“وصمة عار على ضميرنا”.. حين يتعلق الأمر بجرائم الحرب لماذا يجب على بريطانيا أن تشيح بوجهها بعيداً؟

ديفيد هيرست

لا يمكن أن يكون هناك الآن وميض من الشك في أنَّ القوات الروسية قد ارتكبت جرائم حرب جسيمة في بوتشا وإيربين وبورودينكا. ومع تحرير المزيد من المناطق حول مدينتي كييف وخاركيف الأوكرانيتين، ستظهر المزيد والمزيد من التفاصيل حول المذبحة.

فقد ألقوا الجثث في الآبار والحفر، وتركوها غير مدفونة لأسابيع، وهددوا تحت تهديد السلاح الأشخاص الذين يحاولون إنقاذ جيرانهم المدفونين تحت أنقاض القصف.

أطلقت القوات الروسية النار على قادة القرى، الذين رفضوا التعاون، وعائلاتهم. وبحسب نائب أوكراني، اغتصبوا النساء. واستخدموا المدنيين كدروع بشرية.

وعُثِر على سيارات العائلات التي حاولت الفرار، وعليها كلمة “ديتي” (أطفال)، وهي مليئة بآثار طلقات نارية.

لقد عاملوا جميع السكان على أنهم “نازيون”. والأدلة من الاتصالات التي اعتُرِضت بين القادة الروس ووحداتهم وحدها قاطعة.

وادعاءات الممثل الروسي الدائم لدى الأمم المتحدة، فاسيلي نيبينزيا، بأنَّ القتلى المدنيين مزيفون، وأنَّ الجنود الأوكرانيين هم من أحضروا الجثث وألقوها في الشوارع بعد مغادرة القوات الروسية، هي ببساطة ادعاءات تفتقر للمصداقية.

وتركت الوحدات الروسية، التي لم يكن لديها وقت لإخفاء جرائمها في مقابر جماعية، أدلة كافية عليها. من الأفضل البقاء صامتاً بدلاً من جمع الكذبة تلو أخرى. وصحيح أيضاً أنَّ المكان المناسب الوحيد للحكم على جرائم من هذا النوع هو محكمة جرائم الحرب الدولية.

يستحق الهجوم الروسي على أوكرانيا أقصى درجات التدقيق القانوني الدولي.

إعاقة سير العدالة

تتكاثر دعوات مُحِقّة للمطالبة بإجراء تحقيق في وقوع جرائم حرب. لكن هناك مشكلة واحدة صغيرة.

الدول نفسها التي تطالب اليوم بتحقيق العدالة الدولية فيما يتعلق بسلوك القوات الروسية هي نفس الدول التي دأبت على تخريب وتأخير التحقيقات في جرائم الحرب الموثقة التي ارتُكِبَت باسمها.

أوكرانيا هي بالضبط السبب الذي دفع حلفاء الناتو- وتحديداً الولايات المتحدة وبريطانيا- إلى توخي الدقة في الحفاظ على إطار العدالة الدولية عندما كانت قواتها تشن حملات غزو وتفجير.

ولم يقتصر الأمر على فشلها في التحقيق الكامل في جرائمها الخاصة، بل عرقلت أيضاً نشاط هيئات مثل المحكمة الجنائية الدولية عن العمل. واستمرت عرقلة العدالة لعقود من الزمن وما زالت مستمرة حتى يومنا هذا بكل النشاط الذي يمكن حشده.

ويتمثل رأس الحربة لهجوم هذه الدول على العدالة الدولية في قرار الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب بمعاقبة المدّعي العام للمحكمة الجنائية الدولية فاتو بنسودا، وفاكيسو موشوشوكو، وهو مسؤول كبير آخر في الادعاء.

أعلن ترامب تحقيقات المحكمة الجنائية الدولية في جرائم الحرب الأمريكية في أفغانستان والجرائم الإسرائيلية في فلسطين “حالة طوارئ وطنية”. بالإضافة إلى ذلك، أعلن مايك بومبيو، وزير الخارجية آنذاك، أنَّ الولايات المتحدة فرضت قيوداً على إصدار التأشيرات لبعض الأفراد الذين لم تُكشَف أسماؤهم و”المتورطين في جهود المحكمة الجنائية الدولية للتحقيق مع الموظفين الأمريكيين”.

ورفع الرئيس الأمريكي جو بايدن العقوبات عن المحكمة الجنائية الدولية، لكن إدارته تواصل إدانة ومعارضة تحقيقها في جرائم الحرب التي ارتكبتها جميع الأطراف الإسرائيلية والفلسطينية.

وعندما أكدت المحكمة الجنائية الدولية أخيراً أنها تفتح تحقيقاً في الأعمال الإسرائيلية في فلسطين، قال وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن في بيان: “ليس للمحكمة الجنائية الدولية أية سلطة قضائية على هذه المسألة. إسرائيل ليست طرفاً في المحكمة الجنائية الدولية ولم توافق على اختصاص المحكمة، ولدينا مخاوف جدية بشأن محاولات المحكمة الجنائية الدولية ممارسة اختصاصها على الجنود الإسرائيليين”.

