استخدم الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش مصطلح «الإدانة» للغارة الجوية التي نفذتها طائرات التحالف صباح الجمعة على مركز اعتقال في مدينة صعدة، والتي ذهب ضحيتها حسب التقارير الأولية 60 حالة وفاة على الأقل وأكثر من 100 جريح بين نزلاء أحد المتعقلات. وأشار إلى أن الغارات الجوية شملت عدة أماكن أخرى من اليمن أدت أيضا إلى مزيد من الوفيات والإصابات بين المدنيين، بمن فيهم الأطفال. كما أدت غارة جوية على مرافق الاتصالات في الحديدة إلى تعطيل خدمات الإنترنت الحيوية بشكل كبير في معظم أنحاء البلاد. والذي أوجب الإدانة بصريح العبارة، رغم أنه عادة يتحاشى قدر الإمكان استخدام المصطلح، لأنه استخدم نفس المصطلح لإدانة الغارة التي شنها الحوثيون على أبو ظبي وأدت إلى مقتل ثلاثة مدنيين وإصابة ستة. لقد وصف مجلس الأمن تلك العملية في بيان صحافي، بأنها عملية إرهابية، بعد اجتماع يوم الخميس تحت بند «تهديدات السلم والأمن الدوليين» بناء على طلب من دولة الإمارات العضو الجديد المنتخب في المجلس منذ بداية هذا الشهر. ولا بد من إثارة السؤال المنطقي هنا: إذا سلمنا بأن الهجوم على أبو ظبي عمل إرهابي يجب أن يدان، فكيف لا نقر بأن الهجوم على مرفق مليء بالمحتجزين، من المفترض أنهم معارضون للحوثيين، لا يكون عملا إرهابيا شديد البشاعة والوحشية ويستحق الإدانة بأقوى العبارات؟ لهذا السبب أصدر الأمين العام بيانه المذكور الذي أدان فيه الهجمات الموجهة ضد المدنيين والبنية التحتية المدنية، وذكّر جميع الأطراف بالتزاماتها بموجب القانون الدولي الإنساني «بضمان حماية المدنيين من الأخطار الناجمة عن العمليات العسكرية، والالتزام بمبادئ التناسب والتمييز والحيطة». وبانتظار موقف من مجلس الأمن لنرى هل سيستخدم نفس المصطلح أم يتم التحايل عليه بضغط من الإمارات أو بخروج على الإجماع وتعطيل صدور أي بيان، فبيانات مجلس الأمن الرئاسية والصحافية لا تصدر إلا بالإجماع.
وكان أعضاء مجلس الأمن قد نددوا يوم 14 من الشهر الجاري بمصادرة الحوثيين واحتجازهم لسفينة «روابي» التي ترفع علم دولة الإمارات والتي تم السيطرة عليها واحتجازها قبالة ساحل اليمن في 2 كانون الثاني/يناير 2022. وحث المجلس على خفض التصعيد والعودة إلى المحادثات السياسية الشاملة وطالب أعضاء مجلس الأمن بالإفراج الفوري عن السفينة وطاقمها وأكدوا على ضرورة ضمان سلامة ورفاهية أفراد الطاقم إلى أن يتم إطلاق سراحهم.
هذه هي الصورة في اليمن الآن، الذي يعيش فصلا آخر من المواجهات الدموية التي اتسعت أخيرا وأصبحت رقعتها تشمل كل أنحاء اليمن والسعودية ودولة الإمارات والضحايا في كلتا الحالتين من المدنيين. فالمشهد اليمني الآن في منتهى التعقيد: غارات وغارات مضادة، توسيع رقعة القتال لتشمل عاصمة الإمارات والملاحة البحرية والمنشآت الحيوية في الدول الثلاث اليمن والسعودية والإمارات.
