حين خانَ الأمير الأحمر ذكاؤهُ الأمني: أبو حسن الذي قرع الباب الخطأ

نداء عودة 

لا اعرف الكثير عن ابو حسن (القائد الفلسطيني علي حسن سلامة)، لكنّ القليل الذي أعرفهُ او حفظتهُ في ذاكرتي الشفهيّة التي نمت معي منذ. ولادتي انا والحرب الأهلية اللبنانية معاً، بدا كثيراً مع السنوات التي جعلتني وجيلي، أي جيل الحرب، نطرح أسئلتنا على زمن مضى عشناه في الطفولة كما لو أنّه منامات ومشاهد خاطفة ولم نركّز في تفاصيله إلا حين كبرنا.
صودف أنّ قائداً في لواء كتيبة اليرموك التي قدمت من الاردن إلى لبنان وهو حسن أبو شنّار (ابو الامجد) سكن في الطابق العلوي للبناء الذي كنا نسكنه في منطقة بئر حسن، هناك كانت أحراج صنوبر محاذية واسعة استخدمها الفدائيون الفلسطينيون
لآلياتهم العسكريّة ومرابض مدفعيتهم حتى العام ١٩٧٧، وذات ظهيرة قرع ابو حسن سلامة باب بيتنا إذ أخطأ بيت حسن أبو شنار ابو الأمجد فدلّه والدي على مقصده بتهذيب يصل حدّ الخجل، وردّ الرجل الطويل الأنيق بالتأسّف والشكر، لم أكن أر تعابير والدي صاحب الشخصية القوية بهذه السعادة الطفولية وهو يتكلم مع الرجل وعندما أغلق الباب أدار رأسه بإستهجان المُنبَهِر وقال لأمي على الطريقة البيروتية “يلعن عرضو ملّلا رجّال”، إنبهر ابي بشخصية ابو حسن، فماذا قد تفعل النساء لو رأينه…؟

أن تتزوّج جورجينا فدائياً.. يا للغرابة

لاحقاً عرفت من هو هذا ال”يلعن عرضو مللا رجّال” عندما كبرت، ثم حاولت  أن أفهم ما الذي جعل جورجينا تعشقه وتتزوج منه، فقد كان أمراً مثيراً للغرابة لي في طفولتي،  أن تتزوج جورجينا ملكة جمال الكون اللبنانية بفدائي، وكان الفدائي كما رايته في طفولتي مناقضاً كلياً لجورجينا رزق بما يحيطها من هالة لبنانية مدينية مختلفة، على الأقل كان خيالي الطفولي يربط جورجينا بإحتفالات الكريسماس التي كنا نقضيها عند الأقارب في الأشرفية، وأمّا الفدائي القادم من الاردن او من مجتمعه الفلسطيني المحافظ فهو قَبَلي او بدوي ياكل بيديه وليس بالشوكة والسكينة، بالتأكيد ليس هذا الكلام عنصرياً، فالبدوي وابن العشيرة هو ابن الأصول، والشّهم الذي يستبسل دفاعاً عن أرضه ومبادئه وشرف كلمته، أما الغرابة فبإختلاف ثقافة الشخصين حدّ التناقض، ولكن، يبدو واضحاً أنّ جورجينا التي تعرّفت إلى أبو حسن عند الرئيس بشير الجميّل، حسبما أكد الكثير من الاصدقاء، أحبت فيه صفاتهُ القَبَلية ورجولته الفذّة التي حوّلتهُ قائداً، ورغم تحوّل ابو حسن الى شخصية برجوازية بإمتياز إلاّ أن مواصفاته كرجل مقاتل من مجتمع متأصّل بقيت فيه، بل امتزجت مع برجوازيته وأناقته ووسامتهُ التي لا توصف ببضع كلمات. صارت القوة ١٧ التابعة للامن الفلسطيني بإمرة ابو حسن، شغلتها مرافقة الملكة جورجينا أينما ذهبت، وأغلق أمن ال١٧ إحدى صالات السينما (وذاكرة بعض الناس تقول انها أحرقت) لمنعها من عرض الفيلم السينمائي الثالث الذي كانت جورجينا صوّرته قبل زواجها بأبي حسن. اما جورجينا  فكانت الأكثر سعادة بذلك.

