برزت من جديد، مع الغزو الروسي لأوكرانيا، قضية استقدام مقاتلين أجانب ومرتزقة للانخراط في المعارك، سواء إلى جانب أوكرانيا أم جانب روسيا، بوصفها قضية خطيرة، تسهم في تحويل أوكرانيا إلى مسرحٍ لحرب هجينة، ومرتع لتنامي (وصعود) أيديولوجيات متطرّفة، وتترتب عليها تداعيات كثيرة، وعلى مختلف الصعد، القانونية والأمنية والإنسانية، وذلك مع توافد آلاف المتطوّعين من دول أوروبية وسواها إلى أوكرانيا للقتال ضد القوات الروسية، وانخراط مقاتلين من الشيشان في القتال إلى جانب القوات الروسية في أوكرانيا، فضلاً عن انخراط مرتزقة “فاغنر” التي تأسّست في عام 2014 لدعم الانفصاليين الموالين لروسيا في إقليم دونباس، وعن سعي موسكو إلى تجنيد مرتزقة آخرين من سورية ودول أخرى للقتال إلى جانب قواتها.
وكما درجت العادة، فإن الحقيقة، مع شحّ المعلومات الدقيقة، تصبح من أولى ضحايا الحرب، بالنظر إلى حجم البروباغندا الروسية والأخرى الغربية، اللتين تصاحبان الحرب الحالية، حيث تُخاض معارك إعلامية شرسة إلى جانب المعارك المحتدمة في ميادين القتال، بوصفها جزءاً هاماً منها ومكملاً لها، وتستخدم فيها كل الأدوات والوسائل والتطبيقات الممكنة، وتوظف جميعها من أجل مزج الحقائق بالافتراءات وتسويق الروايات والسرديات.
ومنذ الأيام الأولى للغزو الروسي، أفادت تقارير إعلامية باستقدام الطرفين، الروسي والأوكراني (ومعه دول الغرب)، مرتزقة ومقاتلين أجانب للمشاركة في الحرب على طرفي جبهة القتال، لكنّ الأمر تعدّى ذلك ليصل إلى درجة أنّ وزارتي الدفاع والخارجية الروسيتين ساقتا اتهامات للولايات المتحدة ودول الغرب بإرسال “جهاديين من ذوي الخبرة في القتال” إلى أوكرانيا، وأنّها تدرّب عناصر من تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) في سورية، تمهيداً لنقلهم إلى أوكرانيا للقتال ضد القوات الروسية، في حين أنّ الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، أخبر الرئيس الألماني، فرانك فالتر شتاينماير، أنّ السلطات الروسية تسجّل، بشكل متزايد، ظهور مرتزقة من بلدان عديدة، بما فيها من ألبانيا وكرواتيا، ومقاتلين من كوسوفو، وحتى جهاديين ذوي خبرة بالعمليات العسكرية في سورية.
وفيما ينكر الطرف الروسي استقدام مقاتلين أجانب أو مرتزقة في حربه على أوكرانيا، على الرغم من وجود عناصر مرتزقة “فاغنر” ومقاتلين شيشان في ميادين القتال إلى جانبه، إلّا أنّه كان لافتاً تأكيد وزير الدفاع الروسي، سيرغي شويغو، بأنّ أكثر من 16 ألف متطوّع من الشرق الأوسط مستعدون للمجيء إلى أوكرانيا، وتقديم الدعم لدونيتسك ولوغانسك، وهو عدد المتطوعين الأجانب نفسه الذي سبق وأن أعلنه الرئيس الأوكراني، فولوديمير زيلينسكي، عن الذين “سيدافعون عن حرية أوكرانيا وشعبها”، والقتال ضمن ما يعرف بـ “الفيلق الدولي” ضد القوات الروسية، فضلاً عن ورود معلوماتٍ بتجنيد مرتزقة محترفين من شركات أمنية خاصة للقتال في صفوف طرفي الحرب.
