لم يعد بالإمكان إغلاق النوافذ. النوافذ المغلقة لم تعد قادرة على مقاومة الإعصار. ستتحطم لا محالة لو أغلقت تمامًا أمام تياره الجارف. لا بد للحفاظ عليها وعلى محتويات الغرفة من فتح النافذة ولو بشكل جزئي.
الحكيم والعاقل من يسمح للتيار بالمرور، لكنه يوارب النافذة بطريقة تسمح له بالتحكم في مسار الريح داخل غرفته ومكان خروجها من الغرفة ويرتب الأثاث المهم بعيدًا عن عبث الريح ومسارها. الأكثر ذكاء من يتمكن الإفادة من هذا التيار في تجديد هواء غرفته وطرد رائحة العفن الموجودة في زواياها والسماح للنور بالدخول إلى الغرفة مع الريح.
تتعرض هويتنا وثقافتنا ومجتمعاتنا اليوم( كما العديد من الأمم الأخرى) إلى أعاصير ثقافية وسياسية واقتصادية تحت تأثير موجة العولمة التي تكاد تجتاح الكرة الأرضية، سواء على مستوى الفرد أو المجتمع والأمة.
تقدم العالم الغربي وسبقنا بأشواط في مجال العلم والتكنولوجيا والصناعة والسياسة والقوة العسكرية ولهذا أسباب موضوعية تتحمل الجزء الأكبر منها الطبقة السياسية التي تحكم معظم بلداننا، لكن هذا العالم المتخم بالأرقام والحسابات والمعادلات والمغرور بالإنجازات العلمية والتقنية دهس في طريق تقدمه روح الإنسان وفطرته وإحساسه بذاته. لقد حولت العولمة بمضمونها الثقافي الغربي الإنسان إلى رقم أو معادلة يتم التعامل معها وفقًا لمبدأ الربح والخسارة تمامًا مثل التعامل مع أي بضاعة أو آلة، الأمر الذي أحدث في داخل الكثير من الغربيين عطشًا حقيقيًا لمنظومة أخلاقية تعيد للإنسان قيمته وإحساسه بذاته دون أن تثنيه عن التطور والتقدم العلمي والسيطرة على الطبيعة، ولا يمكن أن يتحقق ذلك إلا بوجود المنهج المتكامل الذي يحقق التوازن بين متطلبات الجسد والروح. منهج ينظر بعين نحو القلب والنفس ومكنونات الإنسان من المشاعر والأحاسيس وبالعين الثانية نحو الكون والطبيعة والمعادلات والسياسة والأبحاث والعلوم.
رغم حالة الترهل السياسي والعسكري والاقتصادي الذي تعيشه معظم بلداننا فإننا ما زلنا نستحوذ على المنظومة الأهم التي تضيف عمقًا أخلاقيًا لكل فعاليات الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وتعيد للعلاقات الإنسانية دفئها فلا يعود الأب عالة على ابنه عند الكبر، ولا يعود العامل مجرد آلة يتم الاستغناء عنها عندما تتعب أو تعجز، ولا الصديق مجرد حساب بنكي يتم استبعاده عندما يقل رصيده.
في ظل العولمة، التأثير حاصل لا محالة، والإغلاق الكامل مستحيل. ولا خوف من موجة العولمة إذا استطعنا تحقيق معادلة التأثير المتبادل. فالإسلام دين عالمي.لا يقبل الانغلاق والهروب من الواقع. يقول الله عز وجل: ” يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبًا وقبائل لتعارفوا “. ليس المطلوب إذاً التقوقع والانكفاء على الذات أمام هذه الموجة، وإنما التحكم ما أمكن بمسار الريح داخل بيوتنا( بمعنى تحديد الجزء الثابت في خصوصياتنا والمحافظة عليه بعيدًا عن العبث والتغيير) وامتلاك الأدوات اللازمة لتحقيق التأثير المتبادل ( بمعنى أن تكون لنا ريحنا التي تطرق نوافذهم) .
نحن مطالبون أولًا أن نفهم ديننا كما هو: منهج حياة متكامل جوهره أخلاقي وهدفه الإنسان، أي إنسان دون اعتبار اللون أو الجنس أو العرق أساسًا للتمييز، لا تعارض فيه بين الأخلاق والعلم أو السياسة أو الاقتصاد، إذ يحض الإسلام على الخوض في كل المجالات التي تسهل على الإنسان حياته وتساعده في تحقيق إنجازاته وتطوير مجتمعه بشرط أن لا يكون ذلك على حساب كرامة الإنسان وفطرته. لا بأس إذاً من السعي لامتلاك أدوات التأثير في زمن العولمة( علم. تكنولوجيا. لغة عالمية. وسائل الإعلام الحديثة. الخ) ، مع التذكر دائمًا أنها ليست أكثر من أداوت لتحقيق الطمأنينة والهدوء والراحة النفسية للإنسان. راحة باطنه كما ظاهره. هدوء روحه كما تعافي جسده.
لقد نجح الغرب بفرض نموذجه التقني والثقافي العَلماني على العالم فكسب العالم مزيدًا من الرفاهية والسرعة وخسر اللمسة الإنسانية في علاقاته الاجتماعية والمهنية. ونحن أمة صهرت في أعماقها خلاصة حضارات الشرق والغرب وأنتجت بعد ذلك أرقى ما وصلت إليه البشرية من مفرزات الحضارة الإنسانية الفاعلة، وعلينا أن ننجح في إهداء العالم نموذجنا القيمي الإنساني لكي تسترد المجتمعات البشرية ملامحها الأخلاقية التي تميزها عن غيرها من الكائنات .
أن نفتح نافذتنا لا يعني أن نفقد خصوصياتنا وننسلخ عن هويتنا، وإنما يعني أن ننطلق إلى العالمية محملين بأكمل منهج وأرقى رسالة.
في عصر العولمة لا بد أن تكون لنا ريحنا. وهي – إن أحسنا توجيهها – ستكون أوكسجين الحياة لقلوبهم الباردة ونفوسهم المريضة وأرواحهم المنهكة.
المصدر: اشراق