نجحت أوكرانيا في تمييع مخطط إعلان انتصار روسيا عليها، ليخرج خطاب الرئيس الروسي فلاديمير بوتين من دون الإعلان عن أيَّ انتصار، لتصبح واجهة الخطاب متقلب التوقعات والتوجهات. في الشرق تعودنا أن تعلن كل الأطراف المتصارعة والمتحاربة النصر وهزيمة الخصم، لكن الحال بين الرئيسين بوتين وزيلنسكي والدول الأوروبية مختلفة الشكل والمحتوى؛ حيث عجز الرئيس الروسي، فلاديمر بوتين، عن إعلان النصر على من يصفهم بالنازيين الجدد، في يوم نصرهم على النازية وسقوط برلين وهزيمة الرايخ الرابع. ويبدو أن الانتصار الأبرز لروسيا في يومهم التاريخي لن يخلو من ذكريات المجازر ضد الأوكرانيين في ماريوبول وتحويلها إلى أرض محروقة لا تصلح للاستقرار حالياً، وفشلهم في السيطرة على مصنع أزوفستال قبل الاحتفال باستحياء، إذ لم يقتنصوا سوى نصر مزيف لم يعوض هزيمتهم الفاضحة. التغني بماضي الاتحاد السوفييتي في لحظة حرب معاصرة ربما يعتبره كثيرون نقطة الفصل في معرفة حجم الهزيمة التي منيت بها روسيا حتى الوقت الراهن.
لم يأت الخطاب الذي استمر 12 دقيقة فحسب على ذكر إعلان النصر أو التعبئة الشعبية ولا التهديد بالنووي، ولم يبد أي إشارات إلى أي تغيرات في أخطر وأعمق أزمة للسياسات الخارجية الروسية وما تؤديه من انعكاسات داخلية وامتداد على أغلب الدول. تقف أربعة عوامل منع وراء ذلك، أولها: فقدان مزيد من القتلى ضمن صفوف القوات الروسية ونسبة ضخمة من المعدات المعطوبة والسلاح الثقيل المدمر، وثانيها: الرغبة في عدم استفزاز الأوروبيين والأميركيين في إعلان نصره على أوكرانيا، وثالثها: الابتعاد عن إعلان النصر أو الحرب، كي لا يجيب عن الأسئلة الأكثر أهمية: ماذا حصل طوال الأيام الماضية إذاً؟ هل العمليات الخاصة ضد كييف انتهت أم لم تكن قد بدأت بعد؟ وهذا ما سيعني اعترافات بالهزيمة، رابعها: الرغبة في إظهار الخطاب شكلاً راقيا جداً للاتزان السياسي، باحثاً عن أيَّ فرصة لإسقاط العقوبات الغربية والأميركية على بلاده، وهو الساعي إلى مزيد من المكاسب في جمهوريات آسيا الوسطى والقوقاز ومنطقة البلقان.
ويبدو أن روسيا استشعرت، ولو أخيرا، حجم الخراب الذي أصابها والعالم كله اقتصادياً وأمنياً بسبب الحرب. أمام هذه اللوحة، وجد الرئيس الروسي ضالته بالتوجه صوب الخطاب الشعبوي، مستحضراً سرديته حول حماية الأمن القومي والأمة والوطن الروسي، والمقارنة بين حربه اليوم ومجريات الحرب العالمية الثانية وتشبيهه الأحداث آنذاك باستعدادات أوروبية لحرب ضد الشعب الروسي. وأن روسيا طرف مظلوم ومُعتدى عليه، وهو ما يستلزم استنهاض همم الروس عبر أبرز شعارين يُستخدمان في الحروب، حيث التركيز على المواجهة القومية، وإظهار المبالغة في الاعتداء على القيم الروسية التي يسعى الغرب وحلف الناتو إلى القضاء عليها، لتبدو هذه الحرب كأنها استعداد للدفاع عن نموذج اجتماعي قومي أخلاقي، في ظل وجود عدو خارجي يسعى إلى النيل من التشبيك الاجتماعي – القيمي الروسي، وهذه كلها أكثر أهمية وتأثيراً في الداخل الروسي. وهذا النوع من الخطاب بحاجة إلى “فلسفة المكان القومي”، حيث لم يغب عن الخطاب إظهار ما لدونباس من أهمية استراتيجية قومية روسية. لذا من المحتمل أن يدفع نجاح القوات الروسية في السيطرة على شرق أوكرانيا إلى إعلانها النصر والتوقف عن الحرب.