ويجادل مسؤولون أوكرانيون بأن هدف التطوّع في الفيلق الدولي السماح للتعبير عن التضامن العالمي ضد الغزو الروسي، لكن هذا التضامن المطلوب، والواسع عالمياً، يجب ألا يوظف من تبرير وقبول فكرة إشراك مقاتلين أجانب في الحروب، كونها غير مقبولة في القانون الدولي، وتترتب عليها تداعيات كثيرة، والأنكى أن تلقى هذه القضية قبولاً، بل تأييداً، لدى بعض ساسة الدول الغربية، وخصوصا في بريطانيا والدنمارك وسواهما، إذ أيدت وزيرة الخارجية البريطانية، ليز تراس، مشاركة المواطنين البريطانيين في “تحرير أوكرانيا والدفاع عن أوروبا، وتكبيد الرئيس الروسي ثمناً باهظاً” فيما اعترض عليها قائد هيئة أركان الجيوش البريطانية، الأميرال سير توني رداكين، واعتبرها غير قانونية وغير مفيدة، لكن ذلك لم يمنع مغادرة متطوّعين بريطانيين بالفعل إلى أوكرانيا. أما المسؤولون في الدنمارك فأنكروا وجود أي قيود قانونية تحول دون التطوّع لنصرة الشعب الأوكراني، وجرى تسويق الأمر ذاته في كندا، بينما اعتقلت فرنسا أوكرانيين في الفيلق الأجنبي التابع للجيش الفرنسي، كانوا يرغبون في الذهاب إلى بلدهم للدفاع عنها، بسبب أن فرنسا ليست في مواجهة مع روسيا.
والمشكلة أنّ مسألة تجنيد المرتزقة في الحروب وتوافد المقاتلين الأجانب ليست جديدة، لكنّ الجديد أنّ ساسة بعض دول الغرب يحاولون تسويقها عبر حالة التضامن مع الشعب الأوكراني، فيما يكشف واقع الحال أنّ دولهم تريد التغطية على عجزها ورفضها إرسال قوات نظامية لدعم أوكرانيا بشكل مباشر، خوفاً من إشعال حرب أكبر. لذلك تميل إلى البراغماتية في التعامل مع المقاتلين الأجانب، بالرغم من المخاطر التي تترتب على ما بعد انتقال الخبرات العسكرية إليهم، وذلك في ظل تنامي النزعات والنعرات القومية المتطرّفة في معظم الدول الغربية، والتي تُفضي إلى تقوية ظواهر الإرهاب الداخلي في تلك الدول، وقد بدأت جماعات فاشية ونازية باستغلال الحرب في أوكرانيا من أجل جذب مزيد من الأنصار في صفوفها، واكتساب أفرادها خبراتٍ قتالية من خلال القتال إلى أحد جانبي الحرب.
وبصرف النظر عن التساؤلات والإشكالات القانونية والأمنية التي تثيرها مسألة استقدام المقاتلين الأجانب والمرتزقة للقتال في الحروب، فإن كلا من روسيا والدول الغربية تحاول تبريرها وإيجاد مختلف الذرائع من أجل تسويقها في حروبها، ولا تعير أهميةً لتداعيات هذه القضية على أمنها وأمن غيرها من الدول، بالرغم من أنهم لا يخضعون لأي معيار قانوني أو أخلاقي، ويمكنهم ارتكاب جرائم وانتهاكات خطيرة. إضافة إلى أنه، وبعد توقف المعارك وانتهاء الحاجة إلى محترفي القتال في حروب الآخرين، من المرجح أن يسعى بعضهم إلى الذهاب إلى أماكن أخرى للقتال أو إلى ممارسة العنف في بلده الأصلي، خصوصا وأنّ أغلب دول أوروبا تشهد منذ سنوات صعود الأحزاب والتيارات اليمينية المتطرّفة التي تدفع باتجاه القتال في أوكرانيا “دفاعاً عن الحرية”، حسبما تزعم. وتحت هذه اليافطة، تحاول تجنيد أنصارٍ لها، وتحاول توظيفها من أجل تحويل أوكرانيا إلى ساحة لتنمية أيديولوجياتها المتطرّفة وتنشيطها، الأمر الذي سيزيد من ارتفاع تكاليف الحرب بشكل كبير.
ويبدو أن دول الغرب وروسيا لم تتعلما من الدرس الأفغاني، ولا من العراقي، حين تركتا العنان لأجهزة استخباراتها وللشركات الأمنية الخاصة لتجنيد المرتزقة من دون وضع أي ضوابط تنظيمية، ولا إجراءات مراقبة أو تدقيق، وخالفت القوانين الدولية والوطنية التي تنصّ، صراحة، على منع تجنيد المقاتلين لصالح قوى أجنبية في الحروب، وكانت النتيجة كارثية على الدول التي عاد إليها المقاتلون الأجانب بعد هزيمة السوفييت في أفغانستان والغزو الأميركي للعراق. واليوم، قد تترك الحرب الروسية على أوكرانيا تداعياتها المستقبلية الخطيرة على الأمن الغربي والأوروبي، وعلى أمن دول أخرى واستقرارها، فالمشكلة الأخطر هي في ما بعد تجنيد المرتزقة والمقاتلين الأجانب.
المصدر: العربي الجديد