وأضاف البيان: “الفلسطينيون غير مؤهلين بصفتهم دولة ذات سيادة؛ وبالتالي، فهم غير مؤهلين للحصول على صفة دولة عضو في المحكمة الجنائية الدولية، أو المشاركة كدولة فيها، أو تفويض الولاية القضائية إلى المحكمة الجنائية الدولية”.

وصحيح أنَّ نبرة بلينكن كانت أقل فجاجة، وأكثر تفكيراً من نبرة وزير خارجية ترامب، مايك بومبيو، لكن السياسة لم تتغير.

غض الطرف

ناشد رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون هذا الأسبوع، بلغة روسية مشوهة، الروس مباشرةً بشأن ما يجري باسمهم في أوكرانيا. وقال جونسون إنَّ ذلك يعد خيانة لثقة كل أم “تلوّح بفخر وداعاً لابنها وهو يتجه للانضمام إلى الجيش”.

وفُهِم هذا الفيديو فهماً خاطئاً على كل المستويات.

واليوم، الدول ذاتها التي تطالب بالعدالة الدولية بشأن سلوك القوات الروسية دأبت على تخريب وتأخير التحقيقات في جرائم الحرب الموثقة التي ارتكبتها قواتها.

ويُخشَى من توجه السلطات الروسية للتجنيد الإجباري، وسيبذل الروس محاولات غير عادية لتجنبه. فعندما تأتي اللحظة التي لا مفر منها، يكون الفراق أشبه بجنازة أكثر من احتفال.

وغافلاً عن الحياة الواقعية في روسيا، أنهى جونسون حديثه بالتحذير التالي: “سيُحاسَب المسؤولون وسيتذكر التاريخ مَن غض الطرف عن مثل هذه الجرائم”.

كيف يتوقع رئيس وزراء المملكة المتحدة أن يؤخذ على محمل الجد بينما بريطانيا نفسها “غضت الطرف” مرات لا تحصى؟

والقائمة لا تنضب. فقد كافأ توني بلير جرائم الحرب التي ارتكبها بوتين في الشيشان من 1999 إلى 2003 من خلال ترتيب لقاء بين الزعيم الروسي الملطخة يداه بالدماء مع الملكة. وفي غروزني، أفرغت القوات الروسية الأقبية التي كان يحتمي فيها المدنيون بإلقاء قنابل يدوية عليها. حتى إنَّ جورج دبليو بوش جنّد حرب بوتين ضد الشيشان لتخدم حربه على الإرهاب.

وهاجمت قاذفات التحالف بقيادة الولايات المتحدة في العراق جميع السكان. وأطلقوا عليها اسم “الصدمة والرعب”. وتتراوح تقديرات الوفيات العراقية الناجمة عن ذلك الغزو من أقل من 300000 إلى أكثر من مليون. ويُقدِر مشروع تكاليف الحرب التابع لجامعة براون أنَّ ما لا يقل عن 500 ألف شخص لقوا مصرعهم في حروب الولايات المتحدة التي أعقبت 11 سبتمبر/أيلول في أفغانستان والعراق وباكستان.

وتعرضت محاولات التحقيق في مقتل وتعذيب المدنيين في أفغانستان والعراق للتقويض المستمر.

تقويض التحقيق

تخلّت المدعية العامة للمحكمة الجنائية الدولية، فاتو بنسودا، عن تحقيقها في مزاعم ارتكاب القوات البريطانية لجرائم حرب في العراق بين عامي 2003 و2008، وأشارت إلى أنه على الرغم من إجراء تحقيقات محلية لمدة 10 سنوات، لم تُوجَّه أية اتهامات ضد أي جندي “وهي النتيجة التي حرمت الضحايا من العدالة”.

ونوهت بنسودا: “حقيقة أنَّ الادعاءات التي حقّقت فيها سلطات المملكة المتحدة لم تسفر عن محاكمات لا تعني أنَّ هذه الادعاءات كانت كيدية. لكنها تعني أنَّ هيئات التحقيق المحلية لم تتمكن من تقديم أدلة كافية لإحالة القضايا إلى المحاكمة أو عدم وجود احتمال واقعي للإدانة أمام محكمة جنائية في القضايا المُحالة”.

فعلت ويكيليكس أكثر من أيِّ جهةٍ أخرى في نشر جرائم الحرب في العراق، ولا سيَّما نشر لقطات سرية من مروحية أباتشي على هجومٍ على عشرات المدنيين، بينهم صحفيان، في إحدى ضواحي بغداد. وجوليان أسانغ، الرجل المسؤول عن التسريبات، موجود الآن في سجن بلمارش في انتظار تسليمه إلى الولايات المتحدة بتهمة انتهاك قانون التجسُّس.

نظرت بريطانيا في الاتجاه الآخر عندما قُتِلَ في 14 مايو/أيَّار 2018 أكثر من 60 فلسطينياً أعزل برصاص القوات الإسرائيلية أثناء تظاهرهم بالقرب من السياج الحدودي لغزة. تُرتكب جرائم الحرب كل أسبوع تقريباً، حيث يُقتَل فلسطينيون برصاص القوات الإسرائيلية.

