أحد عشر عاماً منذ اندلاع الثورة السورية، حملت الكثير من المحطات المفصلية في مسيرة المعارضة السياسية التي كان يفترض أن تمثل الثائرين في مواجهة عصابات الأسد أمام المجتمع الدولي والحاضنة الشعبية للثورة، تمر هذه الذكرى مع زيارة ما يسمى الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة للجامعة العربية للمطالبة باستعادة المقعد المخصص لسورية، هذا المقعد الذي سبق أن منح لرئيس الائتلاف في عام 2013 لمرة يتيمة. وتتوافق هذه الذكرى مع دعوات لعودة نظام عصابات الأسد إلى صفوف الجامعة العربية، كما يتوافق ذلك مع الحديث بأنه ومع نهاية عام 2021، فإن نظام عصابات الأسد في طريقه للعودة إلى المسرح العالمي. ويفسر ذلك ليس بتغير الظروف التي أدت إلى نبذ حكم عصابات الأسد، وإنما الرغبة في الاستقرار الإقليمي التي تبدو أقوى من المخاوف بشأن استمرارية حكم عصابات الأسد أو انتهاكاته الجماعية لحقوق الإنسان.
وإن كان ذلك لا يفتح مجال الحديث عن انتصار عصابات الأسد في الحرب المفتوحة على الشعب السوري المطالب بالحرية والتغيير الديمقراطي، إنما يوجب تسلّيط الضوء على مسيرة الفشل التي سارت بها المعارضة السورية، وفشل المعارضة في قيادة هذه الثورة والعبور بها لأهدافها المرجوة في إحداث التغيير الديمقراطي، حيث فشلت المعارضة -على الأقل- في تسويق نفسها كطرف ينبذ الاستبداد ويسعى للديمقراطية ودولة المؤسسات، إذ مارست الاستبداد والتفرّد بالرأي ضمن صفوفها، وهو ما ولّد انشقاقات زادت من شرذمتها وخروجها عن الخط الوطني.
وإن كان ممثلي للثورة لم يقدّموا مشروعاً حقيقياً لسورية ما بعد عصابات الأسد، وهو ما لا تقبله السياسة الدولية التي تُبنى المواقف فيها بالاستناد إلى التزامات واضحة، مقنعة وموضوعية، ولعل ما ناله الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة من اعتراف الكثير من الدول به كممثل شرعي ووحيد للشعب السوري، مثّل بالون اختبار لهذه المعارضة، لدراسة سلوكياتها على ضوئه قبل تنفيذها لمترتباته القانونية من طرد البعثات الدبلوماسية لعصابات الأسد وتسليم مقارّها للمعارضة، فالدول تبني مواقفها بالتدرّج التصاعدي غالباً، إلا أنّ فشل المعارضة بالاختبار أبقى الاعتراف المذكور معلّقاً في الهواء.
وإن كان انتقال بعض الثوار للعمل المسلح في بداية الثورة لحماية المدنيين من بطش عصابات الأسد، إلا أنه تحول لاحقاً إلى خياراً جعل الفصائل المسلحة التي انتشرت كالفطر في مناطق الثورة، تنزلق لمواجهة الدولة بدل مواجهة السلطة، مما أدخل الثورة في دوامة تتجاوز إمكانياتها المادية والتقنية، ومع بروز داعش ونشأة التحالف الدولي لمحاربتها وإحجام فصائل الثورة عن الانضواء تحت مظلة التحالف كقوات رديفة على الأرض ومحاربة داعش، تم دفن آخر آمال الثورة في الاستمرار.
