حملت الثورة الفرنسية عام 1789 معها الأفكار العَلمانية , فالطبقة الحاكمة كانت تتمثل بتحالف قوى ثلاثة هي المؤسسة الملكية ذات التاريخ العريق وطبقة النبلاء الذين يمسكون بالقوة العسكرية مقابل امتيازاتهم كملاك للأرض , والمؤسسة الدينية الكنسية التي تمنح السلطة الملكية الشرعية وتعطيها الحق الالهي المقدس أمام الشعب ضمن تقاليد ذات جذور تاريخية- دينية تمتد حتى الامبراطورية الرومانية المقدسة التي أسسها شارلمان حوالي العام 800 للميلاد وشملت أراضي ألمانيا وفرنسا كوريثة للامبراطورية البيزنطية في وسط وشمال أوربة . ولأجل هدم سلطة الطبقة الحاكمة كان لابد من هدم أذرعها الثلاثة معا , هكذا شنت الثورة الفرنسية حملة عنيفة ضد الملكية توجت بقطع رأس الملك لويس السادس عشر وزوجته ماري انطوانيت , وضد طبقة النبلاء ورجال الدين أيضا . ضمن تلك الحاضنة تشكلت العلمانية الفرنسية معادية للكنيسة وانتشر تأثيرها الفكري لاحقا في أوربة بالتدريج . لكن انكلترا لم تتأثر كثيرا بالعلمانية الفرنسية , بل طورت شكلا آخر من العلمانية استند إلى الاصلاح البروتستانتي وتميز بالتسامح مع الأديان مع الحد من نفوذ رجال الدين في السياسة . حملت الثورة البلشفية الروسية معها رياح العلمانية المستمدة من الثورة الفرنسية , وقد كان ذلك في أحد الأوجه ردا على اتحاد الملكية القيصرية المطلقة مع المؤسسة الكنسية رغم أن الثورة البورجوازية التي سبقتها عام 1905 قد بدأت التحول نحو الملكية الدستورية والحد من سلطة الكنيسة لكنها كانت أضعف من الوقوف بوجه المد الثوري الذي قادته الثورة البلشفية وانتهى بانتصارها الكاسح عام 1917 . على النقيض من طابعها الانساني التحرري في الحقل الاقتصادي فقد شن الحكم البلشفي حملات عنيفة ضد التدين وصلت إلى ملاحقة رجال الدين واضطهادهم واغلاق الكنائس والمساجد وتحريم كل مظاهر التدين بالقوة والعنف السلطويين . في تركيا وعقب الحرب العالمية الأولى وصعود مصطفى كمال للسلطة عام 1923 فقد تم تأسيس الجمهورية التركية وفق مفهومين رئيسيين القومية المستمدة من القوميات الأوربية والعلمانية المستمدة من علمانية الثورة الفرنسية واعتبرت العلمانية دين الدولة الجديد الذي يتوجب عليه ازاحة الأديان الأخرى من الوجود . جرى تطبيق العلمانية في تركيا وفق أكثر الأشكال قسوة من فوق باستخدام كل القوى المتاحة للدولة , وأجبرت النساء على خلع الحجاب بالقوة والعنف , وأغلقت معظم المساجد ووضعت تحت المراقبة , وكانت هناك فرق للتفتيش في المدارس عن أي مظهر لتعليم الدين الاسلامي أو القرآن تحت طائلة العقوبة . أعيدت كتابة التاريخ التركي , وتم التركيز على مساوىء الدولة العثمانية , والتاريخ المستقل للقومية التركية , وبذلت الجهود لقطع كل الروابط مع الاسلام والعرب , مقابل افساح المجال للثقافة الغربية . بدأت العلمانية الأتاتوركية تتخلخل مع تقدم المفاهيم الديمقراطية , وبرز ذلك حين تم كسر احتكار السلطة من قبل حزب الشعب الجمهوري حزب أتاتورك الذي كان قائدا وحيدا للدولة والمجتمع شأنه في ذلك شأن الأحزاب الديكتاتورية والفاشية في الاتحاد السوفييتي وفي ألمانيا النازية وبدأت الحياة السياسية تأخذ طريقها للوجود مع ظهور أحزاب أخرى واعتماد الانتخابات البرلمانية اعتبارا من عام 1950 ومنذ ذلك الحين والعلمانية الأتاتوركية تتراجع خطوة بعد خطوة . ليست أزمة العلمانية الأتاتوركية مرتبطة فقط بصعود تيارات الاسلام السياسي منذ بداية الثمانينات من القرن الماضي بدءا من حزب الرفاه بقيادة نجم الدين أربكان ثم حزب الفضيلة وانتهاء بحزب العدالة والتنمية بقيادة أردوغان لكنها مرتبطة بصورة أعمق بتجذر المفاهيم الديمقراطية في تركيا والعالم بعد أن شملت الديمقراطية كل أوربة وامتدت إلى أمريكا الجنوبية ثم آسيا وأفريقيا وشيئا فشيئا تصبح الدول الديكتاتورية جزرا معزولة في العالم . ومع شمول الديمقراطية السياسية أوربة وأجزاء كبيرة من العالم صعدت معها مفاهيم مثل حقوق الانسان والحريات العامة والخاصة , ومن الواضح أن تلك المفاهيم على تناقض مع أية علمانية تريد فرض أفكار معادية للدين بالقوة والاكراه على الشعوب . ويتضح الفارق بين العلمانية الأتاتوركية التي في طريقها للاندثار والعلمانية الديمقراطية في مناخ التسامح الديني للدولة في دول مثل بريطانيا والولايات المتحدة حيث يعتبر الحجاب مسألة حرية شخصية على سبيل المثال , بينما لازالت فرنسا- الدولة تتأثر بميراث العلمانية للثورة الفرنسية وتتردد في اعتبار الحجاب مسألة حرية شخصية . وفي تركيا مازالت بقايا العلمانية الأتاتوركية تصارع في محاولة ميئوس منها لاستعادة أشكالها القديمة حتى وإن ظهرت بلباس فاشي وعنصري مناقض للعصر . هكذا يتبلور اليوم الفارق بين علمانية فاشية تناسب الديكتاتوريات البائدة وعلمانية ديمقراطية تقف عند حدود تكريس مبدأ المواطنة المتساوية في الحقوق والواجبات تجاه المواطنين بغض النظر عن معتقداتهم الدينية وضمان حرية المعتقد وممارسة العبادات للجميع والدفاع عنهم ضد أي نزعات تمييزية أو فاشية وعدم استخدام الدين غطاء للاستبداد أو التعصب القومي التوسعي كما هو الحال في مثال ايران .