على أرض المملكة العربية السعودية، أطلق رئيس وزراء جمهورية باكستان الإسلامية “عمران خان” هذه الكلمات خلال حديث طويل له مع جريدة “الرياض” التي احتفت كغيرها من وسائل الإعلام السعودية بتلبية خان لدعوة ولي العهد السعودي الأمير “محمد بن سلمان” للمشاركة في منتدى مبادرة السعودية الخضراء في أكتوبر/تشرين الأول الماضي. وبعد توتر قصير بين البلدين، ظهر خان وولي العهد السعودي مفعمين بالأمل بعودة العلاقات، وإثر الزيارة التي لاقت حفاوة كبيرة من السعوديين، أعلن الصندوق السعودي للتنمية إيداع ثلاثة مليارات دولار لدى البنك المركزي الباكستاني لمساعدة الحكومة على دعم احتياطاتها من النقد الأجنبي.
تطرح التحرُّكات الأخيرة بين السعودية وباكستان تساؤلات حول دوافع تهدئة الخلاف واستئناف العلاقات بين البلدين اللذين تجمعهما روابط تاريخية تعود إلى أكثر من سبعة عقود، لكن التساؤلات الأهم تتعلق ربما بالعقبات التي تواجه جهود البلدين لإعادة العلاقات إلى سابق عهدها، وأهمها على الإطلاق سؤالان: هل تُمثِّل علاقات الرياض الاقتصادية المتنامية بالهند عقبة في وجه هذا التقارب؟ وكيف ستتمكَّن باكستان من تحقيق التوازن بين علاقاتها القوية بالسعودية ومصالحها مع إيران في الوقت نفسه؟
رئيس الوزراء الباكستاني عمران خان (إلى اليسار) يلتقي مع ولي عهد المملكة العربية السعودية ، محمد بن سلمان- المملكة العربية السعودية في 25 أكتوبر 2021.
علاقات تشوبها العثرات
تُرجع المصادر السعودية تاريخ العلاقات بين الرياض وإسلام أباد إلى عام 1940، أي قبل سبع سنوات من استقلال باكستان عن بريطانيا، وعلى مدار العقود التالية، مضت العلاقات الاقتصادية والسياسية والعسكرية بين البلدين حتى ارتقت إلى مستوى “الشراكة الإستراتيجية”، ولم يقتصر الدعم السعودي السخي على تأجيل مدفوعات القروض لواردات النفط الباكستانية، بل ساعدت الرياض في بناء شبكات كبيرة من المدارس الدينية والمنشآت على الأرض الباكستانية، فيما شكَّلت تحويلات العمال المهاجرين الباكستانيين في المملكة العربية السعودية نحو ربع إجمالي التحويلات الخارجية الباكستانية.
برز التعاون العسكري بوصفه واحداً من أهم مجالات التعاون بين الحليفين، فمنذ منتصف الستينيات ذهب مسؤولون عسكريون باكستانيون متقاعدون إلى المملكة للمساعدة في بناء القوات المسلحة السعودية، وقد أقرَّت الحكومة الباكستانية عام 1981 بوجود ما بين 1500 إلى 2000 عسكري باكستاني في الأراضي السعودية يؤدون مهام هندسية وتدريبية، فيما كان السخاء السعودي يساهم بشكل أو بآخر في دعم جهود باكستان لإنشاء قنبلة نووية. وقد كانت أبرز مظاهر عودة العلاقات الحالية عودة التعاون العسكري، فعلى سبيل المثال، في مطلع أكتوبر/تشرين الأول الماضي وصلت قوات البحرية السعودية إلى مدينة “كراتشي” الباكستانية وشاركت في مناورات بحرية مع القوات الباكستانية.
ولكن على الرغم من قوة العلاقات الباكستانية السعودية، فإن التوتر بدأ يعرف طريقه إليها خلال زمن الحكومة الائتلافية بقيادة رئيس الوزراء يوسف رضا جيلاني وحزب الشعب الباكستاني الذي حكم البلاد بين عامي 2008-2012، وكانت الرياض تأمل أن عودة نواز شريف المُقرَّب منها إلى سُدَّة الحكم للمرة الثالثة بعد انتهاء حكومة الائتلاف سوف تُعيد العلاقات إلى مسارها، لذا فإنها سارعت إلى دعمه بقرض بقيمة 1.5 مليار دولار، غير أن شريف سرعان ما خذل السعوديين حينما رفض الانضمام إلى الحرب السعودية في اليمن، إذ رفضت إسلام أباد المشاركة في “عاصفة الحزم” بعد أن أصدر البرلمان الباكستاني بالإجماع قرارا يدعو إلى حياد حكومته في حرب اليمن. ولم يتمكَّن شريف من تخفيف غضب الرياض بعد هذا الخذلان رغم مشاركة قوات بلاده في التدريب العسكري “رعد الشمال” لعام 2016 مع السعودية وحلفائها.
