وافق مجلس النوب الأردني، كما كان متوقعاً، على تعديلات جوهرية على الدستور الأردني، تضع في موضع التساؤل وعودا رسمية بإرساء أسس نظام ملكي برلماني حقيقي، وسط تقارب متجدّد مع إسرائيل، في تجاهل تام لتنامي الاحتقان الشعبي والاستياء والخوف من استمرار ربط الاقتصاد الأردني، وخصوصا قطاع الطاقة، مع الدولة الصهيونية.
الملاحظ أن القصر، بمساندة الأجهزة الأمنية، قد نجح في كسب ولاء نخب جديدة مرشّحة لمواقع في الحكومات ومؤسسات الدولة، انبرت تدافع عن التعديلات في فرحةٍ غير مستترةٍ لانضمامها إلى نادي المتنفذين. كما نجح القصر في إخماد أصوات المعارضين في مجلس النواب لكل ما تضمنته التعديلات والإضافات، السلبية والإيجابية على حد سواء، لكن نصر القصر منقوص؛ فمعظم الشعب الأردني يبقى خارج هذه النخب، عدا أن رموزا من النخب القديمة، من رؤساء سابقين مثل طاهر المصري، بدأت تحذّر من مستقبل قاتم جرّاء اتساع الهوة بين صانع القرار والشارع الأردني، فالمطلوب كان ولا يزال توسيع المشاركة السياسية وضمان استقلالية فروع الدولة، التشريعية والتنفيذية والقضائية، لكن التعديلات تشير إلى عكس ذلك.
وفقا للإضافات على الدستور، سيتم تشكيل مجلس أمن قومي، يشرف على جميع القرارات في البلاد، مقلّصاً دور الحكومة والبرلمان والقضاء، فلن يكون هناك دور لأي منهم إلا بالاسم، وإن كان المجلس قام بتغيير يبدو مهما على المقترحات المقدّمة من الحكومة، باشتراط ألا يكون الملك رئيسا للمجلس المقترح، حتى لا يتحمّل تداعيات قراراته، خصوصا أن تشكيل المجلس ووضعه فوق الحكومة يعرّض الملك للارتدادات المباشرة لقرارات الجسم الجديد الوصي على الدولة والشعب الأردني. ولكن هذا التعديل المهم لن يعفي الملك من المسؤولية، فإنشاء مجلس أمن قومي فوق مؤسسات الدولة يأخذ شرعيته ومصدر سلطاته من الملك مباشرة، وتضعه في وجه أي عاصفةٍ محتملة. الأهم هنا لماذا لجأ القصر إلى دفع الحكومة إلى تقديم هذه التعديلات الدستورية وتشكيل مثل هذا المجلس؟ ليس الجواب واضحا، ولكن، في المحصلة، يتكشف أن لدى صانع القرار قناعة بأن هناك قرارات كبيرة، وقد تكون مصيرية، يجب أن تكون خاضعة لقرار مركزي حاسم لا نقاش فيه، وهذا بالضبط ما يخيف أغلب الأردنيين.
لنعد أولا إلى الخطوات والأجواء التي سبقت سقوط قنبلة التعديلات الدستورية، لأنها، كما اتضح الآن، جاءت مترابطة ومتسلسلة، ففي البداية تكاثرت التصريحات عن ضرورة التحديث وتشجيع الشباب الأردني في الانخراط في الأحزاب السياسية، في تناقضٍ تام مع أجواء التحريض الأمني ضد الأحزاب، فقد تم خلال السنوات الأخيرة استدعاء “النشطاء الجدد”، وتوجيه سؤال محوري لهم: “هل أنتَ/ أنتِ عضو في حزب سياسي؟”، أي أن عليهم إثبات أنهم ليسوا أعضاء في الأحزاب، فما معنى هذا الحماس المفاجئ للقصر، وخصوصا لمسؤولين سابقين للانضمام إلى الأحزاب؟ تكشّف الجواب مع تشكيل اللجنة الملكية لتحديث المنظومة السياسية، قد ثبت من المناقشات الداخلية ومن مخرجات اللجنة أن الدعوة إلى الانخراط في الأحزاب تأتي في سياق إنتاج قانونَي أحزاب وانتخاب يسمح بإعادة تشكيل الحياة السياسية في الأردن، بحيث يجري قطع تدريجي، وثم نهائي، مع أي تراث وتاريخ لأحزاب المعارضة في الأردن، والبدء من جديد من خلال أحزاب يتم تشكيلها في شبه رعاية رسمية من الدولة، فما يجري الآن هو تشجيع أجهزة الدولة اجتماعات شبابية وتشكيلات غير بعيدة عن مسؤولين سابقين مشاركين في تصنيع مرحلة جديدة، لا ترتكز إلى مصالح طبقية أو برامج ذات توجه مختلف للدولة، تضمن “تعدّدية” اسمية وظاهرية من دون أن تتعامل مع القضايا الوطنية الاجتماعية خارج نطاق أصحاب الرعاية.
