ما سببُ تصنيفِ قادةٍ متباينين أخلاقيًّا مثل هتلر وعمرَ بنِ الخطاب على أنهما أصحابُ سلطاتٍ مؤثرة؟ لماذا يقبل الناسُ شخصياتِ السلطة التقليدية أو الموروثة على الرغم من أن هذه الأنواعَ من القادة لديها وسائلُ محدودةٌ لفرض سلطتِها؟
القادةُ ذوو الكاريزما من بين أروعِ الشخصيات في التاريخ، لكن هل كلُّهم يعملون لصالح البشرية؟ ! من أهم السلطة بيد شخصيةٍ قوية مثل بوتين، أم بيد بلدٍ يمتلك مؤسساتٍ قويةً دون قائد قوي مثل الولايات المتحدة تحت حكم بايدن؟
يصعب الإجابة على هذه الأسئلة دون الدخول بعمق في مفهوم القوة والسلطة في مقابل مفهوم المؤسسات والقائد،وهذا ما سوف نحاول فك عقدته فيما يلي من سطور.
على الرغم من الاختلافات بين الأنظمةِ الحكومية في الشرق الأوسط والولايات المتحدة، لكن تلعب حكوماتُهم الدور الأساسي نفسَهُ: بطريقة ما، فهم يمارسون السيطرة على الأشخاص الذين يحكمونهم. إن طبيعة تلك السيطرة – ما سنعرفه على أنه القوة والسلطة – هي سمةٌ مهمةٌ للمجتمعات ومنها سوف ننطلق.
لكن لنبدأْ بتعريف الفرقِ بين القوةِ والسلطةِ، لنبدأ بسؤال ما القوة؟: لقد اكتشف وتحدث الفلاسفةُ والسياسيون وعلماءُ الاجتماعِ لقرون عن طبيعة القوةِ وعلقوا عليها. حيث قال السياسيُّ والحكيم الإغريقي بيتاكوس Pittacus (٦٤٠-٥٦٨ ق.م): “مقياسُ الرجلِ هو ما يفعله بالقوة”، وربما يكون أكثرَ شهرة من ذلك ما قاله المؤرخ والسياسي الانكليزي اللورد أكتون Lord Acton في عام1887 ; “القوةُ تميل إلى الفساد؛ والقوةُ المطلقة تفسد تماما ” وكذلك قول الإمامِ علي رضي الله عنه “ولكنْ لاَ رأيَ لمنْ لا يُطَاع”. في الواقع، يمكن أن يكون لمفهوم القوة دلالاتٌ سلبيةٌ بكل تأكيد، ومن الصعب تحديدُ المصطلح نفسه.
يتبنى العديدُ من العلماء التعريفَ الذي طورَه عالمُ الاجتماع الألماني ماكس ويبر Weber Max، الذي قال إن القوةَ هي القدرةُ على ممارسة إرادةِ المرءِ على الآخرين (ويبر – 1922 Weber).غالبًا ما تؤثرُ القوةُ أكثر من العلاقات الشخصية؛ فهي تشكل ديناميكيات أكبر لتكوِّنَ المجموعاتِ الاجتماعيةَ والمنظمات المهنية والحكومات. وكذلك، فإن قوةَ الحكومةِ لا تقتصر بالضرورة على السيطرة على مواطنيها فقط. فالدولةُ المهيمنة مثل بريطانيا والولايات المتحدة وروسيا وتركيا، على سبيل المثال، غالبًا ما تستخدم نفوذها للتأثير أو دعم الحكومات الأخرى أو للسيطرة على الدول القومية الأخرى. لقد تضمنت جهودُ حكومةِ الولايات المتحدة لممارسة السلطة في دول أخرى الانضمامَ مع دولٍ أخرى لتشكيل قواتِ الحلفاء خلال الحرب العالمية الثانية، ودخول العراق عام 2002 للإطاحة بنظام صدام حسين، وفرض عقوبات على حكومة كوريا الشمالية على أمل تقييد تطويرها للأسلحة النووية. كذلك تفعلُ الآن روسيا لإعادة إرث الاتحاد السوفيتي الضائع على الجمهوريات التي كانت تدور بفلكها. وكذلك يحاول الناتو تطويقَ روسيا وحرمانها من محيطها الحيوي وخاصة في دول البلطيق وأوكرانيا.
