ما تكاد تهدأ الأمور بين أنقرة وواشنطن في ملفات خلافية ثنائية وإقليمية كثيرة لا تعد ولا تحصى، وما إن تبرز بوادر أمل وتفاؤل حول احتمال حدوث اختراقات وانفراجة جديدة في العلاقات بين البلدين، حتى تنفجر الأوضاع مجدداً وتعود الأمور إلى ما كانت عليه من تباعد وتأزم. الحرب في أوكرانيا كانت فرصة للانفتاح والتعاون بين تركيا وأميركا. تبعها الكثير من اللقاءات السياسية والعسكرية التي واكبها تصريحات ومواقف إيجابية وتفاهمات حول ضرورات التهدئة ومتطلبات الشراكة، لكن خطوة أميركية واحدة قبل أيام كانت كافية بإشعال الجبهات مرة أخرى بين الطرفين.
قال الرئيس التركي رجب طيب أردوغان وهو يعقب على قرار وزارة الخزانة الأميركية بإصدار تراخيص تسمح بتمويل مشاريع اقتصادية واستثمارات أجنبية في مناطق تسيطر عليها “قوات سوريا الديمقراطية” في شمال شرقي سوريا، إنه لا يمكن قبول مثل هذا القرار الخاطىء وإننا سنقوم بما ينبغي للقضاء على التنظيمات الإرهابية دون التوقف عند الجهات التي تديرها أو تدعمها. ما قاله وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو أيضاً لا يمكن تجاهله “هي خطوة أميركية من جانب واحد ومحاولة لمنح هذه المجموعات المرتبطة بحزب العمال المزيد من المشروعية”.
اللافت أولا هو مكان الإعلان عن هذا القرار الأميركي حيث اجتماع دولي في مراكش لبحث خطط الحرب على “تنظيم الدولة”، وحيث تستغل واشنطن الفرصة لتجديد تمسكها بقسد ومسد ورقتها الوحيدة في الملف السوري. واللافت ثانياً هو توقيت الإعلان عن مثل هذه الخطوة حيث كان الحديث يجري عن تفاهمات أميركية تركية بشأن تزويد أنقرة بصفقة مقاتلات جديدة من طراز إف 16 وترميم وتحديث العشرات من هذه الطائرات كخطوة حسن نية تمهد لحلحلة في ملف صواريخ إس 400 الروسية التي اشترتها تركيا وتحولت إلى نقطة خلاف وتوتر أثر في بقية الملفات في علاقات البلدين.
حسبنا للوهلة الأولى أن القرار الأميركي هدية من إدارة بايدن على طريق تصحيح المسار عبر إلزام “قسد” بالتخلي عن تمسكها بفكر وطروحات وخطط حزب العمال الكردستاني، ودفعها لقبول وتبني ما تقوله وتريده تركيا في خطط أمنها القومي الحدودي في شرقي الفرات وإبعاد حليفها عن الحدود التركية لنحو 30 كلم استجابة للطلب التركي تمهيداً لفتح الطريق أمام المطلب التركي القديم الجديد في تفعيل خطة المنطقة الآمنة على طول الشريط الحدودي مع سوريا خصوصاً وأن أنقرة أعلنت عن استعداداتها لتسهيل عودة مليون لاجئ سوري إلى أراضيهم في إدلب وجوارها وفي إطار خطة إنمائية إنسانية سياسية متعددة الأهداف والجوانب. فتقدم واشنطن على خطوة تعيد العلاقات مع تركيا إلى خط البداية غير عابئة بما قد تقوله وتفعله أنقرة. قيادات العدالة والتنمية تريد تسجيل تقدم ما في المشهد السوري وقيادات البيت الأبيض تذهب بالاتجاه الآخر الذي يعرقل الخطط والأهداف التركية في شمال سوريا
الرد التركي على الخطوة الأميركية لم يتأخر عبر رفضها والتلويح بأن الموقف الحقيقي سيكون في الميدان من خلال المزيد من العمليات العسكرية في شمالي سوريا ضد المجموعات الإرهابية تماما كما يجري اليوم في شمالي العراق. لكن حجم الغضب التركي جاء في اليوم الثالث من التريث وانتظار توضيحات من البيت الأبيض لم تحصل أنقرة عليها، حيث سارع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان لإعلان تحفظ بلاده على انضمام السويد وفنلندا إلى حلف شمال الأطلسي وهو الهدف الأميركي الأوروبي الجديد لقلب توازنات اللعبة في أوكرانيا وشرق أوروبا وحوض البحر الأسود. لا تقدم أنقرة على خطوة من هذا النوع ووسط هذه الظروف لإرضاء موسكو التي ترفض توسع الأطلسي شرقا، رغم أنَّ الموقف التركي هذا قد يتحول إلى الخشبة التي سيفرح لها الكرملين للخروج من مستنقع واشنطن الذي حفرته في الحديقة الخلفية لروسيا. وأنقرة تقول أيضا إن السبب في رفع البطاقة الحمراء هو الدعم الذي تقدمه الدول الإسكندنافية لمجموعات قسد وحزب العمال واستقبال قياداتها وكوادرها بشكل علني، فكيف تثق بدول تنسق مع مجموعات تعتبرها تركيا إرهابية ولماذا تفتح الطريق أمامها في تكتل حلف شمال الأطلسي؟ ردة الفعل التركية هي في إسكندنافيا وستكون أكبر في الاجتماع التركي الأميركي المرتقب بعد أسبوع وربما ستفجر الوضع في قمة الأطلسي المنتظرة قريبا، لكن صداها وصل إلى شرق الفرات وموسكو ودمشق وطهران أيضا.