علاوة على ما سبق، كثَّف نواز شريف من محاولته الخروج من عباءة السعودية عبر جذب وتنويع المساعدات والاستثمارات من حلفاء جدد مثل قطر وتركيا (إبان الأزمة الخليجية)، وبالفعل أبرمت شركة المرقاب كابيتال -المملوكة لرئيس الوزراء القطري السابق “حمد بن جاسم بن جابر آل ثاني”- صفقة مع شركة “سينوهيدرو” لبناء محطة طاقة تعمل بالفحم بتكلفة 1.9 مليار دولار في جنوب باكستان عام 2015، وفي العام التالي، وقَّعت باكستان صفقة طويلة الأمد للغاز الطبيعي المُسال مع قطر، كما زاد التعاون بين باكستان وتركيا خاصة في المجال البحري، بعدما أدانت أنقرة بقوة الأعمال العسكرية الهندية في كشمير، وأبدت حرصها على المشاركة في مشاريع الممر الاقتصادي الصيني الباكستاني.
بالتزامن مع التقارب القطري-التركي-الباكستاني، تقرَّب السعوديون من الهند، وخلال العامين الأخيرين اللذين تضرَّرت فيهما العلاقات الباكستانية السعودية، باتت الرياض ونيودلهي أقرب من ذي قبل، وتطلَّعت الهند إلى الاستثمارات السعودية، في الوقت الذي بحثت فيه السعودية بدورها عن سوق ضخم لتصدير النفط.
في ظل هذه الأجواء، وصل عمران خان إلى السلطة في أغسطس/آب 2018، ليشرع في جهود إعادة العلاقات السعودية الباكستانية إلى طبيعتها، مستفيدا من العلاقة الطيبة التي جمعته مع ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، وفور توليه المنصب حصلت البلاد على جملة من الهبات السعودية بلغت قيمتها 6 مليارات دولار، وجاءت بهدف التخفيف من ديون إسلام أباد المتراكمة وتجنُّب انهيار البلاد اقتصاديا.
غير أن إقدام الهند على الضم الأحادي لولاية “جامُّو” و”كشمير” المتنازع عليها مع باكستان في الخامس من أغسطس/آب عام 2019 مَثَّل لحظة اختبار لهذه العلاقات، فقد نأت الرياض بنفسها عن القضية الكشميرية، وتسبَّب تجاهلها لمطالب وزير الخارجية الباكستاني “شاه محمود قريشي” لإدانة الضم الهندي أثناء اجتماع خاص لمنظمة التعاون الإسلامي (OIC) في وصول العلاقات بين البلدين إلى واحدة من أدنى نقاطها، حيث هدَّد قريشي بالتوجُّه إلى ماليزيا وتركيا وإيران، فيما ردَّت الرياض على ذلك بمطالبة إسلام أباد بتسديد مليار دولار على الفور، وهو جزء من 3 مليارات دولار تم إقراضها لباكستان في نوفمبر/تشرين الثاني 2018. بيد أن الجراحات سرعان ما التأمت، ورجحت كفة التاريخ على التوتُّرات الأخيرة.
مصالح الرياض بالعودة إلى إسلام أباد
تُظهِر تحرُّكات العام الماضي، من زيارات رفيعة واتفاقيات ومنح، دلائل واعدة على عودة العلاقات الثنائية بين إسلام أباد والرياض، بعد أن خفتت الخلافات وتجدَّدت الدوافع لإعادة المياه إلى مجاريها. عسكريا على سبيل المثال، أبدى البلدان حرصا على استئناف التعاون، إذ تستقبل الرياض على أراضيها المستشارين الأمنيين والقوات الباكستانية بموجب اتفاقية الدفاع المُبرمة بين البلدين عام 1982.
أما على الصعيد الاقتصادي، يتطلَّع البلدان إلى تعميق الشراكة مع بعضهما، في ظل وجود مئات الآلاف من العمال الباكستانيين في الخليج. أما الأهم بالنسبة للسعودية فهو ما يمكن أن تُحقِّقه العلاقة مع باكستان في المجال السياسي، ففي الوقت الذي لا تتخذ فيه إدارة الرئيس الأميركي “جو بايدن”، التي منحت كلا البلدين “الكتف البارد”، إجراءات تتعلق بالأمن الإقليمي وبالتحديد من أجل مواجهة النفوذ الإيراني، مع توقُّفها أيضا عن مساعدة السعودية في حربها باليمن، تسعى الرياض الآن للتخلُّص من العُزلة والانتقادات الغربية عبر إصلاح علاقاتها مع قوى إسلامية مهمة أولها باكستان.