وإن كانت عصابات الأسد تعاني حالياً من التفكك، وخاصة بعد تعاظم الدورين الروسي والإيراني، في تقرير شكل السلطة، وكيفية إدارة شؤون سورية. إلا أن روسيا حاولت على مدى السنواتٍ الأخيرة، تعويمه، واخترعت له مساري الآستانة وسوتشي وصفقات مناطق خفض التصعيد، ولاحقاً اللجنة الدستورية. ونحن نعتبر أن ضعف دور المعارضة، وترهلها، ورداءة ممارساتها، هي من يعطي القوةً للنظام، فيظهر وكأنّه هو الشرعي. حيث أن فشل قوى الثورة في تقديم النموذج الوطني الديمقراطي المستقل من خلال إدارة المناطق الخارجة عن سيطرة عصابات الأسد، إذ أن حياة الناس في تلك المناطق عرضةٌ لكل أشكال الفوضى، بما فيها القتل والاعتقال العشوائي والنهب. وبالتالي فقوة عصابات الأسد عملياً تتأتى من رداءة سياسات المعارضة، ومن الخلاف العميق في السياسات الدولية والإقليمية إزاء مصيره، وكيفية إيجاد بديل عنه.
وإن كانت الثورة السورية قد جاءت تتويجاً لربيع عربي، حيث أثبتت هذه الشعوب حيويةً أوشكنا أن نشكّ فيها، وخرجت في وجه أشد أنواع الأنظمة السياسية بطشاً، إلا أننا يجب أن نعترف بالوقت ذاته بأن هذه الثورات جميعها كانت يتيمةً فكرياً، ويعتبر هذا المسؤول الأول عن اليتم السياسي، أي غياب تمثيل سياسي يستطيع ترجمة طاقة الثورة إلى قوة تغييرٍ سياسيٍّ تحرّري ومدرك لمقاصده. فالفجوة الكبيرة التي ظهرت جلية في هذا الربيع، هو اختصار المهمات الشاقة التي تحتاج عملاً معرفياً وميدانياً دؤوباً وتراكمياً، تبتعد عن الحلولٍ السحرية، تلك الحلول التي تختصر والتي تقزم الأمر في الاستيلاء على السلطة السياسية، فمثل هذه الوصفات يمكن أن تحشد، وأن تحرّك، قطاعات واسعة من الناس، ولكنها لا يمكن أن تقود جمهورها إلا إلى مزيدٍ من الإحباط والتشتت، وهذا ما أوصلتنا إليه الفصائلية في الثورة السورية.
ويبرز السؤال حول الأفق المستقبلي لمن تبقى قابضاً على جمر الثورة، هل مازال هناك أمل، إن هذا السؤال يتطلب عدة إجابات، تبدأ بمدى الثقة المتبقية لدى القطاع الأوسع من الحاضنة الشعبية للثورة بأي نوع من الأعمال والمبادرات السياسية، ثم تنطلق إلى ماهية الأهداف التي يؤمن بها من تبقى ممسكاً بزمام الفعل في العمل الثوري، فهل هم جميعاً مؤمنون ببناء دولة وطنية ديمقراطية تحتضن السوريين جميعهم. والنقطة الأهم هي التوق للحياة الطبيعية وهي التي تدور في أذهان الناس العاديين، في مناطق سورية كلها، تلك التي تتمحور حول التوق إلى حياة طبيعية مثل سائر البشر؛ هذه النقاط يجب أن تكون الشغل الشاغل للنخبة الثورية في الحد الأدنى، فحتى عندما يكونون عاجزين عن الفعل الواقعي، أن يرسموا طريقاً، أن يضعوا البشر في صورة ما يجري، وفي صورة احتمالات وسيناريوهات المستقبل. فإن كانت سورية تعيش اليوم أكثر حالات مسارات تاريخها تراجيدية، فتبقى النخبة الثورية هي الأقدر على قيادة أي فعل سياسي تاريخي.
ربما يتفق قطاع واسع من حاضنة الثورة السورية على أن ثورتهم قد مُنيت بإحباطات كثيرة تتجلّى في المستويين السياسي والميداني العسكري، فضلاً عن التداعيات الاجتماعية والحياتية السلبية عليهم، والمتمثلة بالممارسات التي تسلكها سلطات الأمر الواقع جميعها على الأرض السورية. إلا أننا في هذه اللحظات في أمس الحاجة إلى بلورة نخبة ثورية تستطيع أخذ المبادرة في حيازة قرارها المستقل وإعادة صياغة الممكنات للخروج من حالة الاستعصاء، وتقديم بارقة أمل بأقل ما يمكن من خسائر، ما تبقى من نفس وجهد للحاضنة الشعبية للثورة التي أنهكتها خيبات الأمل.
المصدر: اشراق