أما زيلنسكي الذي تتأرجح التقييمات بشأن دوره وشخصيته ما بين الذي لم يرضخ للغلو والغطرسة الروسية، وما بين الذي قاد بلاده إلى الدمار، حيث لا طاقة لقوته العسكرية في مواجهة روسيا من دون سلاح الناتو، هو الآخر أثبت حنكته السياسية عبر خطابه في يوم النصر والذي فند وأعاد الكرة للملعب الروسي عبر تركيزه على فقدان أوكرانيا لأكثر من ثمانية ملايين شخص خلال الحرب العالمية الثانية، وأن الشعب لن يدعم هذه الأيديولوجيا، بل إن وثبة الواثق من النصر المؤزر بدت في خطابه المسجل عبر رسالة تحدٍ وثقة بالنصر “قريبا جدا سيكون هناك يومان للنصر في أوكرانيا. ولن يكون لدى شخص ما أي شيء” في إشارة واضحة إلى بوتين.
في المقابل، تتصرف أميركا ودول الاتحاد الأوروبي وكأن روسيا تتجرّع هزيمة نكراء قاسية، تمنعها من فرض أي شروطٍ للتسوية أو المصالحة، فوزراء خارجية ودفاع ومسؤولين وقيادات وازنة ومعتبرة من الصف الأول لدول الاتحاد الأوروبي وبريطانيا وواشنطن يتجوّلون في شوارع كييف؛ كرسائل دعم واضحة. ويبدو أن تحصيل 2.6 مليار دولار من الدعم الأميركي والمزيد وكثير من التغير الملحوظ في العتاد العسكري من الأوروبيين للدفاعات الأوكرانية، تعتبر تغيرات ملحوظة في خطاب قادة دول “الناتو” تجاه أول وأخطر حرب من هذا النوع تشهدها القارة الأوروبية منذ الحرب العالمية الثانية، لتدخل ضمن خانة أن فوز كييف على موسكو من الخيارات الاستراتيجية لحلف الناتو.
وفي مقاربة خطاب بوتين الذي قال إن بعض أهداف العملية العسكرية تحقق، وإن روسيا دافعت عن أراضيها بوجه خطر غزو قادم، وأن كييف ودول “الناتو” كانوا يتحينون الفرصة المناسبة للانقضاض على أراضيها التاريخية، خلافِاً لأقواله السابقة حول حاجة روسيا إلى القليل جداً من الوقت للقضاء على عيش الأوكرانيين بسلام، وإنهاء العملية العسكرية في أوكرانيا، فإذا كانت الحسابات العسكرية لموسكو لا تحتاج سوى بضعة أيام للزحف صوب كييف، فكيف لدولةٍ تسعى إلى ثنائية أقطاب العالم أن تخطئ في حساب التوازنات العسكرية وموازين القوة والفوز والخسارة، ثم يلجأ رئيسها إلى شعبوية الحديث الرسمي لمخاطبة المواطن الروسي، والتذكير بأن سبب مشاركة المقاتلين الدونباسيين إنما من أجل وطنهم الأم.
يبدو أن الشعبوية مستمرّة في خداع عقل المستمع، فبعد عقود من انتهاء الحربين العالميتين والحرب الباردة، عادت قضية تأكيد سيرورة اللامنطق وعقل الإلغاء، وهو يذكّر بما جرى في سورية من قتل ونفي وتشريد، وتدمير للبنية التحتية التي تحتاج عقودا للترميم، وصدام حسين الذي سحق الكرد والشيعة ونكّل بهم، وعاث الحوثيون فساداً في اليمن وأعادوها عقوداً عديدة إلى الخلف، وإيران تتحكم بجملة من العواصم العربية، وتركيا تسيطر على شمال غرب وأجزاء من شمال شرق سورية، وبعض الإسلام السياسي مستعد لفعل أي شيء، بما فيه إراقة الدماء. يفعل كل هؤلاء كل المحظورات والمجازر والكوارث باسم أمنهم القومي، حيث لا قوميات نالت حقوقها، ولا شعوب استراحت من هوس أنظمتها وتعطشها للتمدّد والتوسع، ولا أمن قوميا أو وطنيا في تلك الدول، ويبقى الشعار الأبرز المرفوع في وجه الشعوب لقمعها أو لتبرير كوارث الخيارات الخارجية وكسلاح فتاك في وجه رغبة العيش الكريم، “حماية الأمن القومي”.
المصدر: العربي الجديد