السعيُ لاكتساب القوةِ والنفوذ لا يؤدي بالضرورة إلى العنف أو الاستغلال أو الإساءة. زعماءُ مثل مارتن لوثر كينغ وغاندي ومالكوم إكس، على سبيل المثال، قادوا حركاتٍ قويةً أحدثت تغييرًا إيجابيًا دون قوة عسكرية. فقد نظم هؤلاء احتجاجاتٍ غيرَ عنيفة لمحاربة الفساد والظلم ونجحا في إلهام إصلاحاتٍ بعيدة المدى. لقد اعتمدوا على مجموعة متنوعة من إستراتيجياتِ الاحتجاج غير العنيفة مثل المسيرات، والاعتصامات، وتعطيل الحركة العامة، والالتماسات، وسلاح المقاطعة.
لقد جعلتِ التكنولوجيا الحديثةُ مثلَ هذه الأشكالِ من الإصلاح اللا-عنفي أسهلَ في التنفيذ. اليوم، يمكن للمحتجين استخدامُ الهواتفَ المحمولة والإنترنت لنشر المعلومات والخطط لجماهير المتظاهرين بطريقة سريعة وفعالة. كذلك يمكنهم الدخولُ لعالم السياسة والتأثيرُ في الرأي العام ونتائج الانتخابات، بل حتى تشكيلُ أحزاب وحركات سياسية كما تحدثنا سابقا عن عالم التكنوبوليتكس. في ثورات الربيع العربي، على سبيل المثال، ساعدت قنواتُ تويتر ووسائلُ التواصل الاجتماعي الأخرى المتظاهرين على تنسيق تحركاتِهم وتبادل الأفكار وتعزيز الروح المعنوية، فضلًا عن كسب الدعم العالمي لقضاياهم. لقد كانت وسائلُ التواصل الاجتماعي مهمةً أيضًا في إيصال روايات دقيقة عن المظاهرات إلى العالم، على عكس العديدِ من المواقف والحالات السابقة التي فرضت فيها صورٌ ورواياتٌ زائفةٌ من خلال سيطرةِ الحكومات القمعية على وسائل الإعلام والرقابة على التقارير الإخبارية. لاحظ أنه في هذه الأمثلة، كان مستخدمو القوةُ هم المواطنين وليس الحكومات. حيث وجدوا أن لديهم القوةُ؛ لأنهم كانوا قادرين على ممارسة إرادتهم على قادتهم. وبالتالي، فإن سلطةَ الحكومة لا تعني بالضرورة السلطة المطلقة.
لكن لفهم الصورةِ بدقة أكبر، علينا أن نعرفَ ما أنواع السلطة؟ لقد كان للمحتجين في تونس ومتظاهري الحقوق المدنية في أيام مارتن لوثر كينغ تأثيرٌ يتجاوزُ من يمتلك السلطة في الحكومة. حيث جاء تأثيرُهم جزئيًّا ، من قدرتهم على الدفاع عما يعدُّه كثيرٌ من الناس قيمًا مهمة. قد يكون لقادة الحكومة هذا النوعُ من التأثير أيضًا، لكن لديهم أيضًا ميزةٌ إضافيةٌ مرتبطةٌ بإمكاناتهم على ممارسة السلطة المرتبطة بمناصبهم الرسمية وموارد الدولة الكبيرة. إذن كما يشير هذا المثال، هناك أكثرُ من نوع واحد من القوة في المجتمع.