المحاولات اليائسة لاحتواء الصراع
من جهة أخرى لم تتوقف الجهود الدولية لمحاولة احتواء الصراع الدموي والعمل على إسكات صوت السلاح لإعطاء فرصة لصوت العقل. فلا يكاد يمر أسبوع أو إثنان من دون أن تتقاطع طرق المبعوثين الأمريكي والأممي في منطقة الخليج بحثا عن فرصة للسلام في اليمن دون نتيجة. ففي الوقت الذي غادر فيه هانس غروندبرغ، المبعوث الخاص للأمين العام، العاصمة السعودية الرياض، بعد أن اختتم زيارة اجتمع خلالها مع نائب وزير الدفاع السعودي الأمير خالد بن سلمان، ووزير خارجية اليمن أحمد بن مبارك، وغيرهما من المحاورين السعوديين واليمنيين، وصل المبعوث الأمريكي لليمن، تيم ليندركنغ، الرياض ضمن جولة بدأت في لندن وستشمل منطقة الخليج لتحريك العملية السلمية التي تحاول الولايات المتحدة أن تدفع بها دعما لجهود الأمم المتحدة، لا بديلا عنها. المبعوثان طلبا من الأطراف المعنية وقف التصعيد العسكري والعمل على التهدئة والمشاركة في عملية سلام تيسرها الأمم المتحدة ويقودها اليمنيون أنفسهم.
وصرح غروندبرغ بعد مغادرة الرياض: «بحثت مع الأمير خالد بن سلطان فرصة مناقشة سبل إنهاء الحرب في اليمن وضمان الاستقرار في شبه الجزيرة العربية واتفقنا على العمل سوياً بشكل وثيق وأتطلع إلى مواصلة التعاون». وأكد المبعوث الأممي الخاص إلى اليمن أنه لا يمكن أن يؤدي التصعيد العسكري في اليمن إلى حلول مستدامة، وشدد على ضرورة دعم المجتمع الدولي ومجلس الأمن لإنجاح جهود التوصل إلى حل شامل عن طريق التفاوض.
لكن الصورة الآن تبدو أبعد ما تكون عن طريق السلام والمفاوضات والتهدئة.
لماذا تتعثر عملية السلام في اليمن؟
تبدل على اليمن لغاية الآن أربعة مبعوثين خاصين هم المغربي جمال بنعمر والموريتاني إسماعيل ولد الشيخ أحمد والبريطاني مارك غريفيث والآن السويدي هانس غروندبيرغ. وكادت الأمور تصل إلى مرحلة اختراق لغاية نهايات عام 2020. وقد قدم غريفيث خطة سلام متكاملة في تموز/يوليو 2020 أسماها «البيان المشترك» وطلب من الأطراف التوقيع عليها والانطلاق نحو مفاوضات لتنفيذ الخطة. وتنفذ الخطة على ثلاث مراحل: أولا: وقف شامل لإطلاق النار في جميع أنحاء اليمن، بما في ذلك الجبهات التي تشارك فيها جهات غير حكومية في مواجهات مع الحوثيين، وثانيا: يتم تعاون جميع الأطراف مع الأمم المتحدة لتسهيل وصول المواد الغذائية لكل أبناء الشعب اليمني المحتاجين خاصة من الأطفال والنساء والذين يصل عددهم إلى أكثر من 16 مليونا، على وجه السرعة تفاديا لكارثة إنسانية فصولها الأولى بدأت منذ زمن. وثالثا: استئناف المفاوضات للوصول إلى توافق على تشكيل حكومة انتقالية تشمل جميع مكونات الشعب اليمني تسير أمور البلاد ضمن خريطة طريق متفق عليها تشمل الاستفتاء على دستور جديد والتوجه نحو الانتخابات الشاملة التشريعية والرئاسية.