ووصف جونسون تحقيق المحكمة الجنائية الدولية في حرب غزة عام 2014 وبناء المستوطنات في الضفة الغربية المحتلة، وكذلك هجمات حماس الصاروخية من غزة، بأنه “هجومٌ على إسرائيل”.

شاركت بريطانيا بنشاط في ضربات الطائرات المسيَّرة لباراك أوباما. استخدمها الرئيس السابق للولايات المتحدة عشرة أضعاف ما استخدمه سلفه جورج بوش. واستهدفت 563 غارة، معظمها بطائراتٍ مسيَّرة، باكستان والصومال واليمن خلال فترتي ولاية أوباما، مقارنة بـ57 غارة في عهد بوش.

قُتل ما بين 384 و807 مدنيين في تلك الدول، وفقاً لتقارير سجَّلها مكتب الصحافة الاستقصائية.

تواصل المملكة المتحدة، أيضاً، النظر في الاتجاه الآخر في اليمن، حيث بلغ عدد القتلى المُتوقَّع بحلول نهاية عام 2021 حوالي 377 ألف قتيل. ورفضت أن تحذو حذو الولايات المتحدة في وقف مبيعات الأسلحة للسعودية.

وفقط بعد سنوات من الضغط ورسالة من 100 نائب برلماني، وافقت المملكة المتحدة على تقديم الدعم المالي للشهود في إحالة غامبيا للإبادة الجماعية للروهينغا في ميانمار إلى المحكمة الجنائية الدولية.

لكن المملكة المتحدة نفسها ليست طرفاً رسمياً في الإجراءات.

وصمة عار على ضميرنا

من بين جميع الدعوات إلى محكمة جرائم الحرب في أوكرانيا، تأتي الدعوات الأكثر فُحشاً من إسرائيل نفسها.

إنها دولةٌ مبنيةٌ على جرائم الحرب. حتى قبل قيام الدولة كانت هناك مذبحة طنطورة، ثم بعد ذلك جاءت مذبحة كفر قاسم وخان يونس وصبرا وشاتيلا، وحروب لبنان، وكلُّ عمليةٍ في غزة. تطول قائمة المجازر التي ارتكبتها القوات الإسرائيلية إلى درجة أنها تشكِّل أبجديتها الخاصة.

قبل عام واحد فقط، وصف رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق بنيامين نتنياهو تحقيق المحكمة الجنائية الدولية في جرائم الحرب الإسرائيلية بأنه “معادٍ للسامية”. واليوم، كَسَرَ وزير الخارجية يائير لابيد المحرَّمات التي تفرضها الدولة على مهاجمة روسيا باتهامها بارتكاب جرائم حرب.

وقال لبيد دون أي مفارقة مقصودة: “لقد غزت دولةٌ كبيرةٌ وقوية جارةً أصغر دون أيِّ مبرِّر. ومرة ​​أخرى، غُمِرَت الأرض بدماء المدنيين الأبرياء”.

كيف إذاً يمكن للدول الغربية الرئيسية أن تأمل في تأمين عدالة دولية فاعلة؟ هناك حاجةٌ إلى ذلك. أوكرانيا تصرخ من أجل ذلك. ما ثقل وصمة العار على ضميرنا؟ ولماذا عندما يتحدَّث الغرب عن جرائم الحرب، قلةٌ في الشرق الأوسط وآسيا وإفريقيا وأمريكا الجنوبية تستمع؟

ما الذي يعطي بريطانيا الحق في التبشير بنظامٍ عالميٍّ قائم على القواعد ضد المستبدين، في حين أن حروبها- التي شُنَّت باسم الديمقراطية والمساءلة- قد ألحقت مثل هذا الضرر الرهيب بالأبرياء؟

تحت القصف، يجد المدنيون صعوبةً في إخبارهم بأنهم يموتون من أجل قضيةٍ عادلة.

يمكن للعراقي، الذي يتحدَّث عن تجربة “الصدمة والرعب” في وطنه، أن يكون بنفس السهولة التي يتحدث بها الأوكراني عن الغزو الروسي اليوم. قال ذلك العراقي:

“أسميها حقاً حرباً قذرة لأنهم يريدون تجاوزها بسرعة. لذا فهم يستهدفون محطات المياه ومحطات الكهرباء وجميع الأشياء الأساسية للناس، وهذا ليس جيِّداً. في كلِّ مكانٍ تعيش فيه، هناك على الأقل شيء واحد مهم يُضرَب”.

يحتاج العالم إلى محكمةٍ جنائية دولية تعمل في كلِّ حرب. ولتحقيق أيِّ مصداقية، يحتاج التحقيق في جرائم الحرب إلى تقصي إجمالي عمليات القتل من الجانبين الروسي والأوكراني.

إن إرساء شبكةٍ واسعة من الإفلات من العقاب على أقوى الجيوش في العالم لهو استنكارٌ لإنشاء التحالف الوحيد المهم لتقديم أولئك الذين يخالفون قواعد الحرب إلى العدالة.

هذا الموضوع مترجم عن موقع Middle East Eye البريطاني

المصدر: عربي بوست

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى