يحيل الانسداد السياسي في الحالة السورية إلى حالة عامة من البؤس النفسي والإجتماعي لدى أغلب السوريين، ويعزّز تلك الحالة أوضاع معيشية متردّية لا تستثني بقعة من الجغرافية السورية، ولكن في موازاة هذه الظاهرة المجتمعية التي لها ما يبررها، ثمة ما يحيل أيضاً إلى رغبة وإصرار لدى كثيرين على ألّا تفضي فداحة المعاناة السورية إلى حالة من الموات الثوري والإجتماعي، إذ يمكن التسليم بإخفاقات كبيرة لثورة السوريين أمام نظام الأسد وحلفائه المحليين والدوليين، كما يمكن التسليم أيضاً بأن الأطراف التي ادّعت أنها بدائل للأسد، وتنازعه الشرعية من خلال بسط نفوذها على بعض المناطق كسلطات أمر واقع، ما تزال في مجملها بعيدة عن أي مقاربة عملية لمشروع الثورة، ولكن ما لا يمكن التسليم به هو أن القضية السورية قد انتهت، أو أنها توشك على الاندثار، وما لا يمكن التسليم به أيضاً هو أن نظام الأسد قد انتصر وأنه قادر على استعادة تموضعه في السلطة كما قبل عام 2011 ، أو أنه قادر على مصادرة وعي السوريين لعدالة قضيتهم وتطلعهم نحو التغيير.
لعل الشعور الرافض لمنطق الهزيمة هو أبرز الفضاءات التي يعمل من خلالها جمهور الثورة، وعلى وجه الخصوص تلك المجموعات التي يمكن تسميتها بالنخب الثقافية والسياسية، والتي يتمحور معظم حراكها حول مسألتين اثنتين: تتمثل الأولى بضرورة تدارك حالة اليتم السياسي الناتجة عن غياب الدور الفاعل لكيانات المعارضة الرسمية، وتتمثل الثانية بضرورة العمل على استعادة القضية السورية التي باتت رهينة بيد الآخرين من غير السوريين.
عن الحالة الأولى يمكن التأكيد على أن الطابع النقدي لخطاب النخب بات لازمة من لوازم الدخول إلى أي حديث أو حوار، بل ربما ذهب النقد إلى أمداء بعيدة لا تتوقف عند الظواهر السلبية لسلوك المعارضة، بل ربما امتد إلى معاينة جذور التفكير والتربية الذهنية التي أنتجت تلك الظواهر، إلّا أن هذه الجدية في النقد والمراجعات غالباً ما بقيت ضمن إطارها البحثي النظري، ولم تتحوّل إلى آليات عمل أو برامج لملامسة وقائع الأمور، ليس لسبب يعود إلى طوباوية تلك الأفكار والتصورات المطروحة، وكذلك ليس لهجانتها أو استعصائها على أن تكون نواة لمشاريع عمل يمكن استيعابها والتعاطي معها على المستوى الشعبي، بل ربما يعود السبب في الغالب إلى تموضعات تلك النخب التي تبرهن يوماً بعد يوم، أنها أكثر إصراراً على عدم مغادرتها لدورها الوظيفي التقليدي التي ورثته منذ عقود، ولئن أتاحت لها الثورة فضاء من الحرية للحديث دون كوابح سلطوية، إلّا أن كوابحها الذاتية لا تتيح لها التحرر من منطقها الاستعلائي الذي يعزز لديها الاعتقاد بأن بقاءها في موقع التنظير والابتعاد عن السياق الحياتي للناس يحفظ لها نخبويتها و يعصمها من الانحدار إلى الشعبوية، لذلك لا نجد غرابة في مهادنة هذه النخب – طيلة عقود سابقة – لمنظومة الاستبداد الأسدي، بذريعة تحاشي بطش النظام وممارساته الإنتقامية، وهي اليوم تبدو أكثر مهادنة لسلطات الأمر الواقع بمختلف أشكالها، وكذلك لمختلف الكيانات الوظيفية التي وجدت في قضية السوريين مساحة لممارسة هواياتها العبثية ومصالحها الشخصية، ولكن بذريعة أو ذرائع مختلفة، لعل أبرزها، الحفاظ على ما هو موجود لعدم توفر البديل الأفضل، في حين يتساءل المواطن العادي : إن لم تكن تلك النخب معنيّة بإيجاد البديل الوطني أو إنتاجه، فما الذي ينتظره السوريون من نخبويتها؟