لا أعتقد أن هناك خطة بديلة. فما الذي تغيّر؟ ولماذا تراجعت الجهود السلمية واتسعت المواجهات العسكرية على كل الجبهات؟
هناك ثلاثة أسباب:
أولا: بعد رفع إدارة بايدن اسم الحوثيين من قائمة الجماعات الراعية للإرهاب في شباط/فبراير 2021 وفي نفس الوقت سحب العديد من القوات العسكرية والأسلحة المتطورة من منطقة الخليج وربط بيع المعدات العسكرية باحترام حقوق الإنسان واستخدام الأسلحة لأغراض دفاعية فحسب، أعتقدت الجماعة بأن شوكتهم قد تعززت وأن حربهم شرعية لا غبار عليها وأنهم الآن قادرون على حسم المعركة عسكريا فوسعوا من عملياتهم العسكرية لتشمل أراضي السعودية وفتحوا عدة جبهات جديدة وعززوا قدراتهم التسليحية بدعم من إيران وزادت ثقتهم بإمكانية حسم المعركة عسكريا.
لقد وصف غروندبيرغ التصعيد في الأسابيع الأخيرة ضمن أسوأ ما شهده اليمن منذ أعوام، الأمر الذي زاد من تعريض حياة المدنيين للخطر. وشدد على أن هذا التصعيد يقوّض فرص الوصول إلى تسوية سياسية مستدامة لإنهاء النزاع في اليمن.
ثانيا: اختلاف المواقف السعودية الإماراتية. انسحبت الإمارات تماما من منطقة الحديدة واتجهت إلى الجنوب وضاعفت من دعمها للمجلس الانتقالي الجنوبي الداعي لانفصال جنوب اليمن عن شماله. كما وسعت الإمارات من سيطرتها على الجزر اليمنية والموانئ تاركة أمر الحرب للسعودية أساسا وأصبحت مشاركتها في بعض الغارات الجوية رمزية أكثر منها حقيقية.
ثالثا: قناعة السعودية أنها لا تستطيع أن تذهب لمفاوضات جادة من موقع ضعف أقرب إلى الهزيمة. ففي الوقت الذي بدأت تحاور إيران وتطرح مشاريع للتسوية أقدمت على تكثيف غاراتها الجوية على كل المناطق التي يسيطر عليها الحوثيون. غارات جوية وراء غارات كي توصل رسالة للحوثيين أنها قادرة على مواصلة الحرب منفردة وأنها لن تسمح للحوثيين بتحقيق انتصار شامل. فتصعيد الحوثيين واجهته السعودية بتصعيد مماثل في عدد وحجم واتساع رقعة الغارات الجوية.
رابعا: ارتباط المسألة اليمينة بمسألة المفاوضات الإيرانية الأمريكية للعودة للالتزام بالاتفاقية النووية الموقعة عام 2015 فالحوثيون ورقة مفاوضات في يد إيران لن تسقطها ما دامت المفاوضات جارية بين الطرفين. فإيران تذهب للمفاوضات ومعها أوراقها كاملة سواء الميليشيات التابعة لها أو برنامجها للصواريخ طويلة المدى أو تحالفاتها الجديدة مع الصين وروسيا. الورقة اليمنية مهمة ولا يمكن لإيران أن تسمح بحسم المواجهات إلا بعد التوصل لاتفاق مع الولايات المتحدة يلبي الحد الأدنى على الأقل من المطالب الإيرانية.
والنتيجة أننا نعتقد أن الحلول السلمية مؤجلة الآن بانتظار التطورات على المحور الإيراني الأمريكي.
المأساة الإنسانية
ومع هذا التصعيد غير المسبوق وانسداد كل آفاق الاختراق السياسي على المدى القريب، تكتب تفاصيل مأساة إنسانية لا مثيل لها حيث أبلغ مكتب منسق الشؤون الإنسانية مجلس الأمن أخيرا أن هناك 16 مليون شخص في اليمن بحاجة ماسة إلى مساعدات يبلغ مجموعها حوالي 3.9 مليار دولار، حيث يعاني الملايين منهم من الفقر والجوع ومن قيود شديدة على حريتهم في الحركة. هؤلاء الجوعى سينتظرون طويلا قبل وقف القتال، هذا إذا بقوا على قيد الحياة بسبب الجوع أو الأمراض أو الصواريخ المنهمرة على رؤوسهم من الجو.
المصدر: «القدس العربي»