يعيش اللاجئون السوريون في تركيا حالة من الترقب والقلق، بعد أن أصبحوا مادة رائجة في مزايدات البازار السياسي، الذي افتتحته الأحزاب والقوى السياسية التركية مع اقتراب موعد إجراء الانتخابات العامة، المزمع إجراؤها في 23 يونيو/ حزيران 2023، بعد أن أصبحت مسألة اللجوء السوري مادّة للحديث اليومي في مختلف الأوساط السياسية والاجتماعية والثقافية، والشغل الشاغل لعديد من وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي، والموضوع البارز في خطابات (وحملات) معظم قادة أحزاب المعارضة التركية، الذين طالبوا، في أكثر من مناسبة، بترحيل اللاجئين السوريين إلى بلادهم، وذلك بعدما حمّلوهم مسؤولية أزمات تركيا الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، بل ووصفهم بعض قادتها المتشدّدين بالمتسوّلين والطفيليين والهاربين من بلادهم وفاقدي الشرف.
وفي هذه الأجواء السياسية المشحونة، تزداد مخاوف اللاجئين السوريين على مستقبلهم، خصوصا مع تنفيذ السلطات التركية إجراءاتٍ تبدو في ظاهرها تنظيمية، مثل خطة “مكافحة التركيز المكاني”، التي تضمّنت وقف تسجيل الأجانب، ومن بينهم السوريون، في 16 ولاية، ووقف منح الإقامات وعدم تجديدها في أحياء ومناطق معينة، وخصوصا في مدينتي إسطنبول وأنقرة، إلى جانب القيام بإجراءات تثبيت قيود نفوس السوريين المشمولين بقانون الحماية المؤقتة، وملاحقة الذين يقيمون في ولاياتٍ غير تلك التي استخرجوا منها بطاقاتهم، حيث ترافق تنفيذ هذه الإجراءات مع عمليات ترحيل بعض المخالفين إلى الشمال السوري.
على الرغم من أن الإجراءات التركية تبدو وكأنها روتينية، غايتها ضبط أماكن وجود الأعداد الكبيرة من السوريين على الأراضي التركية، فإن توقيتها وطريقة تنفيذها يشيران إلى وجود استغلال سياسي لملف اللاجئين، من جهة سعي الحكومة التركية إلى الظهور بمظهر المتشدّد والقادر على إدارة هذا الملف، بغية سحب ورقة تداوله من المعارضة في البازار السياسي، وخصوصا أن تلك الإجراءات دفعت قسماً من السوريين، ممن ضاقت بهم سبل العيش، إلى العودة مرغمين إلى مناطق غير آمنة في سورية، فضلاً عن عمليات الترحيل التي يقوم بها بعض موظفي دائرة الهجرة، وتجري تحت مسمّى العودة الطوعية. والأهم أن تلك الإجراءات تأتي بعدما حوّلت أحزاب المعارضة، وخصوصا حزب الشعب الجمهوري ومعه الأحزاب القومية المتشدّدة، قضية اللاجئين السوريين إلى مادّة للمناكفات السياسية مع حزب العدالة والتنمية (الحاكم)، بغية تسجيل النقاط عليه في حلبة الصراع على السلطة.
وتظهر المناكفات السياسية بين الأحزاب التركية بشأن ترحيل السوريين غياب برامج انتخابية حقيقية للأحزاب التركية، كونها محمولة على حالة الاستقطاب الشديد الذي تعيشه تركيا، ويلجأ فيها السياسيون إلى تبنّي خطاب قومي شعبوي، يجري توظيفه من أجل تحقيق مكاسب سياسية. وباعتبار أن اللاجئين هم الحلقة الأضعف، ولا تجد من يدافع عنها في ائتلاف قوى الثورة والمعارضة السورية المعارض أو غيره، فإنهم من أكبر المتضرّرين منها، حيث يساهم تحويل اللاجئين السوريين إلى مادّة للدعاية الانتخابية وللمناكفات السياسية في زيادة الضغوط عليهم في الشارع التركي، والتي يجسّدها تصاعد موجات الخطاب العنصري المعادية لهم، وتجد صداها في اعتداءات ومضايقات يتعرّضون لها في مناطق عديدة يوجدون فيها، وذلك في ظل عدم وجود وضع قانوني يحميهم، ويُشعرهم بالاستقرار والتكيف مع وجودهم في تركيا.
وقد أفضى التوظيف الانتخابي لورقة اللاجئين السوريين إلى توافق سياسي تركي غير معلن بين المعارضة والحكومة، بشأن ضرورة إعادتهم إلى بلادهم، حيث كان قادة حزب العدالة والتنمية في السنوات السابقة ينتقدون تصريحات قادة أحزاب المعارضة على مواقفهم من اللاجئين، إلا أنهم باتوا يتبنّون الموقف نفسه منهم، وينطقون بخطابٍ مقارب. والأمر نفسه ينحسب على قطاعاتٍ واسعة من الشعب التركي، حيث أظهرت استطلاعات للرأي أجريت أخيرا أن نسبة كبيرة من مؤيدي حزب العدالة والتنمية وأنصاره تطالب بإعادة السوريين إلى بلادهم.
وفيما تستخدم أحزاب المعارضة، وخصوصاً التي تتبنّى أطروحات قومية متشدّدة، خطاباً تحريضياً شعبوياً، ينهض على المطالبة بترحيل السوريين وطردهم من تركيا، فإن الحزب الحاكم أيضاً بات يتحدّث عن إعادتهم “فور الانتهاء من بناء بيوت الطوب” في الشمال السوري، حسبما أعلن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، مع أنه تحدّث عن جهود قصوى تبذلها الحكومة التركية “من أجل ضمان العودة الطوعية والكريمة لأشقائنا وأخواتنا السوريين”، في محاولةٍ لإقناعهم بالعودة الطوعية المستحيلة وفق واقع الحال السوري غير الآمن.
وليس خافياً أن الحكومة التركية بدأت، منذ مدة ليست قصيرة، بمراجعة “سياسة الباب المفتوح”، التي كانت تتبعها حيال اللاجئين السوريين، وذلك على خلفية الضغوط الكبيرة التي مارستها أحزاب من المعارضة التركية، مستغلة الصعوبات الاقتصادية التي تعصف بتركيا، حيث لم يوفر أغلب مسؤوليها فرصةً إلا استهدفوا فيها اللاجئين السوريين، في إطار توظيف مسألة وجودهم سياسياً خدمة لحسابات مصالحهم وأجنداتهم الحزبية. كما لم يتوقف زعيم حزب الشعب الجمهوري كمال كلجدار أوغلو عن تكرار وعوده بإعادة اللاجئين السوريين إلى بلادهم في حال وصول حزبه إلى السلطة، وذلك ضمن خطة يزعم أنها جاهزة لديه، وتقضي “بإرسالهم إلى سورية بالطبل والزمر خلال عامين فقط، بعد فتح السفارات والتصالح مع نظام الأسد”.
وعلى الرغم من رفض جمعيات حقوقية ومدنية تركية الاستغلال السياسي لقضية اللاجئين، إلا أن أحزاباً تركية تصرّ على تجريدها من جانبها الإنساني، وإقحامها في المعترك السياسي، حيث تمكّنت المعارضة التركية من تحويلها إلى مسألةٍ وطنية، ومن استثمارها سياسياً في إطار صراعها على السلطة مع حزب العدالة والتنمية، وذلك بعدما جرّدتها من أي بعد قانوني وأخلاقي، متخلية عن أبسط القيم الإنسانية، فيما ذهب بعض مسؤوليها وقادتها إلى تسويق افتراءات وأكاذيب بشأن اللاجئين السوريين، وتحميلهم مسؤولية الفقر والبطالة وتردّي الأوضاع الاقتصادية، الأمر الذي أفضى إلى إثارة حملاتٍ معاديةٍ وكارهة لهم وتسعيرها في الشارع التركي.
لقد أقحمت مسألة الوجود السوري في مزايدات البازار السياسي لانتخابات 2023 التي تقوم بها مختلف الأحزاب التركية، في محاولةٍ منها لاستمالة الناخب التركي، واستثمار الأزمة الاقتصادية التي أفضت إلى تدهور الأوضاع المعيشية لعامة الأتراك، والزعم أن تبعاتها يتحمّلها المواطن التركي بسبب عشرات مليارات الدولارات التي صرفت على اللاجئين، وأفضت إلى استنزاف الخزينة التركية، في حين أن وزيرة الأسرة والعمل والخدمات الاجتماعية السابقة زهراء زمرد سلجوق أقرّت بأن كل المساعدات المقدّمة إلى اللاجئين السوريين مموّلة من الاتحاد الأوروبي، ولم تنفق الدولة التركية شيئاً من الموارد المالية المخصصة للمواطنين الأتراك.
ليس البازار الانتخابي المكان المناسب لحلّ قضية اللاجئين السوريين في تركيا أو في سواها من بلدان الشتات السوري، بل في إيجاد حل سياسي للقضية السورية، والذي تقع مسؤولية الوصول إليه على كل القوى المتدخلة في الشأن السوري، التي كان لها الدور الأساسي في تحويل مطالب الحرية والتغيير إلى كارثة إنسانية، أحد مظاهرها قضية اللاجئين في دول الجوار السوري وسواها، والتي لا يمكن حلها إلا في توفير بيئةٍ آمنةٍ تضمن عودتهم إلى بلادهم بسلام، ووقتها لن يكونوا في حاجة إلى الطبل والزمر الذي يعدهم به كلجدار أوغلو.
المصدر: العربي الجديد