لن نلتقي في حلب يا محمد

حسن صبرا 

إنها الذكرى السنوية الاولى لغياب صديق العمر محمد خليفة … وقد أمضى معظم سنوات حياته في غربة قسرية كان يجول فيها أقطار الدنيا شرقاً وغرباً ويزور عشقه بيروت ويقترب من حدود وطنه سورية ولا يجروء على دخولها حتى لا يصبح رقماً وهو المصمم على ان يكون انساناً.

محمد خليفة في ستوكهولم وأنا في بيروت والمسافات بينهما بآلاف الكلمترات عبدناها بالحوارات في كل أمور الدنيا والدين .. اختلفنا واتفقنا  ثم اختلفنا واتفقنا، وما جمع بيننا إلا الاحترام والصداقة والصدق ..

أقام أبو خالد في الغرب كثيراً لكن عقله وفكره وكتاباته لم تبرح الشرق لحظة … وكنت أختلف معه في ظنه أن الاوروبيين معادون للاسلام بالطبيعة أو انهم يكيدون للمسلمين … وكنت اجيبه: محمد هؤلاء غربيون يفكرون بالمنطق لذا هم بخلاء لأن احدهم يقول لك أنا أعمل واتعب، اصحو فجراً وأعود غروباً منهكاً كي احصل لقمة عيشي فلماذا اصرف من تعبي هذا كي تصفني أيها العربي انني كريم وماذا استفيد من هذه الصفة ؟ ، وأضحك وأنا أسأله: أبو خالد ! هل يمكنك العيش في أي بلد عربي كما أنت في السويد ?? ؟ هل تظن ان اوروبا هي جزء من الجزيرة العربية حتى تفرض عليها مقاييسك التي تلتهمها من التراث وقد انغمست فيه حتى الثمالة ؟

ابو خالد محمد خليفة الناصري اخذته اللوثة الدينية لكنها لم تتحكم به فظل على وعيه وعروبته … وكنت أقول له: يا محمد يا حبيبي، هل تظن أن ممارساتك وطقوسك وقراءاتك الدينية هي التي ستدخلك الجنة فيبتسم سائلاً: لكن شو ؟

وكنت اجيبه بقناعة كاملة: انها اخلاقك العالية ، انه ضميرك الحي ، انه عملك الصالح … فأنت لا تؤذي احداً ولاتنم على احد ولا تفتري وتحاول عمل الخير قدر ما تستطيع … هذه هي طريق الجنة .. وهي حسن التعامل مع مخلوقات الله اما الصلاة والصوم والعبادات فهي من خصوصياتك بينك وبين ربك ولا علاقة للناس بها ..

كان محمد قد انغمس في كتب التراث الاسلامي بغثها وهو الاعظم وثمينها وهو النادر .. وهذه كانت احدى مسائل الخلاف معه وكان يبتسم كلما واجهته بفكرة لا تتناسب مع ما قرأه من هذا التراث …وكنت اكرر له ان الفرق بيني وبينك ان مرجعي هو القرآن وهو كلام الاله اما انت فتشرك بالله لأنك تعتمد كلام فقهاء يفترون على الله في كل صفحة فيضحك واضحك ونتابع بحثاً في كل امور الدنيا .

لم نختلف في السياسة الا في ما ندر وفِي مسائل قد اجهلها انا او لم يعرفها هو .. وكانت بيروت عشقنا كما القاهرة وفلسطين وقد اخذنا سوية على المنظمات الفلسطينية ومثقفين فلسطينيين انهم انحازوا الى نظام الاسد ضد الشعب السوري وانهم لم يرتاحوا لاهتمام العالم بالقضية السورية وفي ظن بعض مثقفيهم ان الاهتمام بقضية الشعب السوري ستبعد الناس عن قضيتهم !!

وكان محمد من اوائل شباب سورية التحاقاً بمعسكرات تدريب تابعة لحركة فتح في سورية في عهد صلاح جديد عام 1967وعندما جاء الى لبنان عام 1981 حصل على جواز سفر فلسطيني …. وآخر جوازاته كانت سويدية حيث عاش واستقر ورحل بعيداً عن عشقه الاول حلب .

عاش القسم الاعظم من حياته خارج القومية الحلبية لكن لهجته منها كانت الكاسحة كأنه لم يبرحها لعشرات السنين الاطول من نصف عمره … هذا الاديب المثقف ملتهم الكتب قبل ان يطوي ظهره وعنقه الحاسوب وقد شده الى اسفل النظر تاركاً اثر احدداب في ظهره … كان خجولاً كعذراء سرقت عيناها نظرة شاب وقح ، في اعلى درجات الادب اذا قابل امرأة من دون تصنع او افتعال.

كان محمد خليفة هو البراءة نفسها والطهر نفسه .. عندما بدأ يحصل على مدخول من كتاباته سواء في الشراع او بعض كتابات خارجها ( في الحياة اللندنية ) ذهب الى قسم المساعدات الاجتماعية في ستوكهولم وقال للموظفة وهي لا تصدق ما تسمع : انا الآن اعمل في الصحافة وبات لي دخل منها فارجو حذف اسمي من قسم المساعدات لأن غيري احق بها … حاولت الموظفة شرح حاجاته والتأكد من قراره وهو مصمم على موقفه قائلاً لها انني لن آخذ مالاً ليس من حقي … فلم تملك الموظفة السويدية الا ان شكرته وهي تقول له : هذه هي الحالة الاولى التي مرت في حياتي منذ ان تسلمت عملي مع المهاجرين منذ عشرين سنة … هذا هو محمد خليفة .

انغمس محمد بالفعل الوطني السوري منذ عشر سنوات كان يصل الليل بالنهار في حوارات عبر السكايب والحاسوب والهاتف وكانت مكاتب الشراع مفتوحة امامه ليلاً نهاراً فقط عندما يكون في بيروت وكانت اقامته في الطابق الخامس للمنامة لكنه كان يحرص على زيارة الزملاء في مكاتبهم والكل يشهد له حسن الخلق وطيب المعشر وشدة الادب واللطف في المحادثة ودائمًا بلهجته الحلبية المحببة وهو يعطش الجيم ويشد على الشين حين يطلب كأساً من الشاي ( تشاي) مشروبه المفضل.

وبعد

لم ولن اوفي ابو خالد حقه …وانا اشعر في كل وقت  بشوق شديد الى حضوره وصوته والمناكفات بيننا والاختلافات والصداقة من مصدرها الصدق وهاتف بعد الغداء نتناول خلال ساعة الاحاديث التي امضيه معه سيراً في منزلي وهو احياناً يحضر طعامه بنفسه فنتوادع هو ليتناول طعامه وانا الى قيلولة بعد سير ساعة … وما انتهى الحديث مع محمد خليفة حتى الآن .

ينشر بالاشتراك بين موقع ملتقى العروبيين وموقع المدار نت

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى