من شاهد صورة مؤتمر الحزب الشيوعي الروماني الأخير (قبل الانهيار) بحضور زعيمه نيكولاي تشاوشيسكو في نوفمبر 1989 يظن أن ذلك الزعيم الروماني وحزبه خارج إطار انهيارات تلك الأنظمة في أوروبا الشرقية.. لكن كل الأمور، من حوله، كانت تسير وفق حركة الحياة، ومنطق التاريخ.. وعلى ذلك كان سقوطه الدموي في محاكمة، لم تدم أكثر من ساعة واحدة، ليعدم وزوجته في 25 ديسمبر 1989، بعد أن كانت قوة من الجيش قد قبضت عليهما لدى هروبهما بطائرة مروحية.. في تلك الأيام كان الشعب الروماني يعاني إضافة إلى قمع نظام الحزب الواحد شحَّ المواد الغذائية والأدوية، وضيقاً حاداً في سبل العيش..
اليوم من ينظر إلى إيران ومواقفها الدولية الموحية بالقوة والبأس الشديد سواء فيما يتعلق بالاتفاق النووي أو بما يقوم به وكلاؤها في البلدان العربية المجاورة مثل لبنان والعراق واليمن وسورية من جرائم قتل وتدمير وخراب كليٍّ، ومن أمثلة ذلك القريبة تهديد حسن نصر الله للشعب اللبناني، ولبعض طوائفه بمئة ألف مقاتل، وقيام بعض الميليشيات الإيرانية بمحاولة فاشلة لاغتيال رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي الذي حاول انتهاج سياسة فيها نوع من الاستقلالية عن التناحر الأمريكي/الإيراني من خلال العراقيين أنفسهم.. وكانت الميليشيات قتلت مئات المتظاهرين السلميين.
أما في سورية فقد كان للنفوذ الإيراني الدور الرئيس لبدء المقتلة السورية ولديمومتها.. وفي اليمن كان الحال مشابهاً للحال السورية.. أما الأمور الأكثر خطورة وتأثيراً في حياة تلك البلاد فتتعلق بتخريب بنيتها الوطنية التي خلفها التدخل الإيراني ببثه بذرة الانقسام الطائفي، والتفتت المجتمعي، وفقدان الأمن وتهجير الشعب! إضافة إلى الخراب الاقتصادي، والفساد غير المسبوق ما قاد إلى فقر وصل حدود المجاعة، الأمر الذي أدى في النهاية إلى نهوض شعبي واسع، برز في لبنان والعراق أواخر العام 2019 وقد تجلَّى بمظاهرات شعبية ذات طابع شبابي، تقاطعت أهدافها على أرضية التطلع إلى وطن بحدوده، وتنوُّع شعبه، وعمق تاريخه، وانطلاقته من بؤس الحاضر إلى مستقبل يعد بدولة تكفل حقوق المواطنة على أسس دستورية لا توافق أو تحاصص.. وقد وجدت تلك الأرضية انعكاساً، نسبياً، لها في نتائج الانتخابات العراقية الأخيرة. ويتوقع أن يجري ما يشابهها في لبنان..
فها هو ذا تحالف عون/حزب الله آخذ في التفسخ بعد أن شعر “التيار الوطني الحر” بإمكانية خسارته للكثير من أصوات المسيحيين الذين يمثلهم.. والسبب نزعة السيطرة التي فرضها حزب الله على لبنان، وفق منطق القوة.. ومحاولات تأثيره في القضاء وبخاصة، بعد تفجير مرفأ بيروت وفجائعه، إضافة إلى تعطيل ما يسمى بالثنائي الشيعي جلسات الحكومة في أحلك ظروف لبنان.. ما دعا سعد الحريري ممثل تيار المستقبل إلى إعلانه بعدم الترشح وهو إن بدا الموقف سلبياً إلا أنه في ظرف لبنان يعد ضغطاً على حزب الله وحلفائه وتأليباً للشارع السنِّي ضده.. فما هو متوقع أن يسترجع تيار المستقبل وحدة صفه.. أما في سورية فيعاني الروس الكثير من الضغوط الدولية، لا لإخراج إيران من سورية، بل لتحجيم دورها الذي طال الثروة والجيش والبنية السكانية والثقافية بألوانها. ولعلَّ الروس في هذا الأمر واقعون بين سندان مصالحهم ومطرقة الأمريكان والإسرائيليين.. وكأنه علاقتهم بإيران، يلخِّصها بيت المتنبي القائل:
ومن نكد الدنيا على الحرِّ أن يرى عدواً له ما من صداقته بدُّ!
لعلَّ ما تقدم يشير إلى بدْءِ انحسار النفوذ الإيراني في دول الجوار، وقطْعٍ لطريق طموحها في أن تكون دولة عظمى، فهي دولة تقودها عقلية إمبراطورية لا تنتمي إلى روح العصر، إنما تقوم سياستها على مبدأ القوة والهيمنة والعدوان ما يؤدي إلى تبديد ثروات بلادها، وإفقار شعبها وتجويعه، وتعميق صراعاته القومية والدينية.. وتمارس في الداخل قمعاً رهيباً ضحاياه بالآلاف، وسواء أكان بالقتل المباشر، أم بالإعدامات غير المسبوقة، ورغم ذلك فالمظاهرات لا تتوقف، وآخرها تجدد إضراب المعلمين والعاملين في الحقل الصحي الذين يطالبون برفع رواتبهم وتحسين أوضاعهم المعيشية. إن 70% من الشعب الإيراني اليوم يعيشون تحت مستوى خط الفقر! وهم في حالة غليان، وفي انتظار الفرصة المواتية لقلب الطاولة على رأس الجميع بدءاً من المرشد الأعلى الذي تقدر ثروته بمئات ملايين الدولارات، وثمة من يقدرها بالمليارات..
واللافت أكثر أن المرشد الأعلى يتجاوز في فتاويه القرآن الكريم إذ يفسِّر آياته على هواه ووفق مصالحه فقد فسر الآية الخامسة من سورة القصص: “وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الذين استضعفوا فِي الأرض وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الوارثين، وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأرض، وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَحْذَرُونَ”. فقال خامنئي: «لقد أسيء فهم مصطلح المستضعفين بأنهم الفقراء والضعفاء من الشعب، وهذا مجانب للصواب والحقيقة.. فالمستضعفون هم الأئمة وزعماء الإنسانية». (“أمير طاهري” كاتب إيراني).
وما دمت قد بدأت برومانيا الدولة الشيوعية سابقاً فإنني أختم بأهم أسباب سقوط الاتحاد السوفياتي التي أتت من اهتمامه بخارج بلاده خدمة لنزعة السيطرة، وحكم العالم، والغرق في الإيديولوجيا، وتقديس مفهومها السياسي. وهكذا كان الإنفاق الهائل على التسليح، وإهمال الجوانب المتعلقة بحياة الشعب المنتج للخيرات المادية، ناهيكم بالخسائر البشرية التي قدرت بخمسين مليون إنسان، بما في ذلك طبعاً، ما خسره في الحرب العالمية الثانية..
فهل تستفيد إيران من دروس ما يجري في المنطقة، وتلتفت إلى شعبها، فتصون ثرواته، وتنفقها على ما ينفع الشعب الإيراني، وتحافظ على حسن الجوار في المنطقة، وخاصة إذا كان التصدي للشيطان الأكبر، أو للطغيان الإسرائيلي هما الهدف والغاية.. أم إن الملالي سيأخذونها إلى الانهيار والخراب؟!
المصدر: موقع اورينت