تشير السلطة إلى القوة المقبولة – أي القوة التي يوافق الناس اختيارًا أو قهرًا على اتباعها والخضوع لها وفقًا لإجراءات محددة. يخضع الناسُ إلى شخصيات السلطة لأنهم يشعرون أن هؤلاء الأفراد يستحقون الاحترام، أو لأنهم في وضع يحمل بطبيعته درجةً من الاحترام أو حتى القدرة على إلحاق الضرر. بشكل عام، ينظر الناس إلى أهدافَ ومطالبَ شخصيةِ السلطة على أنها معقولةٌ أو مشروعة أو مفيدة أو حقيقية أو تلحق الأذى بمختلف أشكالِه في حال عدم الخضوعِ لها.
يُعَدُّ تفاعلُ المواطن مع ضابطِ الشرطة مثالًا جيدًا على كيفية تفاعلِ الناس مع السلطة وتعاملِهم معها في الحياة اليومية. على سبيل المثال، الشخصُ الذي يرى الأضواء الحمراء والزرقاء الوامضة لسيارة الشرطة في مرآة سيارته عادًة ما يركن إلى جانب الطريق دون تردد. يفترض مثل هذا السائق على الأرجح أن ضابطَ الشرطة الذي يقف خلفه يعمل كمصدر شرعي للسلطة وله الحقُّ في إيقافه ومعاقبته في حال مخالفة القانون. كجزء من واجباتهم الرسمية، لدى ضابطِ الشرطة سلطةُ إصدارِ مخالفة السرعة إذا كان السائقُ يقود بسرعة كبيرة. ومع ذلك، إذا كان الضابطُ نفسُهُ سيأمرُ السائقَ بمتابعته إلى المنزل وجز العشبِ له في حديقة بيته، فمن المحتمل أن يحتجَّ السائقُ على أن الضابطَ ليس لديه سلطةٌ لفرض مثلِ هذا الطلبِ. نحن ندرك عمومًا ماهية السلطة التي تتمتع بها شخصياتُ السلطة لطلبها، وندرك أيضًا متى تتجاوز شخصياتُ السلطة حدودَها. وهذه الحدودُ يحددها القانونُ، وإدراك وتعلم الحقوق والواجبات في دولة القانون، بينما تلعب العنتريات والبلطجة من أمثال مقولة “اعرف مع من تتكلم ” دورا في رسم تلك الحدود في دول الموز!
ليس كلُّ أشكالِ السلطة مكونةً من ضباط الشرطة أو المسؤولين المنتخبين أو السلطات الحكومية. فمن الممكن أن تنشأ السلطةُ من التقاليد والصفات الشخصية. لقد أدرك ماكس ويبرMax Weber، أحد الشخصيات الرئيسة في علم الاجتماع، ذلك عندما درس العمل الفردي وارتباطَه بالسلطة، بعيدًا عن هياكل السلطةِ واسعة النطاق وكيفية ارتباطها باقتصاد المجتمع. وبناءً على هذا العملِ، طور Weber نظامًا رائعًا لتصنيف السلطة. فأنواع سلطته الثلاثة هي السلطةُ التقليدية، والسلطة الكاريزمية، والسلطة القانونية العقلانية (ويبر 1922). سوف نشرح بإيجازٍ هذه السلطاتِ الثلاثَ لفائدتها الكبيرة في تشخيص واقعنا:
السلطة التقليدية
وفقا لفيبر Weber، فإن قوة السلطة التقليدية مقبولةٌ؛ لأن هذا هو الحالُ تقليديا؛ شرعيتُها موجودة لأنه تم قبولُها لفترة طويلة. ملكة بريطانيا إليزابيث، على سبيل المثال، تحتل منصبًا ورثته بناءً على القواعد التقليدية لخلافة النظام الملكي. يلتزم الناسُ بالسلطة التقليدية لأنهم مستثمرون في الماضي ويشعرون بأنهم ملزمون بإدامته. في هذا النوع من السلطة، لا يمتلك الحاكمُ عادة قوةً حقيقية لتنفيذ إرادته، ويعتمد موقعُه بشكل أساسي على احترام المجموعة. وهذا الشكل القهريُّ للسلطة حاربه الخالقُ لأنه يُبنى على تغيّب العقل والاستثمار في الخرافة! وغالبًا ماتكون السلطةُ التقليدية عائقًا أمام التغييرِ؛ لأنها تستثمر كثيرًا في الماضي والقصص والاساطير بَلْ قَالُوٓاْ إِنَّا وَجَدْنَآ ءَابَآءَنَا عَلَىٰٓ أُمَّةٍۢ وَإِنَّا عَلَىٰٓ ءَاثَٰرِهِم مُّهْتَدُونَ الزخرف 22
الشكلُ الأكثر تحديدًا للسلطة التقليدية هو التوريث، وهي الهيمنة التقليدية التي تسهلُها إداراتُ الدولة أو المؤسسات وخاصة الجيش (قوة الإيذاء) اللذان يشكلان أدواتٍ شخصيةً بحتةً بيد السيد (Eisenberg 1998). في هذا الشكل من السلطة، يكون جميعُ المسؤولين مفضلين ومنتقين شخصيًّا من الحاكم، فهو يعينهم ويغريهم بالامتيازات. هؤلاء المسؤولون ليس لهم حقوقٌ قانونيةٌ أو مكتسبة، ويمكن زيادةُ امتيازاتِهم أو سحبُها بناءً على نزوات القائد. كان التنظيم السياسي في مصر القديمة يرمز إلى مثل هذا النظام: عندما أمرت الأسرة المالكة ببناء هرم، اضطر كلُّ مصري للعمل من أجل بنائه.ونرى هذا الشكل موجود بكثرة في مؤسسات المعارضات الكرتونية التي ظهرت بعد ثورات الربيع العربي والتي تقوم على توزيع للقوة بين شخصيات محددة متنازعة فيما بينها لكنها متحدة كشبكة مصالح ضد كل من هو خارجها، ذلك لأنها تعتبر وصولها لهذا المكان-الذي غالبًا ما كان بالصدفة- أصبح شبيه بالسلطة التقليدية الموروثة!
يمكن أن تتشابكَ السلطةُ التقليدية مع العرق والطبقة والجنس. على سبيل المثال، في معظم المجتمعات من المرجح أن يتمتع الرجالُ بامتيازات أكثرَ من النساء، وبالتالي هم أكثرُ عرضةً لتولي أدوارِ السلطة. من المألوف أن يكون الرجلُ هو القائدَ التلقائي لوحدة الأسرة؛ ومع ذلك، في بعض الحالات، تكون المرأةُ هي الزعيمةَ المفترضة (مثل حالة الأم التي توفي زوجها وترك لها أولادًا صغارًا). توفر معظمُ السياقات هيكلًا تقليديًّا للسلطة، حتى داخل الأسرة. وبالمثل، فإن أفرادَ الجماعات العرقية المهيمنة أو عائلات الطبقة العليا يكتسبون الاحترام بسهولة أكبر. في الولايات المتحدة، تمثل عائلة كينيدي، التي أنتجت العديد من السياسيين البارزين مثالًا جيدًا، كذلك طبقة الأشراف لدى الدولة العثمانية، أو حتى أولاد الصحابة في الهند-كما يدعون- حين يضعوهم كطبقة عليا في المجتمع !
السلطة الكاريزمية
يقبل الأتباعُ قوةَ السلطةِ الكاريزمية؛ لأنهم ينجذبون إلى الصفات الشخصية للقائد. يمكن أن تكون جاذبيةُ القائد الكاريزمي غيرَ عادية، ويمكن أن تلهمَ الأتباعَ لتقديم تضحياتٍ غيرِ عادية أو المثابرة في خضم المشقة والاضطهاد الشديد. عادة ما يظهر القادة ذوو الكاريزما في أوقات الأزمات ويقدمون حلولًا مبتكرة أو جذرية. قد يقدمون حتى رؤية لنظام عالمي جديد. على الرغم من العواقب الكارثية للأحداث، فإن صعود هتلر إلى السلطة في فترة الكساد الاقتصادي الذي أعقب الحرب العالمية الأولى في ألمانيا يُعدُّ مثالًا على ذلك.
يميل القادةُ الكاريزماتيون إلى الاحتفاظ بالسلطة لفترات قصيرة من الزمن، ووفقًا لـ ويبر، من المرجح أن يكونوا مستبدين كما هم بطوليون. يُعَدُّ القادة الذكور المتنوعون مثل هتلر ونابليون وجيفارا ومالكولم إكس ووينستون تشرشل قادة يتمتعون بشخصية جذابة. شغل بعضُهم مناصبَ رسميةً في السلطة، لكن الكثيرَ منهم لم يفعل ذلك. ونظرًا لقلة عدد النساء اللائي شغلن مناصب ديناميكية في القيادة عبر التاريخ، فإن قائمةَ القيادات النسائية الجذابة قصيرةٌ نسبيًا. يرى العديدُ من المؤرخين شخصياتٍ مثل جان دارك ومارجريت تاتشر والأم تيريزا قادةً كاريزماتيين.
السلطة القانونية العقلانية
وفقًا لـ Weberويبر، يُطلق على السلطة التي تُشرع بموجب القوانين والقواعد واللوائح المكتوبة اسم السلطة القانونية العقلانية. في هذا النوع من السلطة، تُمنح السلطة لمنطق أو نظام أو أيديولوجية معينة وليس بالضرورة للشخص الذي ينفذ تفاصيلَ تلك العقيدة. مع السلطة القانونية العقلانية، لا تقع قوةُ التأثير على عاتق الأفراد أنفسهم، بل تقع على عاتق مكاتب بيروقراطية محددة ومنظمة، والأفراد الذين يشغلون مناصبَ محددة لديهم السلطة للتصرف باسم هذه المناصبِ وليس باسمهم الشخصي. الأمة التي تتبع الدستورَ تطبق هذا النوعَ من السلطة. على نطاق أصغر، قد تواجه سلطةً قانونيةً عقلانية في مكان العمل من خلال المعايير المنصوص عليها في دليل الموظف (أو ما يدعى النظام الداخلي)، التي تزودُ الموظف بنوع مختلفٍ من السلطة عن سلطة رئيسه.
بالطبع ، نادرًا ما يتم تكرارُ المثل العليا في العالم الحقيقي. قليلٌ من الحكومات أو القادة يمكن تصنيفُهم بدقة. يمكن عدُّ بعضِ القادةِ، مثل غاندي Gandhi على سبيل المثال، شخصياتٍ ذاتِ سلطة كاريزمية وعقلانية قانونية. وبالمثل، يمكن للقائد أو الحكومة البدءُ في تمثيل نوع واحد من السلطة والتطور التدريجي أو التغيير إلى نوع آخر. هذا ليس بالأمر غير المعتاد – فالقادة الكاريزميون غالبًا ما يدخلون مؤسساتِ السلطة القانونية العقلانية، وجاذبيتُهم الشخصيةُ هي التي تسهل انتخابَهم. وبالمثل، فإن الفرد الذي يشغل منصب سلطة قانونية عقلانية يكتسب ميزة الظهور على الساحة، مما قد يسمح له بأن يصبح قائدًا كاريزماتيًّا بعد خروجه من مناصب السلطةِ الرسمية.
بعد هذا الشرح الطويل لكن الضروري ،لنبحث في انعكاسات ماسبق. تعتبر الحكومة والنظام العالمي مؤسسة سياسية لها طرقٌ رسميةٌ لاكتساب القوة والسلطة وممارستها. وتشمل هذه المؤسسةُ السياسية جميعَ الوسائل والعمليات التي يحافظ المجتمع من خلالها على النظام. والعنصران الأساسيان للحكومة والنظام العالمي هما القوة والسلطة.
القوة هي قدرة الكيان أو الفرد على التحكم في الآخرين أو توجيههم، بينما السلطةُ هي التأثيرُ الذي يعتمد على الشرعية المتصورة. وبالتالي، فإن القوة ضروريةٌ للسلطة، ولكن من الممكن أن يكون لك قوةٌ دون سلطة (وهذا مانشاهده هذه الأيام في المناطق التي خرجت عن سيطرة الدولة المركزية في سوريا وليبيا). بمعنى آخر، القوة ضرورية ولكنها ليست كافية للسلطة. لقد درس ماكس ويبرMax Weber القوة والسلطة، وميّزا بين المفهومين وصاغا نظامًا لتصنيف أنواع السلطة كما سبق وشرحنا.
لكن هل يجيب هذا التصنيفُ وهذا الشرح عن الأسئلة التي تشغل حيزًا كبيرًا من تفكيرنا خاصة مع الأزمة الأوكرانية. يبدو أن تجمع أكثرَ من سلطة لدى القائدِ تساعد بشكل كبير على تحقيق رؤيته وأهدافه وظهوره بالوضع المسيطر. وسنقوم بتحليل وضع بوتين، على سبيل المثال، فالسلطةُ لدى بوتين بدأت بسلطة تقليدية من اتحاد الأوليغارشيين مع جهاز الاستخبارات المركزي الروسي حين نصبوه قائدًا، ثم تحولت الى سلطة قانونية عقلانية، وبعدها تحولت الى سلطة كاريزمية نتيجة انكشافه على اليمين الأوروبي ودعمه للكنيسة الأرثوذكسية الروسية. على الطرف الأخر نرى بايدن وماكرون لا يملكون إلا سلطةً قانونية عقلانية لذلك تجد المؤسسات توجهُهم وتسيطر على قراراتهم فأصبحوا وكأنهم مدراء وليسوا قادة لأكبر الدول؛ فنراهم مترنيحين تحت الحركاتِ المهمشة اجتماعيًّا واقتصاديًّا من أمثال السترات الصفراء واليمين المتطرف الذي فقد هويته مع سيطرة عصر العولمة! أما السلطات في بلادنا العربية والإسلامية فهي سلطاتٌ تقليدية مبنية على التوريث فقط وتحكمها وتسيطر عليها الأساطيرُ والجهل والخرافة، وقلما نجد قائدًا كاريزماتيًّا استطاع أن يمزج السلطات الثلاث ربما يكون صدام حسين في فترات معينة مزج الثلاث لكن بعدما فات القطار!
وأحيانًا كثيرة تلعب الصدفةُ وبالتأكيد فوقها إرادةُ الخالقِ دورًا مهمًّا في المشهد التاريخي والحالي والمستقبلي. على سبيل المثال، دون حاجة إلى حزب أحمر أو حركة اجتماعية صفراء أو ثورة برتقالية، خاض فلاديمير زيلينسكي حملتَه الانتخابيةَ دون دعايةٍ أو تجمعات. وحده سِحْرُ المسلسل التلفزيوني الفكاهي ومفعولُ الشبكات الاجتماعية القادرة على الوصول إلى ملايين الهواتف المحمولة؛ مكّن هذا الممثل من إزاحة رئيسٍ جاءت به ثورةٌ شعبية إلى الحكم هو الرئيس المنتهية ولايته بيترو بوروشينكو.
لم يكن بوروشينكو إلى غاية شهر ديسمبر/كانون الأول 2019، يتصوّر أنه سيخسر أمام ممثل كوميدي، وهو رجلُ الأعمال الناجح والمتخرجُ من كلية الاقتصاد وأحد أكثر رجال السياسة شعبية في أوكرانيا منذ التسعينيات، وفوق كلِّ ذلك جاء إلى السلطة محمولًا فوق أمواج الثورة البرتقالية التي عرفتها أوكرانيا عام 2004، التي كان هدفُها الرئيسيُّ الخروجَ من تحت العباءة الروسية والدخولَ في تحالف مع الغرب.
اقتات زيلينسكي في المقابل على الكم الهائل من الاستياء الذي خلّفته وعودُ بوروشنكو الكبيرةُ عقبَ الثورة البرتقالية، والتي شاهدها الأوكرانيون وهي تتبخر مع مرّ السنين. “نحن نتاج أخطائكم”، هكذا قال زيلينسكي في المناظرة الوحيدة التي جمعه بالرئيس بوروشنكو.
وفي المرة الوحيدة التي تطرق فيها إلى ملفات السياسةِ الحارقة، قال زيلينسكي إنه سيحتفظ بالتوجه الغربي لبلاده، لكنه لن يقدم على خطوة مثل الانضمامِ إلى حلف شمال الأطلسي (الناتو) إلا بعد إجرائه استفتاءً، فالرجل يبدو حريصًا على شعبيته الفنية والتلفزيونية.
زيلينسكي هو ثاني أشهر حالة انتقال شخصية من عالم الفن والتمثيل إلى الحكم بعد الرئيس الأمريكي رونالد ريغان. فريغان كان قد حمل مفاتيح البيت الأبيض بين عامي 1981 و1989 قادمًا من تجربة فنية في أستوديوهات هوليود. لكن هناك فارقًا كبيرًا بين الرجلين، ذلك أن ريغان احتاج إلى قضاء عشر سنوات في السياسة -كحاكم لولاية كاليفورنيا- قبل أن يترشح لانتخابات الرئاسة باسم الحزب الجمهوري ويهزم المرشح الديمقراطي المخضرم جيمي كارتر.
الرجل الذي أضحك الأوكرانيين وسحرهم بتمثيله دورَ الرئيس قبل أن يترشح له في الواقع، بات يتقلد زمام دولة هي ثاني أكبر اقتصاد في الشرق الأوروبي بعد روسيا، والمصدر الذي يستمد منه الاتحاد السوفياتي النشاطَ الضروري لإنعاش اقتصاده.
ودليل الصدفة والدور فوق البشري ما روته زوجةُ زيلنسكي نفسُها عما وقع ليلة رأس العام للنسخة الأوكرانية من موقع شبكة “بي بي سي حيث قالت :”كنتُ أعلم أنه ينوي الترشح، لكنني لم أعرف أنه سيُقْدم على إعلان ترشحِه ليلة رأس السنة. كنا نتزلج في فرنسا، استقبلنا السنة الجديدة بهدوء، شربنا الشمبانيا وأوينا إلى الفراش. في الصباح استيقظت على وقع صخب الشبكات الاجتماعية تفاعلًا مع ترشحِه.. فوجئت للغاية، وحين سألته قال لي: لقد نسيت أن أخبرَك”. هكذا الصدفةُ وتسلسل أحداث فوق تحكم البشر ترسم الصورة والمشهد، يقول تعالى في وصف أعظم معركة في تاريخ المسلمين “إِذْ أَنتُم بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُم بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَىٰ وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنكُمْ ۚ وَلَوْ تَوَاعَدتُّمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ ۙ وَلَٰكِن لِّيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَىٰ مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ ۗ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ (الأنفال-42).
في النهاية انتظارُ القائد الكاريزمي، والركون للسلطة التقليدية التي يغذيها ويعيش عليها في علاقة تبادلية خطيرة الجهل والاستبداد تحديدًا في دولنا، لن تكون مخرجًا عمليًّا للتغيير، لكن بناء سلطةٍ عقلانية قانونية تستقطب الشخصياتِ الكارزميةَ ستكون هدفًا حقيقيًّا يندمج مع رغبة الإعمارالإيجابي للبشرية.