تفريغ المؤسسات من دورها وإنشاء أحزاب تسع “قبضة اليد” خطوتان مكملتان وضروريتان لتعديلات دستورية تُقصي المؤسسات والأحزاب من أي دور فاعل، وكأن المطلوب إحداث شلل كامل على شكل تركيب مؤسسات جماهيرية غير حقيقية على شكل أحزاب، يجري الإعداد لها جيدا، بعد أن تم احتواء عدد من شباب حراك أعوام 2012 – 2014 والعمل على نشطاء جدد، لتبوّؤ قيادة أحزاب هلامية، والقضاء على وعي جمعي وطني تحرّري. تبدو الصورة انعكاسا متخلفا ورجعيا لتكنولوجيا الهيلوغرامي، حيث لا يعرف المرء ما هو حقيقي وملموس، وما هو إلا صورة غير ملموسة.
الملموس والحقيقي الآن أننا نرى تركيزا للصلاحيات في يد الملك، وتقاربا غير مفهوم مع إسرائيل، واجتماع وزير الدفاع الإسرائيلي، بيني غانتس، المعلن في عمّان، مع الملك عبدالله الثاني، يتضمن رسائل واضحة إلى واشنطن والشعب الأردني. الأولى أن الأردن يتعاون مع تسويق التطبيع وضمان “الهدوء”، وهو تعبير استخدمه بيان الديون الملكي عن الزيارة، أي عدم اتخاذ خطوات تشجع الشعب الفلسطيني أو تثيره، لتفجير انتفاضة ضد الحكومة الإسرائيلية القريبة من إدارة الرئيس الأميركي، جون بايدن. أما الرسالة إلى الداخل الأردني فهي ببساطة أن العلاقة مع إسرائيل ثابتة وغير قابلة للنقاش.
تثير التعديلات مقرونة “بمصالحة أردنية – إسرائيلية”، بغرض إنهاء التوتر الذي ساد في عهد رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق، نتنياهو، شكوكاً موجودة، وإن كانت ليست أكثر من سيناريو تمهيدا لقبول حل نهائي، وإن ليس في المقبل القريب، لكنه حل قادم، سواء بعد أربع سنوات أو عشر، لتصفية القضية الفلسطينية، على حساب الأردن. ومن هنا، إلى حد ما، انطلقت شعارات معارضة لإضافة كلمة أردنيات إلى جملة “الأردنيون متساوون في الحقوق والواجبات”، فالخوف من إفراغ الأراضي الفلسطينية في ضوء استعار الهجمة الاستيطانية حقيقي، وعليه تم تفسير إضافة جمع المؤنث إلى خطة لتجنيس أبناء الأردنيات المتزوجات من فلسطينيين. والخوف من الخطط الإسرائيلية حقيقي، لكن هناك بعد مخيف في تداعياته الداخلية، إذ إن شراسة اللغة المعارضة لجمع المؤنث هي أيضا نتيجة عقود من بثّ الإقليمية العنصرية التي جعلت من الفلسطيني أكثر خطراً على الأردن من إسرائيل نفسها، فهناك رعب من تغيير ديمغرافي يعطي الفلسطينيين الأغلبية، وهو مقرونٌ بالخوف على وظائف، وأحيانا على مواقع في مؤسسات الدولة، بحيث يعمي البصر والبصيرة.
الجدل الدائر بشأن إضافة جمع المؤنث في تشريعات الدولة محافظ في جوهره السياسي والاجتماعي، فالمرأة تتحمّل عبء “الفلتان الأخلاقي”، وعبء الحفاظ على الأردن، خصوصا حين تتزوج فلسطينيا، ولكن النتيجة هي خلط بين مخاوف مشروعة مع فكر محافظ ومخاطر حقيقية يجب أن تتحد الجهود في مواجهتها، فالخلط بين مصادر الخطر يحيد النظر عن مصدر الخطر الرئيسي.
ما نشهده ليس إلا مقدمة، والاستمرار في السيناريو الرسمي يعمّق الأزمة ويقسم المجتمع عموديا، إلا إذا انتبه القصر إلى أن مقوّمات الاستقرار موجودة في الأردن، وليس في واشنطن.
المصدر: العربي الجديد