أما عن الحالة الثانية، فيبدو أن الحديث النخبوي عن استعادة القضية السورية بات يشبه إلى حد بعيد حديث بعض الأطراف الدولية عن سيادة سورية والحفاظ على أرضها وشعبها، إذ كلا الحديثين بات أقرب إلى الشعارات المفارقة لمضامينها، وكما أن كلام الآخرين عن مفهوم السيادة ووحدة الأرض يجسّد هروباً أو مراوغة عن الكلام على سيادة الإنسان السوري ككائن بشري، وضرورة الحفاظ على كرامته وحياته، وحقه في الحصول على الحد الأدنى من الأمان و من مقوّمات العيش الكريم، كذلك لا يفارق الحديث النخبوي – في معظم تجلياته – عن استعادة القضية السورية، نزعته الثقافوية المتعالية التي تأبى التحوّل إلى مواقف فعلية قابلة للتعايش والتفاعل مع معاناة أغلب السوريين، ذلك أن ( القضية السورية) كما يحياها السوريون، ليست لغزاً، كما أنها ليست شعاراً لا يخفي في طياته سوى رغبات وأحلام، بل هي ببساطة شديدة، مفردات حياتية وهموم يكابدها المواطنون، ومأساة يعزّزها وجود مليوني نازح في المخيمات التي تتقاذفها الرياح وتعصف بها الأمطار، وعشرات الآلاف من المعتقلين ما يزالون يقبعون في سجون هي أقرب إلى المسالخ البشرية، وهي أيضاً حقوق انتزعها السوريون بتضحياتهم العظيمة بينما هي الآن عرضةٌ للتفريط بين أيدي العابثين ومحترفي التسلّق والانتفاع، فإنْ لم تكُ جميع تلك المسائل ترقى إلى مستوى قضية في نظر النخبة، فما هي قضية السوريين إذاً؟
ربما تبدو السخونة الثقافوية شديدة الإغراء حين تلتهب الندوات والحوارات ووسائل الإعلام بنقمة شديدة على تحييد السوريين عن قضيتهم التي باتت مرهونة بمصالح الأطراف الإقليمية والدولية، كما تبدو تلك السخونة مشحونة برغبوية طاغية نحو ضرورة استعادة السوريين لدور – ولو نسبي ) في صياغة مستقبلهم، مما يبعث على الاعتقاد بأن الترجمة الفعلية لهذه السخونة الكلامية والاندفاعات الرغبوية ستتجسّد بالتفكير نحو العودة الشعب السوري واستلهام حراكه ليكون الحامل الحقيقي لأي مبادرة وطنية، ولكن واقع الحال يشير إلى أن حصيلة الترجمة الفعلية للخطاب المتعالي ما تزال تتجه نحو الخارج، لا لتكون طرفاً فاعلاً ومشاركاً له من خلال امتلاكها أوراق قوة، أو إيجادها لمبادرات جديدة لافتة للمواقف الدولية، بل هي في أفضل الحالات تكتفي بالترقب والانتظار إلى ما سيفضي إليه صراع أو تدافع المصالح بين الأطراف النافذة في الشأن السوري.
لعله من المؤكّد أن السوريين حينما انتفضوا بوجه الاستبداد الأسدي، لم يكونوا مجردين من أحلامهم و بكل ما هو جميل يليق بمستقبلهم الذي يتطلعون إليه، وهذا حقهم، بل هو الشرط اللازم الذي لا وجود لثورة بدونه، ولكن ما هو مؤكّد أيضاً، أنهم لم يتخيّلوا قطُّ، أن مستقبلهم المتخيّل والمنشود سيكون مرهوناً بخطاب يتعالى على أوجاعهم، و لا يثبت منه في الطواحين إلا الهباء، أو سيكون هديّة المجتمع الدولي ومصالحه المتصارعة، ولعل هذا الإدراك الشعبي العفوي هو ما كان، وما يزال أحد أبرز المصادر التي تزوّدهم بالقدرة على الصمود والصبر على المواجع والإصرار على رفض منظومة القتل والإجرام.
المصدر: تلفزيون سوريا