لم يرَ النظام السوري موجباً لإدانة الهجمات الحوثية على أهداف مدنية في أبو ظبي، ولا وجد مصلحة في أن يمرّر أحد “مصادره” أو إحدى “مستشارتَي” رئيسه ولو كلمة نفاق لمجاملة دولة الإمارات بعد تعرّضها لاعتداء إرهابي موصوف.
كشف الصمت أكثر مما أراد النظام التغطية عليه، ففي نظره لم تكن الإدانة لتقدّم شيئاً أو تؤخّره، بحسب أحد القريبين، الذي قدّر أن إعلانها لا يخدم النظام. وعدا أنه لا يميّز بين المدني وغير المدني في أهدافه، فإنه فهم سريعاً أن حليفه الإيراني هو مَن أمر بضرب مطار أبو ظبي، ولو استنكر ما فعله الحوثيون لكان سجّل لنفسه تمايزاً على رغم أنه لا يختلف عنهم، لا في العقلية ولا في الممارسة، وبما أن هؤلاء حلفاء متماهون مع إيران، إذاً فهو حليف لهم. ولو حُسب سكوت النظام تضامناً مع إيران في حربها ضد السعودية والإمارات، فإن هذا لا يضيره بل يحقّق له مصلحة لدى حليفته.
أظهر النظام، عبر إعلامه، أنه غير معني بالهجمات الحوثية أو بالدولة التي استهدفتها، وهو الذي يطمح (خلافاً لادّعاءات وزير خارجيته) للعودة الى الجامعة، لكن “مصادره” تصوّر الأمر وكأن الجامعة هي التي تتوسّل إليه كي يعود. لم يفوّت النظام فرصةً كانت متاحة للإشارة الى “عروبته”، ولو تلميحاً، بل اعتبرها فرصة لإثبات أن موقعه في “المحور الإيراني” لا يزال أكثر جدوى لبقائه، وأن استعادة عضويته في الجامعة ستكون فقط لتدعيم هذا المحور داخلها. في الأثناء راحت أوساط النظام تردّد أن الانفتاح الإماراتي عليه لم يساهم بأي تقليص لـ”عقوبات قيصر” ولا بأي تمويل لتخفيف الأزمة الاقتصادية أو اختراق سياسي يعيد للنظام “شرعيته” الدولية المفقودة. غير أن هذه الأوساط نفسها لا تنكر أن أبو ظبي قدمت على مدى أعوام تسهيلات كثيرة لرجالات النظام وعائلاتهم، وآخر ما يُذكر مثلاً تنويه مصادر سورية عدة بالتمويل الإماراتي الكامل للجناح السوري في “إكسبو دبي” ولزيارات المسؤولين وحتى لزيارات رجال الأعمال التابعين للنظام.
مثّلت اعتداءات الحوثيين على الإمارات، بالصواريخ البالستية والطائرات المسيّرة، عينةً عن تعامل الملالي مع مَن ينفتح عليهم ومَن يقرّ نظامهم بأن العلاقات تجارية معه، وفّرت وتوفّر متنفّساً للاقتصاد الإيراني الرازح تحت عقوبات أميركية. وبدوره، شكّل “اللاموقف” الأسدي تأييداً عملياً من دمشق لتلك الاعتداءات، وإلا لكانت وجدت سبيلاً لإظهار شيء من العرفان حيال أبو ظبي. فحتى في العاصمتين الأخريين من أصل الأربع التي تسيطر عليها إيران، وُجد في بغداد (بيان لوزارة الخارجية) وفي بيروت (بيان لرئيس الحكومة) مَن يدين الاعتداءات ولو في الحدّ الأدنى. ثمّة معلومات بأن هناك في دمشق من اقترح إصدار موقف، غير أن الموافقة لم تأتِ من رأس النظام، ويفيد سوريون مقيمون في الإمارات بأن عدداً من الموالين كتبوا على صفحاتهم الإلكترونية إدانة للاعتداءات، ثم ما لبثت أن اختفت… لا بدّ أن يؤخذ كل ذلك في الاعتبار، لكن من غير الواضح ولا المؤكّد ما إذا كان الانفتاح الإماراتي على النظام السوري سيدخل مرحلة غموض أو يتراجع، علماً أن أبو ظبي تعتبره جزءاً من توجّهاتها السياسية الجديدة، وأن النظام يعوّل عليه.
