هي فرصة ذهبية لا تعوض لاصحاب المخيلة الواسعة كي يجزموا بأن تراجع الثنائي الشيعي عن مقاطعة جلسات حكومة الرئيس نجيب ميقاتي، ما هو إلا مؤشر على قرب اللقاء المباشر في فيينا بين رئيسي الوفدين الاميركي والايراني روبرت مالي ومحمد باقري كني، اللذين تبادلا حلال الجولات الثماني الماضية من المفاوضات النووية عددا من الرسائل المكتوبة حول البرنامج النووي الايراني وعقوباته وعواقبه.
ثمة من يشطح في الخيال الى حد القول أن قرار التراجع عن المقاطعة، قد إتخذ في فيينا، وورد بوضوح في نص تلك الرسائل المثيرة، التي تضمنت ذِكر إسم القاضي طارق البيطار شخصيا، مثلما إحتوت على الاشارة الى زيارة وزير خارجية كوريا الجنوبية تشوي جونغ كون الى فيينا، الاسبوع الماضي الى فيينا، حيث إلتقى رؤساء الوفود الستة المفاوضة، وأبلغهم بقرار حكومة بلاده دفع تعويض جزائي قدره 60 مليون دولار لشركة إيرانية، من أصل سبعة مليارات دولار هي ثمن مشتقات نفطية إيرانية إشترتها كوريا الجنوبية من إيران، خضعت للعقوبات الاميركية.
العودة الشيعية الى حكومة ميقاتي، هي، بهذا المعنى الخصب، ترجمة لقرار إيراني مباشر، وبادرة إيجابية تجاه الاميركيين الذين وافقوا بشكل خاص، على تخفيف العقوبات على كوريا الجنوبية لكي تحرر جزءاً بسيطاً من المستحقات الايرانية المجمدة منذ العام 2018.. يعادل قيمة قرار الثنائي الشيعي المفاجىء بإنهاء تعطيل العمل الحكومي في لبنان، بلا مقدمات، ولا إعتذارات طبعا.
وحتى يتبين الخيط الابيض من الخيط الاسود للمخيلة اللبنانية، يمكن تلمس معالم القرار الشيعي الطارىء، بمعايير محلية واقعية، تسمح بتفكيك نظرية “فائض القوة” المنسوب الى الشيعة، ونسفها من الأصل، بوصفها فائضاً من الضعف لدى خصومهم..ومقدمة ربما لمسار شيعي جديد، ينافي كل ما سبق من خروج على الدولة ومؤسساتها طوال العقود التي أعقبت دخول الجيش السوري المشؤوم الى لبنان في حزيران/يونيو العام 1976.
في البدء، لا أحد يشك في أن المقاطعة الشيعية كانت موجهة في الاساس، ضد الرئيس ميشال عون وعهده أكثر من أي طرف آخر. هو الذي شعر بالحرج، ثم بالحصار، ثم بما يشبه العزل، جراء تجميد عمل الحكومة، قبل أشهر قليلة من نهاية ولايته الرئاسية. وهو الذي تململ من التفاهم مع حزب الله وشحن النزاع مع حركة أمل..وهو بالتأكيد الذي ضغط وتوسل من أجل تحرير الحكومة من الأسر. وبالتالي يمكن أن ينسب إليه بعض دوافع القرار الشيعي، الذي لم يرد فيه التلميح الى أنه جاء استجابة لمناشدات رئيس الجمهورية أو لضغوطه.
لكن جوهر المعركة الشيعية التي إستخدمت فيها مختلف أنواع الاسلحة المحرمة، لا سيما الهجوم المسلح على منطقة عين الرمانة، كانت مع مؤسسة القضاء اللبناني، التي صمدت وقاومت الحملات على كيانها وأفرادها ودافعت عن نفسها وعن إستقلاليتها، ورفضت أن يدفع القاضي طارق البيطار وتحقيقه المثير للجدل أصلاً، ثمن الصراعات السياسية المدمرة للدولة ومؤسساتها جميعا.
ولن يكون من المجازفة القول ان السلطة القضائية حققت إنتصاراً عزيزاً على الثنائي الشيعي، الذي لطالما كرِه القضاء والمحاكم والمحاكمات على أنواعها، إضطر للمرة الاولى الى التراجع، ولو تحت ضغط الحاجة الى إعادة تحريك عجلة الحكومة من أجل وقف الانهيار المعيشي والتمهيد لاقرار الموازنة العامة بإعتبارها شرطاً رئيسياً من شروط صندوق النقد الدولي لاصدار شهادة حسن سلوك للدولة اللبنانية، وتاليا تحرير القروض المالية المطلوبة لإنقاذ لبنان من مأزقه.
إنخراط الشيعة في البحث مع صندوق النقد بالذات عن سبل الانقاذ، دليل واقعية نادرة بلا شك، وبرهان على أن الطائفة التي لطالما نفرت من المؤسسات الدولية على إختلافها، باتت جاهزة لمثل هذه المغامرة الجديدة على الثقافة الشيعية، حتى إذا كانت تستوحي من تجارب اليسار ما يعطل أي هيمنة خارجية على السيادة اللبنانية.
وحسب هذا المعيار لن يكون تراجع الشيعة هزيمة، بل خطوة تستحق الترحيب..حتى ولو جاءت رداً على مبادرة كوريا الجنوبية بتحويل مبلغ ال60 مليون دولار الى إيران!
المصدر: المدن