم، إلى غاية يوليو/تموز 2020، يوجد 20 منها في المنطقة العربية، بحسب تقرير نشره معهد جيتستون الأمريكي.
لكن أول قاعدة عسكرية بحرية صينية في الخارج شيدتها في جيبوتي، عندما وقعت بكين معها على معاهدة عسكرية تضمنت بناء القاعدة مقابل إيجار سنوي بـ20 مليون دولار، يجدد كل عشر سنوات.
وجاء ذلك بعدما قامت الصين بشراء حصص يى ميناء “دوراليه” بجيبوتي، مقابل 185 مليون دولار، وتنفق شركات حكومية صينية مبلغ 420 مليون دولار على رفع كفاءة تجهيز الميناء.
وهذا يكشف الأهمية الجيوسياسية التي تمثلها جيبوتي في استراتيجية اللآلئ الصينية، لوقوعها على طريق الحرير وعلى مضيق باب المندب، الذي يمر عبره 10 بالمئة من صادرات النفط العالمية، و20 بالمئة من السلع التجارية.
وفي السودان، قدمت شركة “تشاينا هاربور” الصينية في 2021 عرضا بـ 543 مليون دولار لتوسيع منشآت في ميناء سواكن التاريخي، على أن تسدد الخرطوم المبلغ على مدى 30 عاما.
كما أسهمت الشركات الصينية في تنفيذ عدد من المشروعات في ميناء بورتسودان على البحر الأحمر، مثل تعميق المرابط، وزيادة الأرصفة، وتحديث معدات المناولة..
أما في مصر، فتستثمر عدة شركات صينية في المنطقة الصناعية لقناة السويس، التي تمثل إحدى النقاط الرئيسية التي يمر عبرها طريق الحرير.
وفي الجزائر، أعيد إحياء مشروع ميناء الحمدانية بمدينة شرشال، بالشراكة مع الصين، والذي من المتوقع أن يكون أكبر ميناء في إفريقيا والبحر الأبيض المتوسط باستثمارات قد تصل إلى 6 مليار دولار.
وكان هذا المشروع أطلق في 2016، وعرضت الصين تمويله بالكامل عبر تقديم قرض للجزائر بقيمة 3.3 مليار دولار تدفعه على مدى طويل، على أن تتولى شركة صينية إدارته بعد الانتهاء من إنجازه.
لكن المشروع أثيرت حوله بعض الشبهات، وتم تجميده بعد سقوط نظام الرئيس الراحل عبد العزيز بوتفليقة، إثر حراك شعبي، في 2019، قبل أن يعيد الرئيس عبد المجيد تبون، في 2020، إحياءه، مشترطا “الشفافية” في إنجازه، والتخلي عن التمويل الصيني بالكامل، وفرض التمويل المشترك.
ويمثل هذا الميناء بالنظر إلى قدرته على استقبال سفن الشحن الضخمة، فرصة للصين لشحن السلع والطاقة من وإلى وسط وغرب إفريقيا وأيضا إلى جنوب وغرب أوروبا، خاصة وأنه سيتم ربط بخط للسكك الحديدية من شمال الجزائر إلى أقصى جنوبها.
وفي المغرب، تسعى الصين لاستغلال ميناء طنجة الواقع بين إفريقيا وأوروبا، كنقطة استراتيجية لغزو أسواق القارتين من خلال مشروع واعد لإنشاء مدينة صناعية وتقنية باسم “طنجة-تيك”، ستنشط فيه شركات صينية في مجالات متعددة، حيث تم توقيع اتفاق بهذا الشأن في 2017.
لكن أهم لؤلؤة صينية تم تشييدها في المنطقة العربية، هي “ميناء الصداقة”، أكبر موانئ البلاد، الذي شيدته بكين في 1981، أي قبل ظهور هذا المصطلح في 2005، لكن الأخيرة اتفقت مع نواكشوط في 2008، على توسعته ليصبح قادرا على استقبال سفن الشحن الكبيرة، مقابل نحو 300 مليون دولار.
فاللآلئ الصينية في الوطن العربي، ليست مجرد موانئ تسيرها الشركات الصينية، بل تأخذ أشكالا مختلفة مثل تشييد الموانئ عبر القروض (موريتانيا) أو الشراكة (الجزائر) أو من خلال المناطق الصناعية بالموانئ (المغرب) أو الممرات المائية (مصر) أو حتى القواعد العسكرية (جيبوتي).
وكل هذه الأشكال تخدم هدفا واحدا؛ تأمين وصول إمدادات الطاقة من الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، وغزو السلع الصينية للأسواق العربية والإفريقية والأوروبية، مع توفير الخدمات اللوجيستية لسفن الشحن، كالوقود والصيانة والتموين، وتأهيل الموانئ العربية لاستقبال السفن الضخمة.
المصدر: القدس العربي