على رغم أن موقف دمشق يبقى شأناً جانبياً في الاحتدام الراهن للأزمة اليمنية، إلّا أنه يعكس ارتباكاً يمرّ به حلفاء إيران إزاء تحرّكاتها الإقليمية المواكبة للمعركة الدبلوماسية التي تخوضها في المفاوضات النووية. فهي تمنع أياً من حلفائها ووكلائها من الخروج عن إملاءاتها المتشدّدة قبل أن تتوصل الى أهدافها في فيينا، وهي باتت موقنة بأنها لن تستطيع تحقيقها على النحو الذي كانت تأمله. إذ إن اتصالات القنوات الخلفية مع الولايات المتحدة لم تنجح في ترتيب مفاوضات موازية، كما أنها تواجه حالياً ضغوطاً من روسيا والصين اللتين تجعلهما توتّرات علاقاتهما مع أميركا (أزمة أوكرانيا) تتعجّلان إنهاء المفاوضات قريباً، إما بـ”اتفاق مرحلي موقت” لا بدّ من أن يتضمّن تجميداً للأنشطة النووية لقاء رفع جزئي للعقوبات، أو بإحياء اتفاق 2015 مع تعديلات تحديثية لا تزال طهران تدرسها. لكن بات مؤكّداً أن واشنطن لن ترفع “كل العقوبات” وأن طهران لن تحصل على “ضمانات” أميركية بعدم معاودة الانسحاب من الاتفاق، فلا إدارة جو بايدن ولا غيرها تستطيع تقديم التزامات كهذه.
كان واضحاً لإدارة بايدن، منذ أسابيعها الأولى، أن إيران ستستخدم مناطق انتشارها الإقليمي لإطلاق “رسائل” في اتجاه المفاوضات النووية، وأنها ستحرّك حرب اليمن خصوصاً، سواء لتماسها مع دول الخليج أم لأنها الملف الأكثر سخونة الذي يمكن استغلاله. فالتصعيد الأمني في سوريا يصطدم بالمصالح الروسية، بل يحدّ منه التنسيق الروسي – الإسرائيلي. والتصعيد في العراق يتسبب بإرباكات داخلية للميليشيات الموالية بدليل خسارتها في الانتخابات في بيئاتها الحاضنة. كما أن التصعيد في لبنان يهدّد بتعميق مأزق “حزب إيران/ حزب الله” وقد بات المتهم الأول في استدراج البلد الى الانهيار الكامل، أما الخيار الآخر للتصعيد، أي الحرب مع إسرائيل، فإن إيران و”حزبها” يحرصان على تجنّبه لئلا يفاقم المخاطر داخلياً وخارجياً.
تفادياً للتصعيد في اليمن، كان هناك تحرّك أميركي وأممي وسعودي – خليجي لترجيح خطة متكاملة لوقف إطلاق النار وتعزيز المساعدات الإنسانية واستئناف التفاوض على حل سياسي. لم تكن طهران لتوافق على هذا المسار، لأن التفاوض في شأنه لا يجري معها مباشرة ولا يراعي ما تفترضه وتدّعيه من مصالح لها. لذلك أوعزت الى الحوثيين كي يفاوضوا للحصول على مكاسب ويواصلوا الضغط للسيطرة على مأرب. وبعدما أيقنت الأطراف المعنية أن المسعى الدبلوماسي قد أُفشل، بدا طبيعياً التوجّه الى تغيير الواقع الميداني، وهذا ما بدأ في مأرب واستمر في شبوة حيث تلقّى الحوثيون ضربة موجعة استشعرت إيران أن تداعياتها ستؤثّر في الجبهات كافة، لذلك أجازت القصف على الإمارات، لكنها أدخلت حرب اليمن في منعطف خطير يعكسه توصيف مجلس الأمن للهجوم بأنه “إرهابي”، وبموافقة روسيا والصين، وبأن اعتداءات الحوثي باتت “تهديداً للأمن والسلم العالميين”. أي أن حليفها يفقد أهليته لأن يكون جزءاً مهماً من أي حلّ مستقبلي.
المصدر: النهار العربي