نفذت تركيا عملية “غصن الزيتون” و”نبع السلام” ضد مجموعات “قسد” بضوء أخضر أميركي قبل 4 أعوام. واشنطن تقول العكس هذه المرة الضوء الأخضر هو لحليفها الكردي في سوريا، فما الذي دفع الإدارة الأميركية لإغضاب أنقرة على هذا النحو وهي في أمسّ الحاجة إلى حليف يوجد اليوم في قلب كل حساباتها ومعادلاتها الإقليمية؟
تقول واشنطن إنه لا نوايا لديها لرفع العقوبات عن نظام الأسد، قبل حدوث تقدم لا رجوع فيه نحو حل سياسي في سوريا. لكنها تقول أيضا إن هدف هذه الخطوة هو مساعدة منطقة كانت تخضع في السابق لسيطرة تنظيم “الدولة” في إطار استراتيجية ضمان هزيمة داعش. ترد أنقرة: مع من ناقشتم مثل هذا القرار قبل الإعلان عنه وأنتم تدركون حساسية الملف وخطورة مشروع “قسد” في سوريا؟
وصف الإعلام التركي القرار الأميركي الأخير في شرقي الفرات بالفضيحة. يلخص هذا خطورة ما يجري بالنسبة لتركيا وهو الرد المختصر على تسريبات دبلوماسية أميركية تقول إنَّ أنقرة لن تعارض الترخيص لشركات أجنبية تعمل في إطار عشرات المشاريع بملايين الدولارات لإحياء مناطق نفوذ قسد اقتصادياً وإنمائياً وتعزيز فرص استقلالها السياسي والأمني عن الجغرافيا السورية، بينما هي كانت تنتظر من واشنطن أن تدعمها في خطة إعادة اللاجئين السوريين إلى أراضيهم، وتقديم التمويل المادي لإعمار مناطق شمال غربي سوريا.
الإجماع هو شرط أساسي داخل منظومة الأطلسي لقبول أعضاء جدد. أنقرة تملك إذا ورقة الفيتو وهي لن تتردد في لعبها ضد الجميع مهما كان الثمن لعرقلة انضمام السويد وفنلندا الهدف الاستراتيجي الأميركي الأول اليوم في المواجهة مع روسيا. فما الذي يدفع البيت الأبيض لاتخاذ قرار تحريك أحجار شرقي سوريا؟ عملية عسكرية تركية مرتقبة لا مفر منها ضد “قسد” ومجموعات حزب العمال التي تستهدف المواقع التركية بين الحين والآخر؟ شعور واشنطن أن ورقة داعش لم تعد تعمل في سوريا والعراق وأنها ستسقط من يدها قريبا لأنها استنزفت إقليميا ودوليا؟ تحرك تركي جديد في الملف السوري بالتنسيق مع موسكو لا يمكن فصله عن خطة إعادة مئات الآلاف من اللاجئين إلى شمالي سوريا وهو ما سيشمل مناطق نفوذ قسد أيضاً شئنا أم أبينا. فهل اكتشفت واشنطن وجود خطة تركية روسية إيرانية بالتفاهم مع النظام ومدعومة من قبل بعض العواصم العربية نحو حلحلة أكبر في الملف السوري ستكون على حساب مصالحها ومصالح حليفها وحصتهما هناك؟
تكويع تركي أميركي يومي في مسار العلاقات الثنائية والإقليمية. واشنطن منزعجة من مواقف أنقرة التي لا تعطيها ما تريده في الملف الأوكراني حيث تواصل تركيا إعلان تمايزها وحياديتها وتمسكها بعلاقاتها الاقتصادية والسياسية مع روسيا، وتركيا ترى أن واشنطن هي من يعرقل جهود الوساطة التي تبذلها على خط موسكو – كييف خصوصاً بعد فرضها لدور الأمين العام للأمم المتحدة أمام أية طاولة حوار في الأزمة الأوكرانية ودعمها خطط سحب البساط من تحت قدم أنقرة وتضييق الخناق على تحركاتها الهادفة لحماية مصالحها مع طرفي النزاع.
المصدر: موقع تلفزيون سوريا