يحيلني هذا التمازج في شخصية ابو حسن، الذي يمكن أن يكون ازدواجاً أيضاً، إلى دردشات جمعتني بواحد ممن تعلمت منهم في الصحافة اللبنانية وهو الأديب والصحافي عماد العبدالله، والذي يميزه ان روح الدعابة تحتلّ اكثر الموضوعات جدية عنده، حين قال عن ابو حسن سلامة بأنه نموذج عن شعب الجبّارين، أي الشعب الفلسطيني، أما لماذا يصبح هذا الشعب جبّاراً، فذلك لأنه يُحاصر بالشعور انه مرفوض ومهمّش، يحوّله هذا القهر لشخصية جبارة تريد أن تصنع فائضاً في الإبداع لتدافع عن حضورها وحضور هويتها، من هنا تحوّل ابو حسن القائد في شبابه إلى برجوزاي يرتدي بزّاته من أهم متاجر باريس، وحين تزوج (مرة ثانية) تزوج ملكة جمال الكون.
المشهد المُرعب الذي حملته منذ طفولتي، هو مشهد سيارة ابو حسن الكرايزلر الاميركية بعد إغتياله فيها، لقد رُكِنت السيارة تحت أشجار الصنوبر المحاذية لبيتنا، وطُلبَ إلى والدي وهو خبير تقني كان مسؤولاً فنيأ في كبرى شركات السيارات في بيروت، طُلب اليه معاينة السيارة التي إغتيل فيها ابو حسن، وقام الوالد بنهر شقيقي لانه احضرني معه إلى مكان السيارة فرايت الدماء وبقايا أشلاء، كان المشهد فظيعاً… لاحقني إلى أن قرأت عن “الأمير الأحمر” الذي أصاب الموساد الإسرائيلي بدوار فأطلقوا عليه بانفسهم هذا اللقب، بالتأكيد نجح ابو حسن سلامة في تسديد الهزائم للعدو في اكثر من عملية ضدّهُ حتى صار لقبهم له “الأمير الأحمر” يعبّر عن اذعانهم لاحترامه رغماً عنهم.
لكن الأفظع من المشاهد أيضاً، هو مشهد سيارة ابو حسن من شباك البيت مركونة في مكانها لثلاثة أشهر، يتفرّج عليها المارّة والأطفال وتُمحى عنها ادلّة على الاغتيال، ما أثار أسئلتي حول إهمال القيادات الفلسطينية آنذاك للسيارة والدلائل التي تحملها في اغتيال ابو حسن سلامة.

هل اسهم هذا الأمير بنهايته؟
لم تكن الثورة بجماهيرها وكوادرها وقياداتها تهتم بأمنها، وكانت قابلة للإختراق، ومثلاً كانت تستقبل اي زائر اجنبي على اساس انه قادم إلى بيروت للتضامن مع الثورة الفلسطينية او التعرف إلى أحوال اللاجئين في المخيمات، فهل تراخى ابو حسن وهو من أهم رجال الأمن على الإطلاق أمام بريق شخصيته الوسيمة الكاريزمية، وهل شعر بالاطمئنان كونه أصبح منسقاً أمنياً بين البيروتين الغربية والشرقية بضمانات دولية؟ حتى أمِنَ لفتاة ألمانية جميلة زعمت أنها فنانة تشكيلية فكانت هي التي خطّطت لإغتياله ونفذت خطتها بدقّة؟
طلبت الجاسوسة من ابو حسن ان يؤمن لها مكاناً مرتفعاً لتمارس فيه هواية الرسم، على أن ترسم المدينة والبحر، فما كان المكان الا قريبا من منزله في مينا الحصن، حيث رسمت الجاسوسة بدقة عالية المنطقة وفيها أربعة شوارع تؤدي إلى مكاتب قيادة منظمة التحرير الفلسطينية في محلة فردان ببيروت، وتم استئجار أربع سيارات من شركة “لينا كار” وتمّ تفخيخها ووُضعت سيارة في كل مسرب من المسارب التي سيسلك ابو حسن إحداها إلى مكتبهِ حتماً.
الأمير الأحمر هل خذله حسّه الأمني فتاه في جمال وانوثة الألمانية؟
هذا قليل من ذكرى اغتيال شخصية إستثنائية ينضم إلى فصول توالت من الاغتيالات التي تترك الغازها مفتوحة إلى ما شاء الله.

المصدر: الشراع

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى