المحنة السورية اليوم هي مآل لعقود خمسة من العيش القسري وسط القمع الممنهج وأقبيته، إنها نهاية رهانات أخيرة لجيل من أتباع خطابات شعبوية، تقدس الفرد القائد، وتحوّل الفساد والكذب مدماكين لبناء الولاء وتكوين القاعدة “الجماهيرية” وتجييشها.
إننا نعيش، منذ الحراك الشعبي في آذار/مارس 2011، زلزالاً شاملاً، لا بدَّ من دراسته بروية ونظرة نقدية واستخلاص دروسه وعبره. فبعد المحنة السورية بات واضحاً وضرورياً حاجتنا إلى مواجهة الذات بمصداقية وعقلانية، من أجل تجاوز السلبيات التي تنتشر في بنياننا السياسي والثقافي، والعمل بكل جهد مخلص لإصلاحها بما يحقق الصالح السوري العام.
إننا نتهرب من تحمّل المسؤولية وإلقائها على الغير، ونتحدث عن المؤامرات التي تُدبر من الخارج لتغطية العجز عن التدبير في الداخل، ولا نقرُّ بالهزيمة لكي نتعلم من الأخطاء ونستفيد من التجارب والشواهد. هذا دأبنا في مساعينا السورية: نتستر على الآفات التي هي أصل المشكلة، ونُرجئ فتح الملفات التي تحتاج إلى الدرس والنقد.
النظام الاستبدادي الذي ألّه الفرد الحاكم، وامتهن كرامة الشعب وأذلّه وأرعبه بالقمع الوحشي، وأشاع الفساد، واضطهد الأحرار، وأعطى دوماً القدوة السيئة في الكذب والتزوير والتعصب والمحاباة، وفرّط في استقلالية القرار الوطني. هذا النظام الفاسد هو الذي أهدر قوانا حين تعامل مع مطالب الشعب من أجل الحرية والكرامة بالرصاص الحي والبراميل المتفجرة، مما أدى إلى مئات الآلاف من خيرة المواطنين الذين عُذّبوا وسُجنوا أو قُتلوا أو نزحوا عن ديارهم أو أُجبروا على الهجرة واللجوء.
ولكن فلننظر إلى واحد من معوّقات تقدمنا، وهو الفرق بين الكلمة ومعناها، بخلاف الوضوح والتطابق بين المعنى المقصود منها في ثقافة عصرنا، وهو الشرط الأساسي لعدم التشرذم في الحركة الاجتماعية المساندة لتحقيق أي هدف عام، وهو الحبل الذي يربط المجموع ببعضه، فحين يقع التضارب بين الكلمة المنطوقة ومحتواها الفعلي يحدث التشوش، والتفكك، والتقاعس، واللامبالاة، وعدم الجدية، وضياع الالتزام.
كلما تابعنا نزيف الدم السوري تأكد لنا أكثر من أي وقت مضى أنّ هناك طريقاً واحداً وسبيلاً واضحاً، وهو القيام بعملية مراجعة شاملة لجوانب حياتنا ومواجهة شُجاعة مع مشاكلنا ومصارحة أمينة لشعبنا الذي لا يقتات بالشعارات ولا يعيش بالأحلام ولا تقوده الأوهام، إذ لا بدَّ من وعي صادق ومكاشفة كاملة تطفو فيها الحقائق على السطح وتختفي منها الازدواجية التي نعيش فيها.
إذ لا يمكن الاستمرار على النهج القديم، الذي أدى بالحراك الشعبي السوري إلى إضاعة البوصلة والطريق. الاستمرار في تجاهل الواقع، ونكران التحولات العميقة التي شهدتها مسيرة الصراع من أجل الحرية والكرامة على عموم الأرض السورية، لا يساعد على التقدم ولا يفتح أي طريق سالك من أجل إنقاذ رهانات الشعب السوري الأساسية، وإيجاد شروط خروج الملايين من أبنائه من حياة التشرد اللاإنسانية.
عشر سنوات ونيّف على انطلاق الحراك الشعبي فترة ليست قصيرة لاختبار أحوال المؤسسات الرسمية للمعارضة وقدراتها، وللتأكد من عجزها وتقصيرها في مواكبة الحراك، وفي بناء قنوات للتواصل والتفاعل معه ومده بأسباب الدعم والاستمرار، وهي ثغرة كبيرة لثورة، جاءت مفاجئة وعفوية، وعطشى لقوى سياسية تقودها، ولشخصيات ورموز تاريخية تتصدر صفوفها.
فبخلاف ما كان ينبغي أن يكون عليه الخطاب السوري المعارض، من جدية ومسؤولية وقدرة على توصيف الواقع وتحديد مشكلاته، ووضع الحلول لها، ودفعها على طريق التنفيذ عبر خلق أدوات وآليات تنفيذية. فقد بقي خطاب عام، لا يذهب إلى المطالب المحددة، ويركز على الشعارات العامة، بدل أن يركز على المطالب والأهداف ذات المحتوى. وهو خطاب صراعي، يخوض في الصراعات، أكثر من ذهابه إلى التوافق. وتفصيلي، أي أنه يخوض في الجزئيات دون أن ينظر إلى روابطها بالقضايا العامة. وملتبس، بحيث تُفهم منه في بعض الأحيان أشياء غير تلك التي يقصدها أصحاب الخطاب، بل إنه في أحيان يتضمن التناقضات بحيث يصير المتلقي عاجزاً عن معرفة الهدف من الخطاب.
لا نستطيع إعادة تكرار التاريخ وصنعه على طريقة سابقة، إننا نقرأ التاريخ لاستيعاب الحاضر، فالماضي مضى وانقضى، ولكنه شكّل الحاضر ويحاصره ويؤثر في المستقبل حتى يكاد يصنعه على صورته. ولأنّ قراءة الحاضر مُختلَف عليها، فإنّ قراءات الماضي أيضاً متعددة ومختلَف عليها، ولم يعد غريباً القول: إنّ لنا تواريخ وليس تاريخاً واحداً، والقراءات المتعددة للتاريخ مشروعة. لذلك، علينا الكف عن محاولة حشر أنفسنا في صياغة سردية واحدة لثورتنا، لأنّ الواحدية شكل قمعي لكل أنواع التطلع الجمعي للبشر، لا بالمعنى السياسي فحسب، بل بالمعنى الفكري الأشمل.
للوصول إلى هدفنا، علينا العمل على محاور أربعة:
– محور داخلي يحدد صورة النظام البديل الذي يريده الشعب السوري، ولا يكفي أن نقول إنه سيكون ديمقراطياً، ولا بدَّ من تحديد نمط دولته، الذي سيقوم بتوافق جميع المكوّنات الوطنية السورية.
– فتح باب الحوار مع جميع قوى الداخل والخارج، للتفاهم على محددات للعمل الوطني. هذه المحددات هي حاضنة يضع الجميع تفاصيلهم العملية والنظرية في ضوئها، ويرون أنفسهم وغيرهم بدلالتها، ويلتزمون بها نواظم عمل وطني يعني خروجهم عليها تخريبه.
– تشكيل قيادة سياسية موحدة، تكوّنها التنظيمات المدنية والديمقراطية التي برزت خلال الأعوام العشرة الماضية، ترسم سياسات تغطي جميع جوانب الواقع، تتضمن خيارات صريحة.
– لا بدَّ من تحوّل في الساحة الوطنية، يحقق هدفين رئيسيين: أولهما، توحيد القوى الميدانية بجميع فئاتها وأصنافها، عدا تلك التي ترفض هدفي الثورة: الحرية والدولة الديمقراطية. وثانيهما، توافق المعارضة السياسية على حل سياسي يفضي إلى هيئة حاكمة انتقالية تمهد لمرحلة التحوّل الديمقراطي.
ولكن، ليس المطلوب، اليوم، تنظيماً جديداً، يكرر مثالب وأخطاء تنظيمات المجلس الوطني والائتلاف، ويشجع على مزيد من الانقسام والتناحر والتنازع على القيادة والمناصب والمحاصصة، إنما المطلوب فريق من قيادات المعارضة وأصحاب الخبرة والكفاءة والمصداقية، عابر للتشكيلات القائمة، وبالتالي، مكمِّل وموحِّد لها، وليس نافياً ومناقضاً، يضع خطة للعمل، ويباشر في تنفيذ برنامج واضح ومتفق عليه للخلاص الوطني، تحت إشراف الرأي العام السوري ومراقبته.
يحتاج السوريون اليوم للتوافق على سردية واضحة ومتكاملة للانتقال السياسي المنشود، على ضوء المعطيات الواقعية الحالية، التي تقوم على البحث عن كيفية إيقاف محاولات تعويم النظام، وتحويل مساعي الأطراف الدولية والإقليمية إلى عوامل قوة من أجل إنجاز العمل في اتجاه التغيير المطلوب.
مما يتطلب سياسات جديدة، تقوم على توحيد الصف، والعمل على تجميع السوريين من جديد، وتوسيع دائرة مشاركتهم وانخراطهم في نشاطات السياسة الهادفة إلى تقريب ساعة الخلاص. كما يحتاج إلى تنظيم أفضل للطاقات والجهود، وتفعيل للجاليات السورية في كل مكان، وتجديد للخطاب السياسي والإعلامي، بحيث تكون الثورة بالفعل لكل السوريين، ولحماية أرواحهم ومصالحهم، والخروج بخطة عمل واضحة، تهدف إلى استعادة جزء من المبادرة المفقودة، وإعادة تعريف الأهداف المرحلية والبعيدة، وحل المشكلات الثلاث الكبرى العالقة: مشكلة القيادة، واستقلال الموارد التي لا قرار شبه مستقل من دونها، وتعزيز وطنية القرار.
ولأنّ الاستبداد والتسلط بنية وليس مجرد فرد أو نظام، فإنه ما لم يهتدِ السوريون إلى أنّ تأسيس الانتقال الديمقراطي ينبغي أن يرتكز على ضمان الحريات الشخصية والعامة، وتداول السلطة، والحريات الدينية والسياسية للمواطنين، وإبعاد الدين عن أن يكون “كهنوتاً سياسياً” ومادة للدعاية الانتخابية والحزبية، فإذا لم تتوجه سورية نحو الخيارات السابقة ستبقى بنية الاستبداد قائمة مهما تنوعت أشكاله. وبالتالي فإنّ نجاح الثورة السورية في تحقيق أهدافها لا يقاس – فقط – بقدرتها على الإطاحة بنظام الاستبداد بقدر ما يقاس بقدرتها على إقامة نظام بديل لذلك الذي قامت من أجل إسقاطه.
ومن خلال استجلاء ملامح خبرة مجهضة خاضتها حركات التغيير الديمقراطي في العالم، يمكن التوقف أمام عدد من الدروس المستفادة، ومنها:
(1) التخلص من وهم التغيير السياسي السريع، فمع أنّ هناك فرصاً تدفع في اتجاه التحوّل الديمقراطي، إلا أنها تحتاج إلى عمل تراكمي متواصل.
(2) التخلص من وهم أنّ التغيير سيحمل حتماً الديمقراطية، فليس ثمة ضمان أن يؤدي التغيير السياسي حتماً إلى تحقيق الديمقراطية.
إنّ العبور من الاستبداد إلى الديمقراطية لا يعني تغيير الحاكم، أو وجوه الحاشية، أو استبدال عصابة بجماعة، وجماعة بعصابة. التغيير ليس صناديق انتخابات فحسب، بقدر ما هو تفكيك بنية استبداد حاكمة، وهذا لن يتم بمجرد تنظيف الواجهات بينما يبقى العفن يحتل البيت، ويعيد إنتاج المستبد كل مرة بوجه جديد.
إنّ خذلان المجتمع الدولي للشعب السوري، ونكرانه لمبادئ الشرعة العالمية لحقوق الإنسان، وتنصّله من واجباته في حماية المدنيين السوريين، من الموت والدمار في البراميل المتفجرة والسلاح الكيماوي المحرّم دولياً، إضافة إلى معاناة اللاجئين منهم في بعض دول اللجوء، جعلهم يدركون أنّ حقوق الإنسان السوري أضحت موضوعاً في السياسات الإقليمية والدولية، أي مجالاً إضافياً تتفاعل من خلاله الدول طبقاً لعلاقات القوة والمصلحة وتقاسم النفوذ. ما يعكس ازدواجية معايير المجتمع الدولي، والتلاعب بالحقوق الإنسانية، لتحقيق مصالح أنانية للدول المؤثرة في المسألة السورية.
وبالرغم من خذلان المجتمع الدولي من المؤكّد أنّ تجسيد حقوق الإنسان في سورية بعد إنجاز عملية الانتقال السياسي، لن تظهر نتائجه إلا بضمان تقريرها في مقدمة الدستور القادم، باعتبارها مبادئ محصنة، غير قابلة للإلغاء في أية دساتير لاحقة. مما يستوجب المعالجة الجدية لتفعيل الممارسة الفعلية لحقوق الإنسان، من خلال التعاطي المجدي مع الإشكاليات التالية: إدراج أحكام الشرعة العالمية لحقوق الإنسان في النظام القانوني لسورية ما بعد التغيير، بحيث تكون ملزمة، وإمكانية إثارة أحكام الشرعة العالمية أمام القضاء السوري.
الرهان هو أن نتغيّر في ضوء المتغيّرات، فكراً وعملاً، رؤيةً ومنهجاً، سياسةً واستراتيجيةً، بحيث نتغيّر به عما نحن عليه، لكي نحوّل الواقع. وذلك يتوقف على قدرتنا على تشغيل عقولنا المصادَرة وصرف طاقاتنا المشلولة واستغلال مواردنا المنهوبة بصورة مثمرة، فعّالة وراهنة، بما نخلقه من الوقائع أو نحققه من الإنجازات أو نحدثه من التحولات في غير مجال من مجالات الحياة.
وعليه فإنّ طموحات الشعب السوري للحرية والكرامة تعني بالضرورة كسب المعركة ضد التأخر السياسي بكل أشكاله، ذلك أنّ الإرادة السياسية لبناء دولة الحق والقانون هي “المتغيّر المستقل” الذي يقود وراءه مجموعة كبيرة من المتغيّرات التابعة في جوانب الحياة كافة.
وربما يكون السؤال الصعب الذي يواجهنا اليوم هو: كيف نعيد المعنى إلى قضايانا ونبني حداثتنا ونثبت الأمل بدل اليأس، وأن نبدأ التفكير بأقل ما يمكن من الانفعال وأكثر ما يمكن من العقل لتحديد معالم مشروع الجمهورية السورية الثالثة؟
إذ يمنح التاريخ للأمم لحظات حاسمة من حياتها حتى تقف أمام الحقائق العارية لاستخلاص الدروس الكبرى لمواصلة البقاء، فإننا أمام لحظة فاصلة يتحتم فيها على السوريين أن يحسنوا استشراف ما هو متوقع ومحتمل، بعيداً عن التمنّي والرجاء، وبعيداً عن الاستغراق في الأوهام.
المصدر: مجلة أوراق