هناك أيضا ما يتعلق بوضع السعوديين إثر انسحاب أميركا وقوات الناتو من أفغانستان، فالرياض وإن بدت حتى الآن غير مَعنية بتطورات الأمور في كابل بعد سيطرة حركة “طالبان” الأفغانية على الحكم، فإنها تتطلع إلى ممارسة دور أكبر في المستقبل، أسوة بالوضع خلال عقدَيْ الثمانينيات والتسعينيات، وهو ما يعني الحاجة إلى التعاون مع باكستان.
في الوقت نفسه، تخشى الرياض من تداعيات صراع النفوذ في أفغانستان بين الصين وروسيا وإيران، فليس من مصلحتها انتقال البلاد إلى نفوذ إيران وحلفائها، كما أن التاريخ لا يُرجِّح ميل السعودية إلى تعاظم النفوذ الروسي أو الصيني، ومن ثمَّ تميل الرياض نحو التعويل على باكستان بوصفها جسرا للنفوذ بسبب علاقتها مع حركة طالبان، ونفوذها الاستخباراتي واللوجستي المُتشعِّب على الساحة الأفغانية.
تحديات أمام العودة إلى العصر الذهبي
ومع ذلك، فإن الطريق نحو استعادة العلاقات الذهبية بين السعودية وباكستان ليس مفروشا بالورود، فثمَّة صعوبات وتحديات قد تَحُول دون عودة الانفراجة في العلاقات سريعا كما يأمل قادة البلدين. أول تلك التحديات يتعلق برغبة باكستان بالنأي بنفسها عن الصراعات بين الإيرانيين والسعوديين، فهي في غنى عن أي شرارة قد تتسبَّب في اشتعال فتنة العنف الطائفي بين الطائفة الشيعية، وهي أقلية كبيرة، وبين الأغلبية السنية في بلد يُعاني من اقتصاد متدهور، كما أنها تريد بشكل أو بآخر الحفاظ على علاقات “طبيعية” مع إيران، وذلك رغم أن العلاقة بين البلدين لا تزال متوترة بسبب اتهامات متبادلة بدعم الجماعات الانفصالية في البلدين.
وعلى الجانب الآخر، لدى السعودية تحديات خاصة بدورها، فليس لدى الرياض مصلحة حتى الآن في الحد من العلاقات مع الهند، وكل ما يمكن فعله هو الظهور بوصفها وسيطا مستعدا للعب دور في حل قضية كشمير والمساعدة في تخفيف التوترات بين الهند وباكستان، ومن غير المُرجَّح في المستقبل القريب أن تميل الرياض نحو إسلام أباد بشأن نزاع كشمير، وهو ما يتعارض مع رغبة باكستان التي تريد أن تلمس بسرعة آثار اليد السعودية التي تعمل لصالحها في نزاعها مع الهند.
من جهة أخرى، تنظر الرياض إلى أهمية باكستان في مسألة الاحتفاظ بمكانتها القيادية داخل العالم الإسلامي، لذا فإنها لا تُرحِّب كثيرا بجهود باكستان لبناء علاقات قوية مع قوى إسلامية منافسة مثل تركيا، غير أن إسلام أباد تُصِرُّ أنها قادرة على الموازنة بين علاقاتها مع منافسي الرياض وعلاقتها التاريخية مع السعودية من جهة أخرى.
في الوقت الحالي، من المُرجَّح أن يقتصر إعادة ضبط التعاون الثنائي على التعاون الاقتصادي والعسكري، لكن من غير المُرجَّح أن تُترجَم مثل هذه الارتباطات إلى عودة التحالف الإستراتيجي المتين بين البلدين في ظل تعدُّد مساراتهما الإقليمية. سوف تكتفي الرياض من باكستان بعلاقات ودية تعترف فيها إسلام أباد بريادة الرياض إسلاميا دون أن تفسد علاقاتها مع منافسيها، وفي المقابل ستكتفي باكستان بالدعم الاقتصادي السعودي دون أن تأمل في مساندة صريحة في قضية كشمير، ومع الوقت، سيحاول الطرفان بهدوء تخفيف خلافاتهما تدريجيا، دون التطلُّع بالضرورة نحو العودة إلى العصر الذهبي للعلاقات بينهما.
المصدر: الجزيرة. نت