رحل فجر الأحد، في مدينة إسطنبول، الباحث السوري جودت سعيد (1931 – 2022) قبل أيام من عيد ميلاده الحادي والتسعين، تاركاً عدداً من الدراسات والكتب حول تفسير القرآن الكريم ومفهوم التوحيد من منظور معاصر.
وُلد الراحل، الذي نعاه العديد من أقاربه وأصدقائه على مواقع التواصل الاجتماعي، في قرية بئر عجم التابعة للجولان السوري المحتلّ، لعائلة سورية شركسية، ويعدّ من رواد مدرسة “اللاعنف”، ويعتبر امتدادًا لمدرسة المفكرين الإسلاميين مالك بن نبي ومحمد إقبال.
أكمل سعيد دراسته الابتدائية في مدينة القنيطرة، ثم أرسله والده لمتابعة دراسته في الأزهر الشريف بمصر عام 1946، حيث أتم هناك المرحلة الثانوية، ودرس اللغة العربية، وتعرف في مصر على المفكر الجزائري مالك بن نبي في آخر مراحل وجوده في مصر، من خلال كتاب “شروط النهضة”، ثم واتته فرصة لقائه والتعرف عليه شخصياً قبل مغادرة مصر نهائياً.
زار السعودية بعد ذلك ليقضي، فيها نحو عام قامت خلاله الوحدة السورية المصرية، ليعود الى سورية من أجل تأدية الخدمة العسكرية، حيث فرضت عليه الإقامة الجبرية بعد الانفصال بسبب رفضه المشاركة في أيّ تحرك عسكري لحسم الخلافات الداخلية.
وبعد ذلك، عمِل في ثانويات دمشق مدرساً للغة العربية، وما لبث أن اعتقل لنشاطه الفكري. وتكررت الاعتقالات، ورغم صدور قرارات بنقله إلى مختلف مناطق سورية، إلا أنه لم يترك مجال التدريس إلا بعد أن تم اتخاذ قرار بصرفه من عمله في نهاية الستينيات.
وبعد حرب 1973 مع العدو الإسرائيلي واستعادة بعض قرى القنيطرة المحتلة، استقر في قريته بئر عجم مع عائلته ووالده وإخوته، وظل يعيش فيها ويعمل في تربية النحل والزراعة، ويمارس نشاطه الفكري والثقافي، حتى قيام الثورة في سورية عام 2011، التي وقف مع نشاطها السلمي المعارض للاستبداد والمطالب بالحرية.
يُعرف جودت سعيد بأنه داعية اللاعنف في العالم الإسلامي أو غاندي العالم العربي كما يطلق عليه. وقد عبر عن سعادته بهذا الوصف في مناسبات عدة، وكان أول ما كتبه في مطلع الستينيات كتابه “مذهب ابن آدم الأول، أو مشكلة العنف في العمل الإسلامي”، وهو يناقش مبدأ اللاعنف وعلاقته الجذرية بالإسلام، وكانت دعوته إلى اللاعنف دعوة للعقل في أساسها.
ويرى مراقبون أن أهمية الكتاب تكمن في أنه أول محاولة لصياغة مفهوم لاعنفي إسلامي في التاريخ المعاصر، وفي أنه أول رد مباشر على كتابات سيد قطب التي شكلت الأساس الفكري لحركات العنف الإسلامي.
تنطلق أفكار سعيد من باب التوحيد، فهو يرى أن “التوحيد مسألة سياسة اجتماعية وليست مسألة ميتافيزيقية إلهية”، بمعنى أن توحيد الله في السماء يعني المساواة بين البشر على الأرض، فيساوي بين العبارات الثلاث في الآية القرآنية الكريمة: (ألا نعبد إلا الله، ولا نشرك به شيئاً، ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله).
وحاول مخاطبة الشباب المسلم من خلال مجموعة من الكتب الإرشادية التي نشرها في سلسلة بعنوان “سنن تغيير النفس والمجتمع”، تعالج الحياة الشخصية والاجتماعية مع التركيز على أن اللاعنف هو سبيل إسلامي أصيل لا بديل عنه.
وفي عام 1988، نشر كتابه “اقرأ وربك الأكرم”، الذي طور فيه مفهوما جديدا لتفسير القرآن مكنه من تدعيم فكرة اللاعنف الإسلامي بشكل أفضل، مركزا على أن التفسيرات المختلفة للنصوص القرآنية كانت تشكل تحديا حتى للرعيل الأول من الصحابة. ويخلص جودت سعيد في كتابه إلى أن القرآن لا يطلب من المؤمنين البحث عن المعرفة في صفحاته، وإنما في الوجود المادي. وينفرد سعيد بين المفكرين الإسلاميين في فهمه لآيات القرآن الكريم مبتعدا عن التفسيرات المتداولة، حيث يرى أن الله يريد في القرآن أن يبعد الإنسان عن الفكر الغيبي ويجعله معتمدا على النظر العقلي في الكون من أجل التوصل إلى السعادة.
بعد عام 2011، شكلت أفكار جودت سعيد مصدر إلهام لبعض اللجان المحلية للثورة السورية. وظهر في عدد من مقاطع الفيديو وهو يعظ على المنصات، أو في الفصول الدراسية المتواضعة، مرتدياً قبعة الفراء الخاصة به، أو وهو يقود جراراً زراعياً قديماً في شوارع مسقط رأسه في الجولان السوري. ولم يتخل سعيد عن أفكاره اللاعنفية حتى عندما اندلعت الثورة السورية، وظل مخلصاً لمبادئه، مقتنعاً بأن عنف التظاهرات سيمنح النظام ذريعة لممارسة عنف مضاد، وفي النهاية، خلق حالة من الفوضى بين الضحايا والجلادين، وهذا ما حدث.
وقد جرى استدعاؤه من جانب أجهزة النظام السوري الأمنية للحصول على تأييده للنظام، لكنه رفض ذلك مفضلاً السفر مع عائلته إلى تركيا، حيث ظل يعيش فيها، في ضواحي إسطنبول، حتى فارق الحياة فجر هذا اليوم.
المصدر: العربي الجديد