لست مع عبادة الفرد مهما كانت مكانته وعظمته , لكني تجاه حملات التشويه والحقد التي مازال يجابه بها عبد الناصر أرى ضرورة في استعادة صورة ذلك الزعيم العربي المخلص الشجاع والذي كان له شرف المحاولة الجادة للنهوض بمصر واستعادة وجهها العربي .
عبد الناصر تظل صورته مرتبطة بالوحدة العربية , ومن أجل ذلك بقي الهجوم عليه ميتا بمثل ماكان الهجوم عليه حيا , هم يريدون لنا أن ننكر الهوية العربية ونكره الوحدة العربية بتشويه مرحلة عبد الناصر .
تراث عبد الناصر وتصفية الحساب
ثمة حساب لم تتم تصفيته بعد -على ما يبدو- بين تيارات فكرية متعددة ، وأهواء ، ومشاعر قبلية مترسبة ، وثارات شخصية وشبه شخصية ، وخلف ذلك بعيدا عنه في الكواليس خوف متجدد من انبعاث روح الأمة العربية ، ومن البدهي أن كل من يفكر في امكانية ذلك الانبعاث صديقا كان او عدوا سيصل الى أنه سيستند على آخر حلقاته التي انقطعت وهي التجربة الناصرية شئنا ذلك أم أبينا لافرق.
هكذا يكون لاستهداف التجربة الناصرية في الحقيقة مغزاه الخاص اليوم ، ليس فقط كمجرد تصفية حساب ، فلا أحد يهتم كثيرا بمحاسبة الموتى ، ولكن بالضبط لوعي كبار المستهدفين ( اللاعبين الأصليين ) بأهمية تصفية تلك الحلقة لمنع الارتكاز عليها في انبعاث روح الأمة العربية ثانية.
وفي هذا السياق يتم الرمي على دريئتين ، الدريئة الأولى هي تجربة الوحدة السورية – المصرية ، التي يتم تصويرها اليوم باعتبارها الخطأ التاريخي الأكبر ، آكلة الديمقرطية السورية ، وحاضنة الاستبداد ، بل يذهب البعض لاعتبارها الخطيئة الأصلية التي أنزلت المجتمع السوري من جنة الديمقراطية.
والدريئة الثانية هي شخصية عبد الناصر ذاتها ، فهو ديكتاتور، شعبوي، المؤسس لعبادة الفرد ، بائع الأوهام والشعارات الخ..، وتأتي هزيمة حزيران ك(برهان نهائي) على هزيمة تجربة وفكر ومرحلة بكاملها.
انتهى الأمر ، ومن يفكر في البقاء في ذلك الخندق سيتحول الى مخلوق من كوكب آخر، الى ديناصور أو مستحاثة فكرية.
حسنا اذا كان الأمر بهذه السهولة فلم يتجدد الهجوم باستمرار على جثة الوحدة وعبد الناصر؟ افعلوا اذن أيها الفرسان ما قاله السيد المسيح : دعوا الموتى يدفنون موتاهم.
لكن لا ، فشبح الوحدة وعبد الناصر مازال يقض المضاجع ، لم يمت بعد تماماً ، لذا لامفر من تصويب السهام ضده باستمرار وفي كل مناسبة.
( أيتها الحرية كم من الموبقات ترتكب باسمك )
أجل أيتها الديمقراطية كم من الدجل والزيف والأحقاد يتم تفريغها باسمك.
أثناء عهد الوحدة بين مصر وسورية كان ثمة تياران سياسيان يتصارعان على أرضية الفكر القومي – الاشتراكي ، أحدهما كان يرى أن الديمقراطية ضرورة لاستمرار الوحدة وبقائها ، وأن النضال ضد الاستبداد يجب أن لايمس انجاز الوحدة العظيم ، بينما رأى الآخر أن الحل هو في الانفصال.
هل كان بقاء الوحدة ممكنا ؟ لم لا؟
هل كان ممكنا النضال من أجل الديمقراطية داخل الوحدة ، لم لا؟
الاستبداد داخل دولة الوحدة لم يكن يقاس بما عرفته سورية بعد ذلك لا من قريب ولا من بعيد.
هانحن الآن بعد الانفصال بستين سنة نكافح من أجل الديمقراطية دون جدوى ، هل سهل الانفصال النضال من أجل الديمقراطية؟
بدون شك كان حل الأحزاب في سورية والغاء النظام البرلماني خطأ بالغا ، لكنه لم يكن خطأ الوحدة ، كان خطأ السياسيين الذين قبلوا بذلك ، ومثلما تسرعوا في ارتكاب ذلك الخطأ تسرعوا ثانية في ارتكاب خطأ أكبر هو الانفصال.
ليس من العدل تحميل الوحدة وزر خطأ السياسيين الذين لم يتحملوا مسؤولياتهم في المحافظة على أسس الديمقراطية ، بعد الوحدة أصبح لدينا كيان سياسي يفترض صيانته والدفاع عنه والعمل من خلاله وليس تدميره.
بتدميره لم يتم استعادة الديمقراطية المفتقدة ، كانت هناك مرحلة انتقالية محدودة بعدها أصبحنا نترحم على ديكتاتورية الوحدة ولا نزال.
أكثر من ذلك بعد8 آذار 1963 كانت سورية على مفترق ، اما أن يتشكل ائتلاف يضم الناصريين والبعثيين ( يمكن توسيعه لاحقا ) يكون مقدمة لاستعادة الوحدة ، ولنلاحظ أن مثل ذلك الائتلاف سيعني التعددية والتوجه نحو الديمقراطية ، او ( وهو ماحصل ) استفراد فئة بالحكم وبالتالي السير نحو الديكتاتورية وتكريس الانفصال ، أقصد أن الطريق الوحدوي كان هو ذاته طريق التعددية والديمقراطية ، بينما الطريق الآخر طريق تكريس الانفصال وأيضا السير نحو الديكتاتورية بذات الوقت.
اذن لماذا هذا الدجل في ربط الفكر الوحدوي بالديكتاتورية وربط الانفصال بالديمقراطية ؟
قبل الوحدة ، كما بعد الانفصال ، عرفت سورية أشكالاً لاحصر لها للاستبداد ، هل كان حسني الزعيم ديمقراطياً ، وكذلك أديب الشيشكلي ، وهل كان النظام الحاكم في سورية التي تكرس انفصالها بعد آذار ديمقراطياً ؟
لكن بعد كل شيء ، واحتراماً لتجربة الوحدة ذاتها ، يتوجب الاعتراف أن الديمقراطية هي التي أنتجت الوحدة ، وأن تصفية الديمقراطية سمحت بالانفصال ، لن نبرر لأي من اشترك في الانفصال خطأه الفادح ، لكن لنترك ذلك للتاريخ ، فقط ما يهم هو القول لأولئك الذين لايملون من اخراج سكاكينهم لطعن تجربة الوحدة في كل مناسبة وتحت أكثر اللافتات بريقا لن تفلحوا قط.
فتجربة الوحدة السورية – المصرية أصبحت في وجدان العرب من المحيط الى الخليج ، وكونها حصلت مرة ، يعني امكانية أن تحصل ثانية ، ليس بالضرورة في ذات السياق ، ولا بذات الشكل ، فالناس أصبحت تعرف أكثر من أي وقت أن الديمقراطية هي شرط الوحدة ومدخلها ، مثلما ان الديكتاتورية حارسة للتجزئة.
المصدر: صفحة معقل زهور عدي